المثقفون الإيرانيون والغرب.. ازدواجية «نحن» و«هم»

بوروجردي يتناول العلاقة بين الطرفين منذ الثورة الإيرانية

المؤلف: مهرزاد بوروجردي
المؤلف: مهرزاد بوروجردي
TT

المثقفون الإيرانيون والغرب.. ازدواجية «نحن» و«هم»

المؤلف: مهرزاد بوروجردي
المؤلف: مهرزاد بوروجردي

المثقفون من الطبقة الوسطى الذين شهدوا الانفلات الاجتماعي في المجتمع استخدموا النزعة المحلية كسلاح، بينما استغله العديدي الكثير من المثقفين المنتمين إلى السلطة لتكريس هيمنتها وتسويغها.
يعد كتاب «المثقفون الإيرانيون والغرب: المصير الفاشل للنزعة المحلية» لمهرزاد بوروجردي، الذي ترجمه جمشيد شيرازي، وصدرت حديثا طبعته السادسة، من الإنتاجات الأولى التي تتناول قضية المثقفين الذين قاموا بأداء دور فاعل في الحياة الفكرية والمعرفية في إيران خلال نصف القرن الأخير، والذين تأثروا بالثقافة الغربية.
والكتاب، الذي أصدرته دار فرزان للنشر، هو أساسا أطروحة دكتوراه للمؤلف الذي يتولى حاليا منصب الأستاذ المساعد في جامعة سيراكيوز بولاية نيويورك، وصدر الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية في 1996. وصدر في إيران باللغة الفارسية 1998.
والسؤال الأهم الذي يطرحه بوروجردي في الكتاب هو كيفية مقاربة الثورة الإسلامية في 1979. وهو يرى أن المحللين الذين يتناولون هذه الثورة ينتمون إلى تيارين أساسيين، إذ يعتقد التيار الأول أن «قيام الثورة كانت نتيجة لعوامل اجتماعية واقتصادية ساهمت في عملية تنموية متسارعة وغير متوازنة». وأما التيار الثاني فيرى بأن «العوامل الثقافية، والطموحات الشعبية خاصة نمو مضطرد للإسلام السياسي، ويأس الإيرانيين من الغرب دفعهم للبحث عن هوية ثقافية جديدة».
ولا يسعى بوروجردي إلى البحث عن نقاط مشتركة بين هذين التيارين، بل يحاول أن يمهد الطريق لهما للتفاوض وذلك من خلال إظهار النواقص التي يعاني كل تيار على حده. وليحقق ذلك، يراجع الدور الذي لعبه المثقفون من فترة الأربعينات حتى السبعينات، وكذلك يسعى إلى مراجعة «تأثير الثقافة والحضارة الغربية، والإرث الإيراني قبل الإسلام، وتقييم المثقفين عنهما».
والدراسات التي يتناولها بوروجردي تقوم على مفاهيم «الغيرية»، و«الاستشراق»، و«الاستشراق المقلوب»، و«المحلية». وتستند عملية إعادة بناء الهوية التي يسعى إليها إلى نظريات مفكرين عدة مثل ميشال فوكو، الفيلسوف الفرنسي، والمفكرين، الفلسطيني إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني، والسوري صادق جلال العظم. ويستنتج الكاتب أن النظرة المزدوجة التي يتبناها المثقفون الإيرانيون تقوم على أساس النظرة المختلفة للشرق والغرب لمفهوم تعريف الكون.
ويقول بوروجردي أن المثقفين الإيرانيين ورثوا ازدواجية النظرة هذه من المستشرقين الغربيين.
ومن المعروف، إن فوكو وإدوارد سعيد أظهرا أن الغرب اعتمد خطاب الاختلاف واستخدم أداة الاستشراق للهيمنة على الشرق بهدف معرفة الذات، وكسب الهوية، بينما يرى بوروجردي أن الاستشراق المقلوب هو خطاب يعتمده المثقفون والقيادات السياسية في الشرق لتكوين الهوية الحقيقية. ويستخدم هذا الأسلوب من صناعات الهوية بهدف إبطال مفعول الرواية الغربية عن الشرق. ولا يتطرق الاستشراق المقلوب إلى تفاصيل نظرية الاستشراق فحسب بل ينتزع الكثير من أسس معرفة العالم ومعرفة الذات من نظرية الاستشراق.
ويستنتج المؤلف بعد تبيين المفهومين المذكورين أن «الاستشراق المقلوب بين السياسيين والمثقفين في العالم الثالث يدل على الحضور اللافت والشامل والمغري للنزعة المحلية». والحقيقة، أن الكتاب يتمحور حول ملامح هذه النزعة المحلية. فهو يقول: «إن النزعة المحلية تنبثق من التعاليم التي تتطلب استمرار التقاليد والمعتقدات والقيم الثقافية المحلية، وعن معتقدات عميقة تدعو إلى الصمود أمام ثقافة الآخرين، وتقدير الهوية القومية الأصيلة للفرد، والتشبث بأمل العودة إلى التقاليد الثقافية المحلية».
ويعتقد بوروجردي أن المثقفين من الطبقة الوسطى الذين شهدوا الانفلات الاجتماعي في المجتمع استخدموا النزعة المحلية كسلاح، بينما استغله العديدي الكثير من المثقفين المنتمين إلى السلطة لتكريس هيمنتها وتسويغها.
في الفصل الثاني من الكتاب يتطرق بوروجردي إلى تبيين مكانة ومهام المثقفين، فالمثقفون في الشرق الأوسط حاليا يقدمون، كما يقول، قراءات حول عوامل التغيير والتطور، وتحليلات حول مسار الأحداث والتقلبات العالمية التي تؤثر على مجتمعاتهم. وهنا يصنف الكاتب المثقفين إلى فئتين: أصحاب الرأي الملتزمون، والخبراء التقنيون والإداريون. وفيما يخص إيران، يعتقد المؤلف أن هناك كثيرا من المثقفين ينتمون إلى الفئة الأولى، لكن عدد الذين ينتمون إلى الفئة الثانية قليل جدا للأسباب التالية: عدم التحدث بلغتين، وعدم امتلاك الثقافة المزدوجة، وتأخر المثقفين الإيرانيين في التعرف على الفلسفة الغربية، وضعفهم في نشر الفكر التنويري، وأخيرا التأخر في ترجمة الأعمال الأوروبية المختلفة.
ويتناول الفصل التالي من الكتاب خطاب المستغربين الذي انطلق بنشر كتاب «الاستغراب» المثير للجدل لجلال آل أحمد بعد الحرب العالمية الثانية في إيران، ويشير هنا إلى آراء فخر الدين شادمان، وأحمد فرديد، وجلال آل أحمد.
ويعود سبب اختيار بوروجردي لآراء الكتاب المذكورين لكونهم أصحاب آراء متميزة بشأن خطاب الاستغراب، والاستشراق، ومعرفة الغرب، وهم يمثلون الآراء، والانتماءات السياسية المختلفة. ويمكن اعتبار آراء هؤلاء الكتاب بأنها تدل على النظرة السائدة للمثقفين الإيرانيين بشأن التعامل مع الغرب في الخمسينات حتى السبعينات.
ويشير الفصل الرابع والخامس إلى أن ما حدث في إيران عام 1979 كان أكثر تعقيدا من نظريات منظري الحداثة. ويراجع هذا القسم من الكتاب الآراء، والأعمال، والمشاريع السياسية لرجال الدين والمثقفين الدينيين، ويستنتج بأن الطبقة الدينية الشعبية اتسعت خلال هذه الفترة، حيث كانت أكثر إبداعا، وشعبية من نظيرتها غير الدينية. فقد اتخذت الطبقة الدينية الشعبية من تسييس الإسلام نهجا لها، واعتمدته كأحد الأركان الرئيسية لأنشطتها السياسية، فتحول الإسلام السياسي إلى آيديولوجية روجت لفكرة إلى الترويج لهذه الفكرة بأن الغرب، خارجيا، والقوى غير الدينية، داخليا، هي غريبة عن الشعب ومعادية له..
ويعزو بوروجردي أسباب وصول رجال الدين إلى السلطة في فبراير (شباط) 1979 إلى التفوق في أمور كثيرة منها «الاستقلالية المالية عن السلطة، وشبكات التواصل القوية، ووجود وعاظ يتمتعون بالخبرة، وكثرة المراكز القانونية لعقد الاجتماعات (المساجد، والحوزات الدينية، والنقابات الإسلامية، والمؤسسات الخيرية)، واحتفالات دينية كثيرة، والتمتع بأساطير وشخصيات تاريخية، والشعارات الشعبوية، ودعم أصحاب البازار المالي، والقيادة المركزية، وامتلاك مشروع عمل سياسي، والمساندة الحكومية من أجل مواجهة القوى اليسارية».
ويقول بوروجردي إن «المثقفين الدينيين واجهوا ثلاثة تحديات مهمة وهي: «المنافسة مع آراء المثقفين حول المجتمع والحداثة، وكيفية التعامل مع رجال الدين في إعادة قراءة المصادر والإرث الديني، ومواجهة الأهداف الغربية المختلفة»، وكذلك ظهر مثقفون من أصحاب النظرة غير الدينية مثل أبو الحسن جليلي، ومحمد علي إسلامي ندوشن، وجمشيد بهنام، وحميد عنايت، وإحسان نراقي، وداريوش شايغان، الذين أجروا دراسات حول قضية التصادم بين الشرق والغرب، وقدموا حلولا بشأن المشاكل الناجمة عن هذا التعارض بينهما.
ويحاول بوروجردي في النهاية أن يقدم إجابة على هيمنة ازدواجية الرأي في نظرة المثقفين الإيرانيين للغرب، هذه الازدواجية التي تفصل بين «نحن» و«هم»، غير أن إجابة المؤلف تبقى مستترة في خفايا ازدواجية الشرق والغرب، وتضاد التقليد والحداثة، والنزعة المحلية والاستشراق.

* اعداد«الشرق الأوسط» فارسي {شرق بارسي}



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.