فرنسا ترفض اقتراحاً ألمانياً للتخلي عن مقعدها الدائم في مجلس الأمن

«نعم لتنسيق المواقف مع ألمانيا، وكذلك مع بلدان الاتحاد الأوروبي. لكن باريس لن تتخلى عن مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي» الذي حصلت عليه منذ العام 1945 مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وإنشاء منظمة الأمم المتحدة التي حلت محل عصبة الأمم. ويفيد مؤرخو تلك الحقبة أن الرئيس الأسبق الجنرال ديغول، بطل فرنسا الحرة، جاهد طويلاً لكي «تعترف» الولايات المتحدة وروسيا أن تكون بلاده التي خضعت لـ5 سنوات للاحتلال الألماني، دولة كبرى لها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، المناطة به مبدئياً مهمة الحفاظ على السلم العالمي.
تقول مصادر فرنسية إن باريس «فوجئت» بالدعوة التي أطلقتها نائب المستشارة الألمانية ووزير ماليتها أولاف شولتز الذي ينتمي إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، شريك اليمين الألماني في الحكومة؛ خصوصاً أن شولتز ليس شخصية بارزة ولم يعرف عنه اهتمامه بالسياسة الخارجية أو الدولية. لكنه طامح إلى الوصول إلى رئاسة حزبه الذي تديره حالياً أندريا ناهلس التي بدورها تعاني من ضعف مواقعها داخله. ولذا، فإن باريس ترى أن ما جاء على لسان نائب المستشارة يراد به أن يصيب أكثر من هدف في وقت واحد.
ما قاله المسؤول الألماني في إطار خطاب أول من أمس في جامعة هومبولت في برلين هو الدعوة لـ«انتقال مقعد فرنسا الدائم في مجلس الأمن للاتحاد الأوروبي». وكترضية لفرنسا، اقترح شولتز أن تمنح باريس بشكل دائم منصب ممثل الاتحاد الأوروبي لدى الأمم المتحدة.
يرى الجانب الفرنسي أن المسؤول الألماني الذي يسعى لـ«تظهير» نفسه والاستفادة من ضعف المستشارة الألمانية التي ستترك قريباً جداً رئاسة حزبها (مع الاحتفاظ بموقعها على رأس الحكومة حتى نهاية ولايتها) يلعب في الواقع على عدة عوامل. الأول؛ الخروج من دائرة المسائل المالية وحدها العائدة للحقيبة التي يحتلها، والثاني؛ «الرد» على مقترحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي ما فتئ يقدم الاقتراحات، الواحد تلو الآخر، من أجل إعطاء دفعة جديدة للاتحاد الأوروبي، وآخرها اقتراحه إنشاء «جيش أوروبي حقيقي». وهذا المقترح تلقّفته المستشارة ميركل، لكنها خفضت منذ البداية سقف طموحاته بحيث إنها أدرجت قيامه «إلى جانب الحلف الأطلسي» وليس بديلاً عنه. والثالث «حشر» باريس التي ما فتئت بمناسبة أو من غير مناسبة، تذكّر بالحاجة إلى تغيير صيغة مجلس الأمن الذي تعكس تركيبته نتائج الحرب العالمية الثانية حيث الدول الخمس دائمة العضوية هي الدول الكبرى التي انتصرت فيها.
لم يتأخر رد باريس الرافض للمقترح الألماني الذي جاء على مرحلتين؛ الأولى من خلال تغريدة للسفير الفرنسي في واشنطن جيرار أرو، الذي سبق له أن شغل منصب سفير بلاده في الأمم المتحدة، وبالتالي له معرفة عميقة بقوانينها وآليات عملها. وكتب أرو أنه «من المستحيل قانونياً (تحقيق المطلب الألماني) لأنه يخالف ميثاق الأمم المتحدة، وتعديله سيكون أيضاً أمراً مستحيلاً».
وأمس، ردت وزارة الخارجية على المقترح الألماني في إطار المؤتمر الصحافي الإلكتروني. وجاء على لسان الناطقة باسم الوزارة أن باريس «تتحمل كامل مسؤولياتها كعضو دائم في مجلس الأمن»، وأنها «تأخذ بعين الاعتبار، حين التعبير عن مواقفها الوطنية، كل المواقف الأوروبية وتتشارك بشكل فاعل مع ألمانيا وبقية البلدان الأوروبية في تنسيق موقف الاتحاد». وبعد أن ذكّرت الخارجية بأن فرنسا «تحبذ توسيع مجلس الأمن لإدخال ليس فقط ألمانيا وإنما أيضا اليابان (وكلاهما خسرا الحرب) والبرازيل والهند ودولتين أفريقيتين»، جاء التعبير عن الرفض دبلوماسياً، إذ قالت الخارجية ما حرفيته: «نحن مستعدون لتنسيق المواقف مع ألمانيا في إطار الشراكة التي تجمعنا ونتمسك بها (ولكن) في إطار احترام ميثاقها» الذي لا يجيز الاستجابة لمطلب برلين. وانتخبت ألمانيا عن مجموعة أوروبا الغربية عضواً غير دائم العضوية للعامين 2019 و2020.
ثمة أمران تتعين الإشارة إليهما. الأول؛ أن شولتز لم يخرج مقترحه «من قبعته»، بل جل ما قام به وهو ما أشارت إليه صحيفة «لو موند» في طبعتها ليوم أمس، موجود في البرنامج الحكومي المشترك الذي وقّع عليه شريكا الحكم في شهر فبراير (شباط) الماضي بعد مفاوضات شاقة. والثاني؛ أن شولتز نفسه لم يكن يتوقع تجاوباً فرنسياً لمقترح سيجرد باريس من أحد مقومات قوتها الدبلوماسية والسياسية وقدرتها على التأثير في شؤون العالم من خلال مقعدها الدائم وتمتعها بحق الفيتو الذي لم تلجأ إليه كثيراً منذ انضمامها إلى نادي القوى الكبرى.
وتفيد وثائق مجلس الأمن أن حق النقض استُخدم 265 مرة منذ العام 1945، وأن فرنسا لم تلجأ إليه إطلاقاً منذ ما لا يقل عن 25 عاماً. وفي خطابه في جامعة هومبولت، أشار شولتز إلى أنه «يعي تماماً» أن العمل بمقترحه «يتطلب جهوداً واجباً بذلها لإقناع باريس». وتفيد وثيقة رسمية صادرة عن بعثة فرنسا لدى الأمم المتحدة أن باريس تريد «تأطير» استخدام الفيتو، وأن الرئيس السابق فرنسوا هولاند اقترح في العام 2013 على الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تمتنع الدول الخمس الكبرى عن اللجوء إلى الفيتو في حال حصول مجازر جماعية أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب على مستويات واسعة. لكن هذا الاقتراح، على ما يبدو، طواه النسيان. يبقى أن هناك عقبة تعيق تنفيذ المقترح الألماني كأداة، وهي عدم وجود سياسة خارجية ودفاعية أوروبية موحدة. إذ كيف يمكن التعويل على تمثيل أوروبي موحد في مجلس الأمن إذا كان الأوروبيون غير قادرين على التوافق على مواقف موحدة، كما تبين التطورات ذلك في كل مرة تجد أوروبا نفسها بمواجهة أزمة ما؟