في أواخر سبتمبر (أيلول) أعلنت البحرية الأوكرانية أن سفينتين من سفنها أبحرتا بنجاح من البحر الأسود إلى بحر آزوف، عبر المياه التي يسيطر عليها "المعتدي" الروسي ومارستا حقوق أوكرانيا البحرية بموجب القانون الدولي. وفيما رأى الإعلام الأوكراني في هذه الخطوة إنجازاً و"عملية رائعة ومحفوفة بالأخطار تمّت أمام أعين العدو"، سخر الاعلام الروسي من السفن "الصدئة" التي "زحفت" قبالة شبه جزيرة القرم.
الأحد 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 كان مختلفاً: حاولت ثلاث سفن أوكرانية أخرى القيام بالرحلة نفسها، لكن هذه المرة اعترض خفر السواحل الروسي الأوكرانيين، وانتهت الرحلة باحتجاز السفن الثلاث بعد إطلاق النار عليها وإصابة بعض بحارتها وتوقيفهم.
علا الصوت الأوكراني اعتراضاً، فردّت السلطات الروسية أنه على عكس ما حدث في سبتمبر، لم تطلب السفن الأوكرانية الإذن للمرور في معبر كيرتش، ثم تجاهلت الأوامر بالتوقف.
هل المسألة مسألة حدود بحرية، تعقّدت أكثر بعد ضم روسيا – أو "استعادة" كما تقول هي – شبه جزيرة القرم عام 2014؟ هنا لا بد من التذكير بأن أوكرانيا تعيش تحولات كبرى لم تتوقف منذ إعلانها الاستقلال في 24 أغسطس (آب) 1991. فانهيار الاتحاد السوفياتي، حرر هذه الأرض الشاسعة التي تشكل اليوم الدولة الأكبر مساحةً بين الدول التي تقع كل أراضيها ضمن القارة الأوروبية، وأطلقها في عالم التجاذبات بين الشرق والغرب، في ظل فقر واسع ونمو اقتصادي هزيل، فالدخل الفردي السنوي هو في حدود 8600 دولار أميركي، والنمو الاقتصادي أقرب إلى الصفر في المائة منذ العام 2010.
بعد الاستقلال شاءت أوكرانيا أن تعلن الحياد، ومع ذلك دخلت في شراكة عسكرية مع روسيا ودول أخرى ولدت من رحم الاتحاد السوفياتي. وفي العام 1994، عقدت اتفاق شراكة عسكرية مع حلف شمال الأطلسي. والأمران يتناقضان بالطبع مع مفهوم الحياد، بل إنهما يجسّدان التنازع الداخلي من جهة، والاستقطاب الخارجي من جهة أخرى. وهذه وصفة "فعالة" جدا لتخريب الأوطان.
في العام 2013، حاولت السلطة في أوكرانيا الاستدارة بقوة، فقررت حكومة الرئيس فيكتور يانوكوفيتش تعليق اتفاق الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي والسعي إلى إقامة علاقات اقتصادية أوثق مع روسيا. عندها انطلقت موجة من التظاهرات الاحتجاجية والاحتجاجات المعروفة باسم "يوروميدان"، أي الميدان الأوروبي، والتي تصاعدت لتصبح الثورة الأوكرانية عام 2014 وتطيح يانوكوفيتش ليحل محله "الغربي" بيترو بوروشينكو.
هنا أخذ الصراع الداخلي – الخارجي منحى عسكريا، مع اندلاع حرب دونباس، أو شرق أوكرانيا الانفصالي ذي الغالبية الروسية، ثم ضم روسيا لشبه جزيرة القرم.
*في جوهر الصراع
كيفما قلّبنا أوجه هذا الصراع، نرى في الأفق مواجهة بين الغرب والشرق مسرحها مرة أخرى أوروبا. فكما كانت حرب جورجيا صيف 2008 مواجهة، وإن خاطفة، بين الطرفين، فإن أوكرانيا تشكل مسرحا آخر لها. لكنه مسرح أكبر وأخطر، وربما استفاد اللاعبون من الاختبار في جورجيا، لاختيار أوراقهم بشكل أفضل.
والمواجهة أكبر وأخطر لأن أوكرانيا تقع في عمق البيت الروسي، بل إن اسمها وفق بعض التفسيرات التاريخية يعني "الحدود". وهي كما أسلفنا شاسعة مساحتها أكثر من 603 آلاف كيلومتر مربع، ولها حدود مع سبع دول: بولندا، سلوفاكيا، المجر، رومانيا، مولدوفا، روسيا البيضاء، وروسيا. أما منفذها البحري فهو الكيان المائي المكوّن من بحر آزوف الصغير المتصل بالبحر الأسود عبر مضيق كيرتش. ومن هنا الأهمية الاستراتيجية لشبه جزيرة القرم والمنطقة المحيطة.
يقول الدكتور آدم إبرهارد من مركز الدراسات الشرقية في بولندا إن الموقف الروسي المتصلب من أوكرانيا هو بالنسبة إلى الرئيس فلاديمير بوتين خطوة دفاعية ضد التقدم الجيوبوليتيكي الغربي في اتجاه العمق الروسي. ويلفت الخبير في هذا الإطار إلى أن بوتين يرى حتى في "الربيع العربي" عملية أميركية لإخراج روسيا من المنطقة العربية. أما تدخله في سوريا فلا يحتاج إلى تفسير وتحليل. لذلك يغدو مفهوماً التصرف الروسي في الحادث الأخير وفي مسألة ضم القرم، ودعم "جمهوريتي" دونيتسك ولوغانسك في أوكرانيا.
ويضيف إبرهارد أن بوتين يعتبر أن الغرب هو في أزمة اقتصادية وأخلاقية وسياسية. وقد أعطته إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما فرصة لتغيير الوضع الراهن وقلب ميزان القوى في أوروبا. ولا تزال روسيا تعتقد أن لديها الآن فرصة فريدة وتاريخية لشنّ هجوم مضاد واستعادة ما خسرته عندما كانت ضعيفة.
ويقول عدد من المحللين إن بوتين يريد تدمير واقع ما بعد الحرب الباردة والقضاء على الهيمنة الغربية على النظام الدولي، وليست أوكرانيا سوى مسرح من مسارح "الحرب على ما بعد الحرب الباردة". وقد رسمت لها روسيا "خطوطاً حمراء" لن تسمح للغرب بتخطيها.
والمؤكد أن بحر آزوف والبحر الأسود خطّان أحمران لموسكو. ولا ننسى أن بوتين دشّن شخصياً في مايو (أيار) الماضي جسرا فوق مضيق كيرتش يمتد نحو 19 كيلومترا ويربط القرم بشكل وثيق بالأراضي الروسية.
تقول كييف، من جهتها، إن روسيا تعرقل تصدير الحبوب الأوكرانية من مرفأ ماريوبول على بحر آزوف لتشق طريقها عبر البحر الأسود فالأبيض المتوسط إلى العالم. لذلك يريد الأوكرانيون حلاً لمشكلة الملاحة البحرية. غير أن الحرب ليست السبيل الأمثل لذلك، أولاً لأن القدرة العسكرية الأوكرانية لا تستطيع أن تقف في وجه الدب الروسي لا سيما أن أوكرانيا لم ترث إلا القليل من أسطول البحر الأسود السوفياتي، وثانياً لأن الجبهات الهادئة الآن في شرق أوكرانيا يمكن أن يعاد فتحها في أي لحظة، علماً أن هذا النزاع الذي لا يبرز إلى الواجهة كثيراً حصد أكثر من 10 آلاف قتيل.
تجدر الإشارة هنا إلى أن رد الفعل الغربي حيال التطورات في أوكرانيا ضعيف، لا يتخطى الأطر الكلامية. ومعلوم أن العقوبات لم تليّن حتى الآن موقف موسكو من الصراع في دونباس.
في ظل هذا الوضع، ها هو رئيس أوكرانيا بيترو بوروشينكو يعلن تخوفه من كون روسيا تريد ابتلاع بلاده...
إذا كانت الشهية الروسية لا تصل إلى حد الابتلاع، فإنها مفتوحة بالتأكيد على الرغبة في الإخضاع. وإذا نجح بوتين في هذا الصراع الذي سيطول في إعادة أوكرانيا يوماً إلى الحضن الروسي، فإنه يكون قد وسّع المدى الحيوي الروسي، وسيعمل حتماً على توسيعه أكثر...
إنها قواعد جديدة للعبة شطرنج عالمية تدور على رقعة مختلفة تماماً عن تلك التي تركها انهيار الاتحاد السوفياتي.