برلين... الوجه الفني التوّاق للحرية ومحو قمع الماضي

فن الشارع فيها تعبير عن التمرد... وممارسة لحق سياسي

«الفن البديل» تلحظه هنا في كل مكان عندما تتجول في الشارع وتنقل نظرك بين الأبنية والجدران وحتى القطارات
«الفن البديل» تلحظه هنا في كل مكان عندما تتجول في الشارع وتنقل نظرك بين الأبنية والجدران وحتى القطارات
TT

برلين... الوجه الفني التوّاق للحرية ومحو قمع الماضي

«الفن البديل» تلحظه هنا في كل مكان عندما تتجول في الشارع وتنقل نظرك بين الأبنية والجدران وحتى القطارات
«الفن البديل» تلحظه هنا في كل مكان عندما تتجول في الشارع وتنقل نظرك بين الأبنية والجدران وحتى القطارات

قد تبدو برلين، بجدرانها المليئة بالخربشات العشوائية، للوهلة الأولى «متسخة»، لكنها في الواقع رسومات فنية حوّلت العاصمة الألمانية إلى أشهر مدينة لـ«الفن البديل» أو «فن الشارع» في أوروبا. تختلف هذه المدينة كثيراً عن غيرها من المدن الألمانية. فرغم أنها عاصمة أكبر اقتصاد في أوروبا، هي فقيرة. ورغم أنها عاشت منقسمة أيام الشيوعية، فهي تعد اليوم أكبر مثال للتعايش لاجتذابها ما يزيد على الـ120 جنسية، بينما يعد النشاط السياسي هنا سمة يعيشها السكان يومياً، وإحدى وسائل التعبير عنه هو «الفن البديل».
لا تعاني برلين نقصاً في المتاحف التقليدية، من متحف DDR جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشيوعية) إلى المتحف اليهودي وجزيرة المتاحف... لكن من أراد أن يفهم هذه المدينة المعقدة حقاً، فعليه أن يجول أيضاً في «قلبها النابض» وفي شوارعها الخلفية أحياناً.
«الفن البديل» تلحظه هنا في كل مكان. عندما تتجول في الشارع، وتنقل نظرك بين الأبنية والجدران وحتى القطارات... في منطقتي ميتا وكرويتزبيرغ تجد معارض متخصصة بهذا الفن، قد يكون أشهرها «كوتنهاوس تاشيليس» في شارع أورانينبيرغر في منطقة ميتا. هذا المبنى الضخم الذي استخدمه النازيون مقراً لهم أيام الحرب العالمية الثانية، وبدأ الشيوعيون في هدمه بعد الحرب، يعد اليوم من أكبر وأشهر معارض «فن الشارع» في برلين. يعيش فيه أيضاً فنانون حولوا غرفه إلى ورش للرسم والإبداع.
جدران المبنى من الخارج مليئة بأكملها برسوم الغرافيتي. حتى الدرج الذي يأخذك إلى غرف مختلفة من المبنى يضج بألوان وأشكال ورسائل على اختلافها. الفنانون المقيمون في ورشه استقروا فيه بعد سقوط حائط برلين عام 1989.
المبنى الواقع على ما كان حدود برلين الشرقية والغربية بالقرب من الحائط الفاصل، تحول مهجوراً بعد فترة قصيرة من الحرب العالمية الثانية. ورغم أنه تعرض لضرر قليل أثناء الحرب، فقد قرر الشيوعيون هدمه بعد نصائح مهندسين في السبعينات. وبالفعل دُمّر جزء منه عام 1980، وكان من المقرر أن يدمَّر الجزء الباقي عام 1990. لكن قبل شهرين من التاريخ المقرر لتدميره سقط جدار برلين، وانتقل فنانون من أنحاء المدينة للعيش فيه. وتبين لاحقاً أن المبنى في حالة جيدة، وسُجّل على أنه مبنى تاريخي.
لكن حتى معارض مثل «كونتهاوس تاشيليس» ليست أكثر ما يلخص «الفن البديل» في برلين. بل جولة على الأقدام في الشارع ومراقبة الرسومات على الجدران والأبنية، وبخاصة في المنطقة الممتدة من ألكسندر بلازا حتى كرويتزبيرغ.
في السنوات الأخيرة، نجح عدد من فناني الشارع في ترك بصماتهم في أنحاء برلين. واحد من أشهر هؤلاء مجموعة من 6 شبان يخفون هويتهم، وينشرون توقيعهم 1UP في كل مكان: على أعلى الأبنية، على الجدران وأيضاً على القطارات. التوقيع يعني «وان يونايتد باور» ترجمتها «قوة واحدة موحدة» وتحمل معاني سياسية وإشارات إلى مواجهة العنصرية. ويستعملون رذاذ الطلاء في أعمالهم. وينشر هؤلاء الشبان على «يوتيوب» تفاصيل «عملياتهم» من دون إظهار وجوههم ولا أصواتهم الحقيقية. فالرسم على الحيطان مخالف للقانون، وقد يعرّضهم لغرامات باهظة وحتى السجن. والمثير في عمل هذه المجموعة، مدى استعدادهم لخرق القانون لإيصال فنهم. فهم إلى جانب خرقهم القانون بالرسم في أماكن عامة، يخاطرون بالصعود إلى أعلى الأبنية مستخدمين الخلع والكسر للوصول عبر بيوت مجهورة. وأشهر ما يقومون به، وربما أكثر ما يعرّضهم للخطر، هو الرسم على القطارات. ينتظرون القطار في محطة ما وينتظرون وصوله وفتح الأبواب قبل أن يسندوا باباً بعصا ريثما ينتهون من رسمهم. فالقطار لا يمكنه المغادرة ما دام أحد الأبواب مفتوحاً، لكن هذا أيضاً يعني أن لديهم 3 دقائق لإنهاء عملهم قبل وصول الشرطة.
مجموعة أخرى من الشبان شبيهة بـ1UP، تضم أيضاً 6 شبان يخفون هويتهم. هؤلاء يعرفون بـ«أوبر فريش» يأخذون مخاطر أكبر عبر التدلي على الأبنية، مستخدمين حبالاً تؤمّن لهم الحد الأدنى من السلامة. هم أيضاً لديهم توقيع واحد ينشرونه على الأبنية، وبخاصة في منطقة كرويتزبيرغ، باللونين الأزرق والأحمر، وهو عبارة عن رموز مستوحاة من فن الغرافيتي في ساو باولو بالبرازيل التي تعرف بـ«بيشاسو». الفنانون الذين يستخدمونها هناك يقولون: إنها تعبير عن عدم المساواة المنتشر في البرازيل.
تعمل مجموعة «أوبر فريش» في الليل ويختارون الأبنية العالية للرسم عليها. من «أعمالهم» تعليق دراجات هوائية على أماكن مرتفعة جداً في العاصمة. يعرفون أيضاً بـ«أولاد برلين» وهو اسم فيلم وثائقي أنتج عنهم. وقد ظهروا على ساحة «فن الشارع» في العاصمة الألمانية قبل نحو عقد من الزمن، ويثيرون جدلاً كبيراً بسبب المخاطر التي يأخذونها لنشر رسومهم.
ولعل من أشهر وأقدم أعمال «فن الشارع» في برلين هي جدارية رجل الفضاء في كرويتزبيرغ للفنان البرتغالي فيكتور آش عام 2007. وعلى خلاف فن الغرافيتي الآخر، فإن آش لم يطلِ جداريته هذه سراً، بل كان عملاً منسقاً مع البلدية.
ومثل معظم الأعمال الفنية في برلين، لا يخفي الرسالة السياسية وراءه. فقد اختار آش موقعاً بالقرب من المكان الذي كان حائط برلين يقسم المدينة. واختار رسم رجل فضاء مخفية معالم وجهه وجنسيته، ليعبر عن التسابق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قبل سقوطه، الذي تمثل أيضاً بالسباق إلى الفضاء. لاقت جداريته هذه شهرة عالمية وطبع «رجل الفضاء» على قمصان وقبعات وبات المبنى الذي طلي عليه، واحداً من نقاط جذب السياح.
لكن مع هذا، ليست كل أعمال «فناني الشارع» مدفوعة بأهداف سياسية. بعضهم يعمل بدافع جمالي ولنشر التفاؤل مثل «إل بوشو»، واحد من أشهر فناني الغرافيتي في برلين. هو فنان إسباني واسمه يعني بالإسبانية «الحمار الصغير». هو أيضاً يخفي هويته، لكن يعرَف عنه أنه كان يعيش في مدينة فرانكفورت، وهو نشر أعماله في السابق في عدد من الصحف المعروفة مثل «فرانكفورتر ألمانية».
وعلى خلاف المجموعتين السابقتين، فإن إل بوشو لا يستخدم رذاذ الطلاء، بل يرسم لوحاته مسبقاً على ورق ثم يعلقها ليلاً على حيطان المدينة. هو يعرف بفنان الغرافيتي الرومانسي. رسوماته تحمل معاني الحب والجمال بألوانها الحية والمتفائلة. لكن هذا أيضاً يعني أن الكثير من أعماله تمزق ولا تبقى طويلاً على الجدران.
واحدة من أشهر الرسومات التي تتكرر مع إل باشو هو رسم لـ«لوسي الصغيرة» مع قطتها. الرسمة والفكرة تتغير كل مرة، لكن الموضوع واحد: فتاة صغيرة تبدو لطيفة للوهلة الأولى قبل أن ينتبه الناظر إليها بأن لوسي تحمل معها قطتها دائماً وهي تحاول في كل رسمة أن تتخلص منها بطرق شريرة. استوحى إل باشو قصص لوسي من مسلسل تشيكي في السبعينات.
فنان آخر له حضور قوي في فن الشارع ببرلين، لكن يثير الكثير من الحيرة، هو «مستر 6» لأن عمله واحد: رسم الرقم 6. يقال: إنه رسم ما يقارب المليون رقم 6 في أنحاء برلين. لا أحد يعرف حقيقة أو معنى ما يريد قوله. كل ما يعرف عنه أنه يجول المدينة على دراجته الهوائية ويقضي 6 ساعات يومياً وهو ينشر الرقم 6 أينما استطاع. بعضهم يقول: إنه ربما يكون مجنوناً… آخرون يقولون: إنه كان تلميذاً سيئاً في المدرسة، وإن الرقم 6 قد يكون إشارة إلى علامة 6، وهي أدنى العلامات التي يمكن للطالب في ألمانيا أن يحصل عليها.
أحياناً يتحول فن الشارع في برلين إلى تفاعلي بين الفنانين والمشاهدين أو حتى بين الفنانين أنفسهم. أحد أبرز الأمثلة على ذلك، فنان عرف بـ«صديق ليندا السابق». لقبه هذا استمده من رسومات بدأ ينشرها في أنحاء برلين يدعو فيها ليندا صديقته التي تركته إلى العودة إليه، وفي كل رسمة يبدو أنه يزداد ألماً على فراقها ويأساً من استعادتها. جذبت رسوماته اهتمام فنانين آخرين بدأوا يناشدون ليندا بدورهم العودة إلى صديقها. منهم من صار يكتب لها أن تنساه لأنه يبدو مريضاً بهوسه بها. بعد أشهر اعتذر «صديق ليندا السابق» واعترف بأن لا وجود لليندا، وأنه كان فقط يجري اختباراً على مدى تفاعل فن الشارع.
رغم أن البعض يشتكي من الانتشار العشوائي للرسومات، وبخاصة على الأبنية، فإن هذه الظاهرة لا يبدو أنها ستتوقف. فبلدية برلين لا تملك الموارد الكافية لملاحقة هؤلاء «المخربين» بنظرها، كما أن غياب كاميرات المراقبة على الطرقات يجعل من الصعب جداً ملاحقتهم. ورغم أن نقاش تركيب كاميرات في الشوارع يظهر كل فترة، فإنه معارضيه دائماً يكونون هو الغلبة. برلين ما زالت مدينة متأثرة بماضيها إلى حد بعيد. وسكان أحيائها الشرقية لم ينسوا المخابرات الشيوعية المعروفة بـ«ستازي» التي كانت تستمع لكل أحاديثهم وتراقب كل تحركاتهم.
الحرية، يقولون لك هنا في برلين، ثمينة جداً. وفن الشارع الذي يعبر عنها، يأخذه سكانها بالكثير من الجدية.


مقالات ذات صلة

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

الاقتصاد سياح صينيون يزورون مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (رويترز)

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

أعلنت وزارة السياحة المغربية، الاثنين، أن عدد السياح الذين زاروا المغرب منذ بداية العام وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بلغ 15.9 مليون سائح.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)

قرى مصرية تبتكر نوعاً جديداً من السياحة التقليدية

قرية النزلة بمحافظة الفيوم قبلة عالمية لصناعة الفخار اليدوي (رويترز)
قرية النزلة بمحافظة الفيوم قبلة عالمية لصناعة الفخار اليدوي (رويترز)
TT

قرى مصرية تبتكر نوعاً جديداً من السياحة التقليدية

قرية النزلة بمحافظة الفيوم قبلة عالمية لصناعة الفخار اليدوي (رويترز)
قرية النزلة بمحافظة الفيوم قبلة عالمية لصناعة الفخار اليدوي (رويترز)

في الخلف من البقع السياحية السحرية بأنحاء مصر، توجد قرى مصرية تجذب السائحين من باب آخر، حيث يقصدونها للتعرف على الحرف التقليدية العتيقة والصناعات المحلية التي تنتجها هذه القرى وتتخصص فيها منذ عشرات السنوات، وفاقت شهرتها حدود البلاد.

ويشتهر كثير من القرى المصرية بالصناعات اليدوية، ذات البعدين التراثي والثقافي، مثل صناعة أوراق البردي، والأواني الفخارية، والسجاد اليدوي وغيرها، وهي الصناعات التي تستهوي عدداً كبيراً من الزوار، ليس فقط لشراء الهدايا التذكارية من منبعها الأصلي للاحتفاظ بها لتذكرهم بالأيام التي قضوها في مصر؛ بل يمتد الأمر للتعرف عن قرب على فنون التصنيع التقليدية المتوارثة، التي تحافظ على الهوية المصرية.

«الشرق الأوسط» تستعرض عدداً من القرى التي تفتح أبوابها للسياحة الحرفية، والتي يمكن إضافتها إلى البرامج السياحية عند زيارة مصر.

السياحة الحرفية تزدهر في القرى المصرية وتجتذب السائحين (صفحة محافظة المنوفية)

ـ الحرانية

قرية نالت شهرتها من عالم صناعة السجاد والكليم اليدوي ذي الجودة العالية، والذي يتم عرضه في بعض المعارض الدولية، حيث يقوم أهالي القرية بنقش كثير من الأشكال على السجاد من وحي الطبيعة الخاصة بالقرية.

والسجاد الذي يصنعه أهالي القرية لا يُضاهيه أي سجاد آخر بسبب عدم استخدام أي مواد صناعية في نسجه؛ حيث يتم الاعتماد فقط على القطن، والصوف، بالإضافة إلى الأصباغ النباتية الطبيعية، من خلال استخدام نباتي الشاي والكركديه وغيرهما في تلوين السجاد، بدلاً من الأصباغ الكيميائية، ما يضفي جمالاً وتناسقاً يفوق ما ينتج عن استخدام الأجهزة الحديثة.

تتبع قرية الحرانية محافظة الجيزة، تحديداً على طريق «سقارة» السياحي، ما يسهل الوصول إليها، وأسهم في جعلها مقصداً لآلاف السائحين العرب والأجانب سنوياً، وذلك بسبب تميُزها، حيث تجتذبهم القرية ليس فقط لشراء السجاد والكليم، بل للتعرف على مراحل صناعتهما المتعددة، وكيف تتناقلها الأجيال عبر القرية، خصوصاً أن عملية صناعة المتر المربع الواحد من السجاد تستغرق ما يقرُب من شهر ونصف الشهر إلى شهرين تقريباً؛ حيث تختلف مدة صناعة السجادة الواحدة حسب أبعادها، كما يختلف سعر المتر الواحد باختلاف نوع السجادة والخامات المستخدمة في صناعتها.

فن النحت باستخدام أحجار الألباستر بمدينة القرنة بمحافظة الأقصر (هيئة تنشيط السياحة)

ـ القراموص

تعد قرية القراموص، التابعة لمحافظة الشرقية، أكبر مركز لصناعة ورق البردي في مصر، بما يُسهم بشكل مباشر في إعادة إحياء التراث الفرعوني، لا سيما أنه لا يوجد حتى الآن مكان بالعالم ينافس قرية القراموص في صناعة أوراق البردي، فهي القرية الوحيدة في العالم التي تعمل بهذه الحرفة من مرحلة الزراعة وحتى خروج المنتج بشكل نهائي، وقد اشتهرت القرية بزراعة نبات البردي والرسم عليه منذ سنوات كثيرة.

الرسوم التي ينقشها فلاحو القرية على ورق البردي لا تقتصر على النقوش الفرعونية فحسب، بل تشمل أيضاً موضوعات أخرى، من أبرزها الخط العربي، والمناظر الطبيعية، مستخدمين التقنيات القديمة التي استخدمها الفراعنة منذ آلاف السنين لصناعة أوراق البردي، حيث تمر صناعة أوراق البردي بعدة مراحل؛ تبدأ بجمع سيقان النبات من المزارع، ثم تقطيعها كي تتحول إلى كُتل، على أن تتحول هذه الكتل إلى مجموعة من الشرائح التي توضع طبقات بعضها فوق بعض، ثم تبدأ عملية تجفيف سيقان النباتات اعتماداً على أشعة الشمس للتخلص من المياه والرطوبة حتى تجف بشكل تام، ثم تتم الكتابة أو الرسم عليها.

وتقصد الأفواج السياحية القرية لمشاهدة حقول نبات البردي أثناء زراعته، وكذلك التعرف على فنون تصنيعه حتى يتحول لأوراق رسم عليها أجمل النقوش الفرعونية.

تبعد القرية نحو 80 كيلومتراً شمال شرقي القاهرة، وتتبع مدينة أبو كبير، ويمكن الوصول إليها بركوب سيارات الأجرة التي تقصد المدينة، ومنها التوجه إلى القرية.

قطع خزفية من انتاج قرية "تونس" بمحافظة الفيوم (هيئة تنشيط السياحة)

ـ النزلة

تُعد إحدى القرى التابعة لمركز يوسف الصديق بمحافظة الفيوم، وتشتهر بصناعة الفخار اليدوي، وقد أضحت قبلة عالمية لتلك الصناعة، ويُطلق على القرية لقب «أم القرى»، انطلاقاً من كونها أقدم القرى بالمحافظة، وتشتهر القرية بصناعة الأواني الفخارية الرائعة التي بدأت مع نشأتها، حيث تُعد هذه الصناعة بمثابة ممارسات عائلية قديمة توارثتها الأجيال منذ عقود طويلة.

يعتمد أهل القرية في صناعتهم لتلك التحف الفخارية النادرة على تجريف الطمي الأسود، ثم إضافة بعض المواد الأخرى عليه، من أبرزها الرماد، وقش الأرز، بالإضافة إلى نشارة الخشب، وبعد الانتهاء من عملية تشكيل الطمي يقوم العاملون بهذه الحرفة من أهالي القرية بوضع الطمي في أفران بدائية الصنع تعتمد في إشعالها بالأساس على الخوص والحطب، ما من شأنه أن يعطي القطع الفخارية الصلابة والمتانة اللازمة، وهي الطرق البدائية التي كان يستخدمها المصري القديم في تشكيل الفخار.

ومن أبرز المنتجات الفخارية بالقرية «الزلعة» التي تستخدم في تخزين الجبن أو المش أو العسل، و«البوكلة» و«الزير» (يستخدمان في تخزين المياه)، بالإضافة إلى «قدرة الفول»، ويتم تصدير المنتجات الفخارية المختلفة التي ينتجها أهالي القرية إلى كثير من الدول الأوروبية.

شهدت القرية قبل سنوات تشييد مركز زوار الحرف التراثية، الذي يضمّ عدداً من القاعات المتحفية، لإبراز أهم منتجات الأهالي من الأواني الفخارية، ومنفذاً للبيع، فضلاً عن توثيق الأعمال الفنية السينمائية التي اتخذت من القرية موقعاً للتصوير، وهو المركز الذي أصبح مزاراً سياحياً مهماً، ومقصداً لهواة الحرف اليدوية على مستوى العالم.

صناعة الصدف والمشغولات تذهر بقرية "ساقية المنقدي" في أحضان دلتا النيل (معرض ديارنا)

ـ تونس

ما زلنا في الفيوم، فمع الاتجاه جنوب غربي القاهرة بنحو 110 كيلومترات، نكون قد وصلنا إلى قرية تونس، تلك اللوحة الطبيعية في أحضان الريف المصري، التي أطلق عليها اسم «سويسرا الشرق»، كونها تعد رمزاً للجمال والفن.

تشتهر منازل القرية بصناعة الخزف، الذي أدخلته الفنانة السويسرية إيفلين بوريه إليها، وأسست مدرسة لتعليمه، تنتج شهرياً ما لا يقل عن 5 آلاف قطعة خزف. ويمكن لزائر القرية أن يشاهد مراحل صناعة الخزف وكذلك الفخار الملون؛ ابتداء من عجن الطينة الأسوانية المستخدمة في تصنيعه إلى مراحل الرسم والتلوين والحرق، سواء في المدرسة أو في منازل القرية، كما يقام في مهرجانات سنوية لمنتجات الخزف والأنواع الأخرى من الفنون اليدوية التي تميز القرية.

ولشهرة القرية أصبحت تجتذب إليها عشرات الزائرين شهرياً من جميع أنحاء العالم، وعلى رأسهم المشاهير والفنانون والكتاب والمبدعون، الذين يجدون فيها مناخاً صحياً للإبداع بفضل طقسها الهادئ البعيد عن صخب وضجيج المدينة، حيث تقع القرية على ربوة عالية ترى بحيرة قارون، مما يتيح متعة مراقبة الطيور على البحيرة، كما تتسم بيوتها بطراز معماري يستخدم الطين والقباب، مما يسمح بأن يظل جوها بارداً طول الصيف ودافئاً في الشتاء.

مشاهدة مراحل صناعة الفخار تجربة فريدة في القرى المصرية (الهيئة العامة للاستعلامات)

ـ ساقية المنقدي

تشتهر قرية ساقية المنقدي، الواقعة في أحضان دلتا النيل بمحافظة المنوفية، بأنها قلعة صناعة الصدف والمشغولات، حيث تكتسب المشغولات الصدفية التي تنتجها شهرة عالمية، بل تعد الممول الرئيسي لمحلات الأنتيكات في مصر، لا سيما في سوق خان الخليلي الشهيرة بالقاهرة التاريخية.

تخصصت القرية في هذه الحرفة قبل نحو 60 عاماً، وتقوم بتصدير منتجاتها من التحف والأنتيكات للخارج، فضلاً عن التوافد عليها من كل مكان لاحتوائها على ما يصل إلى 100 ورشة متخصصة في المشغولات الصدفية، كما تجتذب القرية السائحين لشراء المنتجات والأنتيكات والتحف، بفضل قربها من القاهرة (70 كم إلى الشمال)، ولرخص ثمن المنتجات عن نظيرتها المباعة بالأسواق، إلى جانب القيمة الفنية لها كونها تحظى بجماليات وتشكيلات فنية يغلب عليها الطابع الإسلامي والنباتي والهندسي، حيث يستهويهم التمتع بتشكيل قطعة فنية بشكل احترافي، حيث يأتي أبرزها علب الحفظ مختلفة الأحجام والأشكال، والقطع الفنية الأخرى التي تستخدم في التزيين والديكور.

الحرف التقليدية والصناعات المحلية في مصر تجتذب مختلف الجنسيات (معرض ديارنا)

ـ القرنة

إلى غرب مدينة الأقصر، التي تعد متحفاً مفتوحاً بما تحويه من آثار وكنوز الحضارة الفرعونية، تقبع مدينة القرنة التي تحمل ملمحاً من روح تلك الحضارة، حيث تتخصص في فن النحت باستخدام أحجار الألباستر، وتقديمها بالمستوى البديع نفسه الذي كان يتقنه الفراعنة.

بزيارة القرية فأنت على مشاهد حيّة لأهلها وهم يعكفون على الحفاظ على تراث أجدادهم القدماء، حيث تتوزع المهام فيما بينهم، فمع وصول أحجار الألباستر إليهم بألوانها الأبيض والأخضر والبني، تبدأ مهامهم مع مراحل صناعة القطع والمنحوتات، التي تبدأ بالتقطيع ثم الخراطة والتشطيف للقطع، ثم يمسكون آلات تشكيل الحجر، لتتشكل بين أيديهم القطع وتتحول إلى منحوتات فنية لشخصيات فرعونية شهيرة، مثل توت عنخ آمون، ونفرتيتي، وكذلك التماثيل والأنتيكات وغيرها من التحف الفنية المقلدة، ثم يتم وضع المنتج في الأفران لكي يصبح أكثر صلابة، والخطوة الأخيرة عملية التلميع، ليصبح المنتج جاهزاً للعرض.

ويحرص كثير من السائحين القادمين لزيارة المقاصد الأثرية والسياحية للأقصر على زيارة القرنة، سواء لشراء التماثيل والمنحوتات من المعارض والبازارات كهدايا تذكارية، أو التوجه إلى الورش المتخصصة التي تنتشر بالقرية، لمشاهدة مراحل التصنيع، ورؤية العمال المهرة الذين يشكلون هذه القطع باستخدام الشاكوش والأزميل والمبرد، إذ يعمل جلّ شباب القرية في هذه الحرفة اليدوية.