واحد من الأفلام التي تعرض ضمن «مهرجان بيروت للأفلام الفنية الوثائقية» ذاك الذي كتب السيناريو له وأخرجه المصري محسن عبد الغني، محاولاً إعادة قراءة حياة الأديبة مي زيادة التي لحق بها الظلم حية ومن ثم ميتة، وقليلاً ما أنصفت وبقيت سيرتها مشوبة إن لم يكن بالأسرار، فبالأسئلة التي نادراً ما وجدنا إجابات شافية عليها.
والفيلم الذي عرض يوم (أمس) السبت في «دار النمر» في بيروت، يلقي الضوء على شخصية هذه الأديبة اللبنانية التي عاشت بين لبنان وفلسطين ومصر وتعلمت 9 لغات، وكتبت الشعر والقصة والمقالة، وناضلت في سبيل تحرير المرأة، وأسالت الكثير من الحبر، إلا أن بعض تفاصيل حياتها تبدو لكثيرين وكأنها إما شوهتها المبالغة، أو أضفت عليها المخيلة بعضاً من الفانتازيا ودست بين طياتها عبق المؤامرة التي تحلو لمن يتناقلون الحكايات.
لكن العودة إلى حياة مي زيادة تظهر كم أنها كانت ضحية تربية سبقت زمنها العربي الذي كان لا يزال تقليدياً، وهي تنهل من نصوص الحرية بالفرنسية حين كانت تلميذة في الناصرة، وبعد أن انتقلت مع عائلتها إلى لبنان وتعلمت في عينطورة ومن ثم في الراهبات العازارية، قبل أن تنتقل إلى جامعة القاهرة. ليس غريباً بعد ذلك أن تصدر ديوانها الشعري الأول «أزهار الحلم» باللغة الفرنسية مختبئة وراء اسم مستعار هو «إيزيس كوبيا». وهو اسم دال، إذ إن إيزيس هي إلهة الخصب والأمومة عند قدماء المصريين فيما تعني مفردة «كوبيا» باللاتينية الغزارة أو الزيادة، أي هو ترجمة لاسم عائلتها. أرادت مي أن تكون إيزيس هي التي تعلمت بفضل مثابرتها ما لم يتح لبنات جنسها من جيلها، وتمكنت عند وصولها إلى مصر عام 1907 مع عائلتها من العمل الجاد على التمكن من العربية، لتنطلق بالتأليف فيها. هي أيضاً التي إلى جانب ثقافتها الغربية قرأت في التراث وعرفت الأدب العربي عن كثب. وبفضل هذه المعرفة التي جمعت فيها بين غرب أحبت قيمه وشرق تقمصت روحه، بدت مي أو ماري كما كان اسمها الأصلي، مضطربة بين عالمين متناقضين، أحدهما منفتح، جذاب، برّاق، وآخر محافظ يكبّل حركتها. لم تنخرط في الحركة النسائية كاسم ثوري كما هدى الشعراوي، لم تكتب على طريقة قاسم أمين طالبة قلب المعادلة، لكنها كانت من أوائل من استخدموا مصطلح «النسوية» وأخذت تترجم روايات إلى العربية في البداية، ثم كتبت في سير مناضلات مثل «باحثة البادية» و«عائشة تيمور» ووردة اليازجي، وحولت سيرتها الشخصية إلى حكاية بحث موجع عن الحرية.
كتبت في صحف ومجلات كثيرة مثل «الأهرام»، و«الهلال»، و«المقطم»، و«الزهور»، و«المقتطف»، ولم تكن بعيدة في الأصل عن أجواء الكتابة والصحافة، فوالدها يصدر «المحروسة»، وهي مفتونة بالأدب والشعر مشغولة بما يحيط بها من قضايا يوم كانت النهضة في عزها والحماس للذهاب إلى حياة أفضل في أوجه.
المرة الأولى التي لفتت فيها الأنظار في مصر، كانت يوم حفل تكريم خليل مطران، فوجئ بها رجال الثقافة والأدب في مصر وهي تتحدث دون ارتباك أو تلعثم، مع أن إصدارات لها سبقت هذا التاريخ. فتن بها من سمعوها يومها، كظاهرة في الجرأة والمعرفة في زمن كان حتى تعليم المرأة موضع جدل، فإذا بها تناقش وتحاجج، تعزف الموسيقى، تكتب عن الانعتاق، وتستقبل الرجال في صالونها الأدبي الذين كانوا يتقاطرون إليه يوم الثلاثاء.
ليس غريباً أن يتنافس الأدباء الذين يرتادون صالون مي على عشقها. وحين تراجع الأسماء التي طلبت ودها، يخيل إليك أن ليس من شخصية أدبية رجالية في ذاك الزمان لم تحب مي وتتمناها، من طه حسين إلى عباس محمود العقاد الذي من وحيها كتب قصته الشهيرة «سارة» إلى مصطفى صادق الرافعي وإسماعيل صبري، واللائحة تطول. في شارع «مظلوم باشا» بقيت مي تجمع حولها النخبة المصرية بمختلف مشاربها الفكرية، وتدير الحوارات الحارة التي لم تكن سهلة بين متباعدين وأحياناً متناقضين.
رغم كل الحب الذي أحيطت به، لا يبدو أن مي كانت راغبة في الرجال الذين حولها، ولم يجتذبها إلا جبران خليل جبران الذي قرأت كلمته يوم احتفالية خليل مطران ووجدت فيه صنو روحها. ثمة محاولات كثيرة لفهم هذه العلاقة الغريبة بين لبنانيين أحدهما في أميركا والآخر في مصر دون أن يلتقيا مرة واحدة. الرسائل المتبادلة بين الحبيبين طوال تسعة عشر عاماً تنم عن حب جارف من مي وعاطفة أقل جموحاً من جبران الذي كان في كنف ماري هاسكل ومعرفة ببربارا يونغ. لماذا صدّت مي كل أولئك الرجال الذين كان يمكن أن يؤمنوا لها الدفء والسعادة العائلية وتعلقت بسراب جبران؟ ما الذي جعلها قادرة على رفض كل تلك العواطف الجياشة التي أحاطتها مفضلة عليها ذاك الانتظار الصعب لرسائل معشوق هلامي غير قادر على فعل شيء لها غير تزويدها بكلمات فياضة. هل كانت تبحث عن رجل خارج المعايير المحافظة التي تحاربها، ولم يلح لها غير جبران؟
يحاول الفيلم الوثائقي أن يجيب على أسئلة عدة، لعل أهمها هو سبب انتهاء مي إلى العصفورية في لبنان بعد وفاة والدها عام 1930 بمرض عضال، ومن ثم رحيل جبران في مغتربه في العام الذي يليه، ووفاة والدتها عام 1932، حيث ستقضي هناك سنوات غاية في القسوة، وكادت تنتهي في هذا المكان المظلم لولا تدخل أمين الريحاني، وحملة في الصحافة. ووصل الأمر إلى مجلس النواب اللبناني، وأثار بعض أعضائه القضية، وبدأت حركة تطالب بإخراج «نابغة الشرق» من مستشفى المجانين. هكذا وتحت الضغط خرجت مي عام 1938، لتعالج من الانهيار العصبي الذي كان قد أصابها في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وتعود إلى مصر مرة أخرى.
بين أن تكون مي قد حملت بذرة الاضطراب بسبب نشأتها بين ثقافتين، وفي بيئة اضطرت فيها للمواجهة باستمرار، وبيت تربت فيه وحيدة بعد وفاة شقيقها وهي صغيرة، وبين من يتهم عائلتها بالطمع في ثروتها واستغلال فرصة تعرضها لصدمة نفسية بعد سلسلة الوفيات المتلاحقة التي أحاطت بها، ليرميها زوراً بالجنون، تبقى حقيقة مرض مي موضع جدل متواصل لا يحسمه الفيلم.
في أي حال، الوثائقي عموماً يعيد إلى الواجهة قصة مي، ويقدم آراء لكتاب وأدباء من مصر ولبنان ويلتقي بأحد أقرباء مي دون أن يكشف عن وثائق جديدة أو معلومات كبيرة لم تكن معروفة، لكنه في النهاية، يستعيد ذكرى أديبة استثنائية تستحق أن نتذكر سيرتها بعد مرور 77 سنة على وفاتها، في اعتراف لتأثيرها ونضالها من أجل حياة نسوية أفضل.
فالثمن الذي دفعته مي كان باهظاً، وانفضاض الأحبة من حولها كان مشيناً. فليس من عار على الحياة الأدبية أكبر من أن تقضي هذه الرائدة بصمت ولا يسير في جنازتها البائسة سوى ثلاثة بقوا يتذكرونها وهم: أحمد لطفي السيد، وأنطوان جميل، وخليل مطران.
مي زيادة الرائدة التي عاشت بصخب وماتت وحيدة
في ذكرى وفاتها السابعة والسبعين
مي زيادة الرائدة التي عاشت بصخب وماتت وحيدة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة