كتاب «الرحلة الملكية إلى مصر»... حسّ الصحافي وقلم الأديب

الراحل عبد الحميد مشخص سرد التفاصيل الدقيقة للزيارة التاريخية للملك عبد العزيز إلى مصر

الملك عبد العزيز والملك فاروق في مصر
الملك عبد العزيز والملك فاروق في مصر
TT

كتاب «الرحلة الملكية إلى مصر»... حسّ الصحافي وقلم الأديب

الملك عبد العزيز والملك فاروق في مصر
الملك عبد العزيز والملك فاروق في مصر

في كتابه «الرحلة الملكية السعودية إلى مصر» الذي صدر مؤخراً عن دارة الملك عبد العزيز، يوثّق الكاتب السعودي الراحل عبد الحميد حامد مشخص (1915 – 2010)، التفاصيل الدقيقة لأول رحلة ملكية سعودية إلى مصر، التي تمت في يناير (كانون الثاني) 1946، وقام بها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، ورسّخت تلك الزيارة التاريخية العلاقة بين البلدين. ويقع الكتاب في 438 صفحة، تشمل قسم الدراسة، ونص الكتاب، والملحقات، والكشاف العام.
والكتاب الذي كان عبارة عن مخطوطة تسجّل يوميات الزيارة التاريخية للملك عبد العزيز، إلى مصر، واعتمد المؤلف على مصادر صحافية مصرية وسعودية. وكانت المخطوطة محفوظة في مكتبة جامعة الملك سعود برقم 3153، وتقع في 270 ورقة. وقامت دارة الملك عبد العزيز بدراسة هذه المخطوطة وإصدارها ضمن سلسلة نشر المخطوطات التوثيقية والمخطوطات العلمية والأدبية ذات البعد المتخصص والمتميز في مجالها، كما قامت «الدارة» بإعداد الصور الفوتوغرافية والوثائق الصحافية للرحلة لتضمينها الإصدار الخاص بهذه المخطوطة؛ لإنشاء مادة علمية متكاملة للقارئ والباحث على حد سواء، وترضي جميع الاهتمامات العلمية.
عبد الحميد حامد مشخص، من مواليد النزلة اليمنية في مدينة جدة، تلقى تعليمه في مدرسة الفلاح بجدة، وتخرج فيها عام 1933، ثم عمل في دوائر حكومية عدة، بينها وزارتا المالية، والزراعة، والأمانة العامة لمجلس الوزراء، وبلدية الرياض، كما عمل في سنترال القصر الملكي في المربع، وفي عام 1964 انتقل للعمل في الاستخبارات العامة، ثم انتقل للعمل ملحقاً لشؤون التعاقد في السفارة السعودية في القاهرة، وتوفي سنة 2010 عن عمر ناهز المائة عام.
يحمل الكتاب شيئاً كثيراً من بصمة مشخص الصحافية والأدبية، ويستخدم المؤلف أسلوبه الصحافي الوصفي والتصويري لسرد يوميات هذه الرحلة التاريخية للملك عبد العزيز، التي استمرت 13 يوماً، بشكلٍ دقيق. فقد اشتغل المؤلف ‏عبد الحميد مشخص كاتباً ومراسلاً في صحف سعودية، بينها «البلاد»، ولديه الكثير من الأعمال والأنشطة الأدبية والإعلامية والرياضية، كان أيضاً رئيساً لنادي الشباب الرياضي ونادي الاتحاد في جدة، وله قصائد وأشعار. وخلال إقامته في القاهرة أنشأ في داره منتدى أدبياً أسبوعياً.
وحافظ الكتاب على عنوان المخطوطة «الرحلة الملكية السعودية إلى مصر»، وكان عبد الحميد مشخص كتبها بأمر أمير الرياض، الأمير ناصر بن عبد العزيز، وأهداها إليه. وقد شرع في كتابتها في العام نفسه الذي زار فيه الملك عبد العزيز مصر بعد الزيارة مباشرة (عام 1946)، ويذكر المؤلف أن وفداً كبيراً رافق الملك عبد العزيز في رحلته إلى مصر التي استمرت 13 يوماً، وشمل الوفد عدداً من الأمراء، بينهم الأمير عبد الله بن عبد الرحمن، ومن أبناء الملك عبد العزيز الأمراء: محمد، وخالد، وفهد، وعبد الله، وبندر، ومساعد، وعبد المحسن، ومشعل، وسلطان، ومتعب، وطلال، ‏ونواف، وبلغ عدد الوفد الرسمي والمرافقين أكثر من 60 شخصاً.
يتناول الكتاب مغادرة الملك المؤسس وطنه على متن اليخت متجهاً إلى مصر، وتحرّك الملك فاروق من القاهرة إلى السويس ليكون في مقدمة مستقبلي الملك عبد العزيز، ثم الاتجاه إلى قصر الزعفران وإقامة الاحتفالات بهذه المناسبة التاريخية.
ويصف الكتاب تفاصيل الرحلة التي شملت زيارة عدد من المدن والمنشآت والمرافق والمعالم في مصر، مثل: الجامع الأزهر، وجامعة القاهرة، ومقر جامعة الدول العربية، ومحافظة الإسكندرية، وحضور عدد من الفعاليات، مثل سباق الخيل واستعراض الجيش، وما ألقي في الحفلات من خطب وقصائد، يعقبها عودة الملك عبد العزيز إلى المملكة، وما واكب ذلك من استقبالات حاشدة واحتفالات كبيرة ألقيت فيها القصائد والخطب الكثيرة.
وقد أضيف للكتاب ملحقات اشتملت على برنامج الزيارة وبعض الصور الفوتوغرافية لأحداث الرحلة والأخبار والمقالات الصحافية التي غطت الزيارة الملكية في الصحف السعودية والمصرية.

زيارة تاريخية
سبق سفر الملك عبد العزيز وصول بعثة الشرف المصرية المرافقة إلى جدة قادمة من السويس يوم السبت 4 يناير 1946، ولاحظ المؤلف أن الأديب الكبير عباس محمود العقاد كان من أعضاء بعثة الشرف (وذكر أنه عضو مجلس الشيوخ المصري)، وضمت البعثة كذلك: مراد محسن باشا، وإسماعيل تيمور باشا، وكريم ثابت وغيرهم، وقد استقبلهم وفد رسمي في جدة وتوجهوا بعدها إلى مكة، وبعد العمرة التقوا الملك عبد العزيز وأخاه عبد الله وبعض أولاده وبعض المسؤولين. وفي يوم الاثنين 7 يناير 1946 (8 صفر 1365هـ) غادر الملك عبد العزيز إلى مصر.
وهنا يتوقف المؤلف ليلتقط صورة صحافية للموكب الملكي وهو يغادر ميناء جدة: «كانت جدة في صبيحة يوم الاثنين (...) مقصد الوفود من كل حدب وصوب، فقد ازدحمت شوارعها وطرقاتها بالجماهير المحتشدة، التي هرعت لتشاهد موكب مليكها المعظم، وتمتع أنظارها برؤية جلالته... كما سارع إلى سرادق الميناء جميع أعيان البلاد ووجهائها ليكونوا في شرف استقبال وتوديع جلالة الملك المفدى».
سافر الملك من مكة إلى جدة، ثم استقل السفينة المحروسة مع الوفد السعودي والبعثة المصرية، ومن أعضاء الوفد السعودي: أخوه عبد الله، وعدد من أبنائه، وعدد من المرافقين وأعضاء الوفد الرسمي.
ولا يفوت المؤلف أن يلتقط أجواء الرحلة على السفينة، وكان من ضمنها أن الملك عبد العزيز كان يواصل برنامجه في مجالسة أهل العلم وحضوره الدرس اليومي، وذكر أن «إمامه الخاص الشيخ عبد الرحمن القويز» قرأ عليه فصلاً من تفسير ابن كثير، ثم قرئت الأخبار اليومية، وتسامر الملك مع كبار من معه حتى وقت النوم. في اليوم الثاني، ذكر أن الملك كان سعيداً بجمال الرحلة، وأنه تحدث عن تاريخه وحروبه في فتح الرياض، ثم ألقيت بعض القصائد والكلمات أمامه، منها قصيدة ألقاها عباس محمود العقاد، ويذكر أن الملك أهدى صورتين له لكل من عباس العقاد وكريم ثابت بيك، كُتب عليهما «بسم الله الرحمن الرحيم، من الواثق بالودود عبد العزيز آل سعود».
ثم يصور لحظات اقتراب السفينة من المياه المصرية يوم الخميس، حيث استقبلهم في السويس الملك فاروق، «وعندما اقترب اليخت الملكي من ميناء بورتوفيق ابتعدت الطوافة (الأمير فاروق) عن الطريق وأدت التعظيم الملكي... وعندئذ أطلقت قلعة السويس واحدة وعشرين طلقة عند مرور اليخت الملكي بها، كما استقبله في عرض البحر سرب من سلاح الطيران، ورفعت البواخر التي كانت راسية في الميناء الأعلام على سارياتها...».
عند وصول الملك عبد العزيز، استقبله الملك فاروق ثم توجها إلى القاهرة بالقطار. ويذكر أن الزينة أقيمت في كل المدن والقرى من السويس إلى القاهرة، وأن الأعلام السعودية والمصرية عُلّقت على البيوت وفي الشوارع، كما كُتبت عبارات الترحيب وعُلّقت في الشوارع، وأن طلاب المدارس وأساتذتهم والأهالي خرجوا لاستقبال الملك عبد العزيز والترحيب به. وبعدها يتحدث عن وصولهم إلى القاهرة والاحتفالات التي جرت ذلك اليوم، ويذكر أن القاهرة زُيّنت بشكل لم يسبق له مثيل.
نزل الملك عبد العزيز في قصر الزعفران ومعه أنجاله، يقول: «أما قصر الزعفران فقد أعدت في الطابق العلوي منه غرفة نوم خاصة لجلالة الضيف... ووضعت آلتان للمحادثات التلفونية ربطت أولاهما بنمرة سرية خاصة، كما وضع في الغرفة جهاز راديو ومدفأة كهربائية...». أما رجال الحاشية فكان نزولهم في فندق الكونتننتال. يصف الكتاب لقاءات الملك عبد العزيز وتفاصيل الاحتفالات الترحيبية التي أقيمت تكريماً له، وبين حفل العشاء الذي أقيم للملك عبد العزيز مساء الخميس 10 يناير 1946، في قصر عابدين. وفي اليوم (الجمعة) ذهب الملك عبد العزيز ومن معه لأداء صلاة الجمعة في الجامع الأزهر. وفي المساء أقام لهم رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي مأدبة العشاء، وألقى في هذه المناسبة عباس محمود العقاد قصيدة شعرية، ثم عُرض فيلم سينمائي يروي رحلة الملك الضيف إلى مصر. وفي يوم السبت قام الملكان عبد العزيز وفاروق بزيارة لجامعة الملك فؤاد، وأهديت للملك مجموعة من الكتب تحتوي على دواوين شعرية وتواريخ وآداب وفلسفة إسلامية. كما أقيم عرض رياضي حضره الملكان.
ويوم الأحد 13 يناير 1946، حضر الملك عبد العزيز والملك فاروق سباق الخيل في مصر الجديدة، وأهدى الملك عبد العزيز لكل فائز ساعة ذهبية نُقش عليها اسمه. وفي يوم الاثنين، خامس أيام الزيارة، أقيم عرض عسكري عند الكيلو الثاني من طريق مصر - السويس، شارك فيه 36 ألف جندي. كما شارك في تغطية العرض مائة مصور.
كما أقامت السفارة البريطانية مأدبة غداء على شرف الملك الضيف، وقام الملك بزيارة أهرامات الجيزة.
وفي اليوم السادس، يوم الثلاثاء، زار الملك عبد العزيز ومن معه قناطر محمد علي وحديقة القناطر الخيرية، وأقيمت حفلة شاي ألقى فيها الدكتور حسين هيكل باشا، رئيس مجلس الشيوخ، كلمة ترحيبية. ويوم الأربعاء قاموا بزيارة المتحف الزراعي وحديقة الحيوانات وإصلاحية الأحداث في الجيزة.
وفي يوم الاثنين 21 يناير 1946، وهو اليوم الثاني عشر للزيارة، ذهب الملك عبد العزيز لزيارة ميناء الإسكندرية، وبعدها توجه إلى محطة كوم الدكة واستقل القطار عائداً إلى القاهرة، وبعد وصوله القاهرة توجه إلى قصر عابدين، حيث أقام له الملك فاروق مأدبة غداء. وفي يوم الثلاثاء 22 يناير، غادر الملك عبد العزيز والوفد المرافق له القاهرة بالقطار بعد أن ودّعه الملك فاروق، وتوجه القطار إلى السويس، ومنها استقل اليخت الملكي المحروسة عائداً إلى جدة التي وصلها يوم الجمعة.
يسجل المؤلف تفاصيل الزيارة والكلمات الترحيبية والقصائد الشعرية التي أُلقيت، وتحتل القصائد الشعرية التي ألقيت ترحيباً بالملك عبد العزيز، القسم الأكبر من الكتاب، وبينها ثلاث قصائد لأحمد إبراهيم الغزاوي، وعباس محمود العقاد الذي ألقى قصيدة على متن السفينة قال فيها: (أسدُ العرين يخوض غيل الماء - يا بحر راضك قاهر الصحراء... حياه باديها وحاضرها معاً- فأغنم تحية يومه الوضاء)... وقصائد أخرى للشعراء: فؤاد شاكر، وإبراهيم محمد إبراهيم، ومحمد الأسمر، وخليل مطران، وعلي محمود طه، وغيرهم.



كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».