عن تغير العالم الراهن وصورته المستقبلية، خصص «مركز الدراسات الاستراتيجية» بمكتبة الإسكندرية العدد الجديد الـ«28» من السلسلة الدورية «أوراق»، لمناقشة كتاب «الأزمنة ما بعد العادية: نموذج معرفي جديد في الدراسات المستقبلية»، من تأليف ضياء الدين ساردار وترجمة محمد العربي. يقدم الكتاب المكوّن من 3 فصول رؤية جديدة عن تغير العالم المعاصر، وتداعيات هذا التغير على مستويات وفي تيارات مختلفة؛ على قراءة مستقبله من خلال تقديم نموذج لفهم وتفسير تشابك التغير والمستقبلات المتنوعة التـي قد يتخذها العالم المعاصر.
يبدأ ساردار؛ المفكر وعالم المستقبليات البريطاني، في الدراسة الأولى التـي كتبها على وقع الأزمة الاقتصادية العالمية 2007 - 2008 تحت عنوان: «مرحباً بالأزمنة ما بعد العادية»، بوضع إطار نظري استعاره من عالم الرياضيات لفهم تداعيات تلك الأزمة التـي صاحبتها فورة في المعلومات وفي التواصل بين البشر وفي طبيعة الحركات الإنسانية. ويعرّف «الأزمنة ما بعد العادية» بأنها الحالة التـي تتداعى فيها ثقة البشر بما هو سائد من أنماط وأعراف اجتماعية ومعرفية وسياسية؛ «حيث تتسم روح عصرنا باللايقين، والتغير السريع، وإعادة توزيع القوة، والتأزم، والسلوك الفوضوي».
ويرصد ساردار في الدراسة الأولى الصفات الرئيسية للعالم في وضعه الحالي؛ حيث يسود فيه التناقض والفوضى واللايقين والتعقد، وهي الصفات التـي تؤدي بدورها إلى شيوع الجهل والارتباك حيال العالم المتغير. ويرى ساردار أن الجهل الحالي يمكن أن يكون جهلاً ثلاثي المستويات، أو جهلاً مكعّباً: الجهل بجهلنا، والجهل المضمّن في المخاطر المحتملة للتطورات الأخيرة، والجهل الناتج عن فائض المعلومات. وعلى العكس من الجهل المعتاد، الذي يمثل فجوة يمكن ملؤها بالبحث والمعرفة، فإن التعامل مع هذا النوع من الجهل يتطلب طرقاً مختلفة جذرياً للتفكير.
وتمثل الدراسة الثانية والمعنونة بـ«الأزمنة ما بعد العادية: إعادة نظر» تطويراً للإطار الأول المبدئي الذي وضعه ساردار. وفيها يرصد بعض الشواهد التـي تدل على دخول العالم في الحالة ما بعد العادية... «فعلى سبيل المثال؛ توضح الأحداث السياسية الأخيرة أننا لم نعد نتعامل مع تبعات منفصلة للأحداث، أو تبعات محلية الطابع وقابلة للعزل في وقتها، أو تؤثّر على عدد محدود من الأفراد أو جماعة صغيرة، أو تربك عدداً محدوداً من العمليات. فالتحولات التـي نشهدها اليوم سريعة وشاملة؛ وتأثيرها يمتد على كل جانب من الحياة الإنسانية والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولم تقتصر (الحالة ما بعد العادية) على الأنشطة البشرية وحدها؛ بل أيضاً شملت المناخ والطبيعة التـي تشهد تغيرات متسارعة».
أما الدراسة الثالثة التـي كتبها ساردار مع جون سويني تحت عنوان «الآفاق الثلاثة للأزمنة ما بعد العادية»، فتأخذ «الحالة ما بعد العادية» إلى نطاق القراءات المستقبلية من خلال استكشاف إمكانات تحول العالم مستقبلاً؛ حيث يبرز سؤال جديد ومهم أمام المستقبَليين وباحثـي وممارسـي الاستشراف: هل الطرق الحالية قادرة على مواكبة المستقبلات المعقدة والفوضوية وغير اليقينية والمنهارة بسرعة؟ إن الدراسات المستقبلية كانت تتعامل تقليدياً مع تعددية المستقبلات البديلة من خلال التمييز بين المستقبلات المعقولة والمرجحة والممكنة والمفضلة... «ولكن ما المرجح في عالم أصبح فيه اللايقين والفوضـى النموذج السائد؟ وهل تخبرنا رواياتنا حول ذلك بشـيء ذي معنى بإمكانه أن يُولِّد سياسات واستراتيجيات تتواكب مع التعقد واللايقين والسلوك الفوضوي؟».
تُقدم هذه الورقة ملمحاً نظرياً عاماً للمفاهيم التـي تشكل منهجاً جديداً؛ ثلاثة آفاق للأزمنة ما بعد العادية، تم تطويره لتناول التساؤلات أعلاه. ويؤطر البحث ما نعتقد أنها حاجة ملحة بالنسبة للإطار المنهجي، وكيفية تسكين المقاربة في مجال الدراسات المستقبلية. وفيما يقوم البحث على مفاهيم مؤسسة ومترابطة، فإن القراء العاديين والخبراء على السواء سيفيدون من مراجعة القراءات الأساسية في «نظرية الأزمنة ما بعد العادية». وفي النهاية، فإن هذه الورقة تمثل الحلقة الأولى من سلسلة من المقالات البحثية تعرض لحالات دراسية توضح مدى تطبيقية المنهج.
ويختتم ساردار الدراسات الثلاث بالتأكيد على أنه في «الأزمنة ما بعد العادية» يتطلب توسيع حدود المعقولية نوعاً جديداً من التفكير مقروناً بالإبداع والخيال، ويتحتم علينا التعامل مع التعقد والمعرفة غير الكاملة، والربط بين ما هو مجزّأ، ومسايرة التشابكات والاعتمادية... «وعلى هذا النحو، ينبغي لمقاربتنا أن تكون راديكالية ومتواضعة على السواء لتكون واقعية وفعّالة»، لافتاً إلى أن الإبداع والخيال يجب أن يغادرا النظرة الفردانية للحداثة نحو مقاربة أكثر سياقية وتعاونية وتعقيداً، وهذا هو الاتجاه الذي تأخذنا نحوه الآفاق الثلاثة؛ نحو اللامفكر فيه.
«الأزمنة ما بعد العادية»... دعوة لمغادرة النظرة الفردانية للحداثة
«الأزمنة ما بعد العادية»... دعوة لمغادرة النظرة الفردانية للحداثة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة