المستقبل لا يزال صناعة غير عربية

رؤية المهدي المنجرة للحداثة والثقافة والحروب «الكونية» المقبلة

المستقبل لا يزال صناعة غير عربية
TT

المستقبل لا يزال صناعة غير عربية

المستقبل لا يزال صناعة غير عربية

جاءت مبادرة الكاتبة والأكاديمية المغربية زهور كرام في استذكار عالِم المستقبليات؛ المهدي المنجرة، لتسلط الضوء على مفكر مغربي حظي طوال سنوات حياته المهنية بتقدير واعتراف كبيرين على المستوى العالمي، فهو إضافة إلى احتلاله موقع نائب المدير العام لمنظمة اليونيسكو، والتدريس في كثير من المؤسسات الأكاديمية العريقة مثل «مدرسة لندن للاقتصاد والأعمال» SLE، التي سبق له أن حصل على شهادة الدكتوراه منها خلال عقد الخمسينات من القرن الماضي، مُنح جوائز وأوسمة عالية من كثير من الدول والمؤسسات، مثل «وسام الشمس المشرقة» باليابان عام 1986، و«جائزة السلام» عن معهد ألبرت آينشتاين الدولي عام 1990، و«وسام ضابط» للفنون والآداب بفرنسا عام 1976... وغيرها.
صدر هذا الكتاب حديثا عن «دار دلمون الجديدة» في دمشق، وقد قسمت الدكتورة كرام بحثها إلى 4 أقسام؛ ضمنها الملاحق التي تسلط الضوء فيها على مسيرة الراحل المنجرة العلمية، وعلى بعض مواقفه من القضايا ذات الشأن الخطير على الوضع العربي.
ويعد المهدي المنجرة واحداً من مؤسسي علم المستقبليات والمنظرين له، فقد ساهم فيه بصياغة منهجية علمية تتضمن مجموعة من المفاهيم والتعريفات والمسلّمات وتتبنى حقولا معرفية كثيرة لمنح المتخصص في هذا الحقل القدرة لا على توقع ما يخبئه المستقبل؛ بل المساهمة في رسم الخطوط العريضة لصياغته.
وبالطبع، هذا لا يعني أن توقعات عالم المستقبليات ستتحقق بالكامل، فهو ليس عرافا أو رائيا، بل هو ينطلق من الحاضر بتفكيكه ليستكشف ما سيؤول إليه المجتمع خلال فترة زمنية محدودة. فالمنجرة توقع في أواخر الثمانينات من القرن الماضي حدوث ما عرف لاحقا بـ«الربيع العربي» ومنذ بداية التسعينات توقع ازدهارا هائلا لصناعة الأسلحة في العالم، خصوصا في الولايات المتحدة بعد زيادة التوظيف المالي الكبير لها، كذلك فهو قد توقع انهيار «قيمة القيم» على الصعيد العالمي منذ ذلك الوقت ووقوع حروب كثيرة في القرن الحادي والعشرين داخل بلدان العالم الثالث.
تعرّف الدكتورة كرام طريقة بحث المنجرة بأنها تعتمد «على تحليل الواقع بمنهجية واضحة تعتمد الجرأة في التناول والعلمية في التفكيك والإحصائيات في القياس والتجارب في المقارنة مع الانطلاق من أهداف محددة نحو استشراف مستقبل حاضر هذا الواقع».
ووفق هذه المنهجية، يرى المفكر المنجرة أنه «لا يمكن الانطلاق برؤية واضحة تجاه المستقبل، كما لا يمكن التحكم في المستقبل باعتباره موضوعا للتفكير إذا لم يكن الماضي حاضراً في التفكير في إطار رؤية تحليلية واضحة وموضوعية ممنهجة».
غير أن الماضي الذي نعرفه عبر معطيات محددة يتطلب تأويلا متواصلا، وهذا ما يجعل المهدي المنجرة يتبنى مفهوما موجودا في الدراسات المستقبلية، وهو ما يسمى «مستقبل الماضي». من هنا يفسر فشل مشروعات اقتصادية كثيرة في الدول العربية، مثل موضوعي القطاعين العام والخاص، ونقل الأفكار حولها من دون اعتماد دراسة البيئة التي تتطور فيها الأفكار.
كم تذكرني هذه الفكرة بما جرى في العراق عام 1964 حين قامت الحكومة آنذاك بتأميم المشروعات الخاصة التي تعد على أصابع اليد آنذاك لتئد بذلك أي نمو للقطاع الخاص، وهذا بالطبع تقليدا لما جرى في بلدان أخرى، ولأغراض محض شعبوية.
يعطي المنجرة مثالا آخر على الكيفية التي يقام بها كثير من المشروعات في العالم العربي على أساس مبدأ الارتجال، فيقول في إحدى دراساته إن «إنجاز المشاريع الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا وأميركا يتم وفق دراسات البيئة المحتضنة لأفكار المشروع وتحليل حاجات السوق وتبني رؤية الاستشارة المعتمدة على معطيات واقعية...». لذلك فهو يرفض تلك القناعة السائدة لدى كثير من أبناء العالم الثالث بأن الحداثة تعني تقليد الغرب، فهو يعدّ النموذج الياباني الذي حافظ على ثقافته وفي الوقت نفسه حقق تطورا علميا وصناعيا هائلا، خير مثال يمكن للبلدان النامية أن تحتذيه. وهو ضمن هذا السياق يرى أنه لم تتحقق أي نقلة نوعية في حياة أي مجتمع تخلى عن لغته وتبنى لغة أجنبية أخرى محلها في مجال العلوم والتكنولوجيا.
تسلط الدكتورة كرام في كتابها «الفكر التنويري في الرؤية المستقبلية عند المهدي المنجرة» الضوء على موضوع «الثقافة» الذي كرس له المفكر المغربي الراحل مساحة واسعة في رؤيته الشمولية، فهي بالنسبة إليه ليست مجرد أفكار وشعارات، لذلك فهو «ينتقد العلاقات الحضارية بين المجتمعات عندما لا تعتمد على التواصل الثقافي المبني على احترام الخصوصيات، فالثقافة لا تُستنسَخ ولا يمكن نقلها بشكل أعمى، وبالتالي، فإن ما يحقق فاعليتها الحضارية هو احترام خصوصيات كل ثقافة على حدة».
يقول المنجرة ضمن هذا السياق: «في نظري أن تشكل الثقافات أساس وعماد السلام والبذرة الوراثية للسلام، فليس ثمة من ثقافة تولد أصلا عدوانية أو لتصارع ثقافة أخرى. وقد علّمنا التاريخ بأن ثقافة ما حين تأخذ مقاليد السلطة تسعى إلى فرض نظام قيمها على ما عداها».
مع ذلك، فهو يراهن على التفاعل السلمي بين الثقافات، فهو يرى أن «الثقافات لا تُستنسخ ولا يمكنها أن تتواصل في ما بينها ولا تغني بعضها البعض إلا إذا اعتبرنا هذه القاعدة أساسية».
لذلك هو يقترح مفهوماً آخر لهذا التلاقح الثقافي أطلق عليه مفهوم «نسبية الكونية». وبالنسبة له، فإن «الكونية هي تلك التي تكون نتاج تداخل وتفاعل للاختلافات، تلك التي ترتكز (لوغاريتماتها) على العدالة والإنصاف المطبّق بدون تمييز عرقي أو عقائدي أو جنسي أو اجتماعي. أؤمن بكونية الجمال والحب كما نحس به فرديا، وأؤمن بكونية الإبداع والخلق حين نطلق لها العنان... الكونية هي نتيجة لتفاعل بين الثقافات بانحيازها للاختلافات لأن الاختلاف هو الذي يطور القيم الثقافية».
يكرس المهدي المنجرة جهده المعرفي كذلك للتحولات التي طرأت على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، فهو قد تنبأ بظهور ما سماها «الإمبريالية الجديدة»، وتوقع أنها ستخوض ما سماها «الحروب الحضارية» في كثير من البلدان. وإذا كانت الإمبريالية في القرن التاسع عشر استخدمت القوة والعنف لفرض سيطرتها على بلدان آسيا وأفريقيا، فإن الامبريالية الجديدة ستستخدم «اللغم الدلالاتي (السيميائي)» لكسب قطاع مهم من مثقفي ومفكري هذه البلدان المستهدفة. وما يعنيه المنجرة هو صياغة المفاهيم بالشكل الذي يسهل قبولها لدى الطرف المستهدَف.
ولعل من أهم المفاهيم التي تحقق هذا المنظور الاستعماري الجديد مفهوم العولمة الذي «تصدى له المنجرة بتفكيك وتحليل حمولاته الدلالية، غير مهتم بالخطابات الإغرائية التي تجعل من العولمة مفهوماً مغرياً».
مع ذلك، فإنه توقع خمود العولمة بعد عقود قليلة، وهذا ما نراه اليوم في أوروبا والولايات المتحدة بتصاعد الروح القومية وتصاعد قوى سياسية تعاكس تيار «العولمة».
هذا الكتاب ملهم ومحفز للمؤسسات الأكاديمية وصناع القرار في العالم العربي لتأسيس معاهد معنية لا بالتنبؤ بالمستقبل فحسب؛ بل المساهمة في صياغته، بدلا من أن نبقى معتمدين في التنبؤ به على المنجمين الذين أصبحوا اليوم من أبرز نجوم الشاشة الصغيرة وأكثرهم جذبا لملايين المشاهدين في العالم العربي.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!