فن دبي أو «آرت دبي»، كما درجت تسميته بالإنجليزية، أكمل دورته الثانية عشرة في مارس (آذار) 2018. وشكلت تلك الدورة إضافة نوعية للمشهد الفني والثقافي في المنطقة الخليجية، أو لعله عدّل خريطته، لا سيما أن هذا النشاط يغلب عليه إدخال الفن المعاصر في سوق الفن الشرق أوسطية، التي تسيطر عليها مصالح دور فن عالمية بالدرجة الأولى.
لكن المراقب للمشهد التشكيلي في منطقة الخليج والشرق الأوسط عامة، لا بد أن يكون قد لاحظ أن «آرت دبي» مثّل خلال السنوات الماضية، تظاهرة مكرّسة بشكل كامل للفن الحديث في القرن العشرين بالعالم العربي والشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا. وقد اهتم في كل عام بتسليط الضوء على الفنون المعاصرة من مناطق جغرافية مختلفة أو عبر ثيمات يحددها إداريوه.
هذه التظاهرة تقام، كما هو معروف، في شهر مارس (آذار) من كل عام، وتستقطب ما يقارب 90 صالة عرض فنية من الخليج العربي والعالم الفسيح، لتشكل مزيجاً متنوعاً لقاعات عرضه الرئيسية المصنفة تحت مصطلحي «Contemporary» ( معاصر) و«Modern» (حديث). وتتنوع هذه الصالات في عروضها بين الغريب الصادم والمدهش الحقيقي والساذج المدعي، ويبقى على مرتاديه الحكم والاختيار.
وهكذا، في كل عام ترتفع التوقعات بالجديد من قبل الجمهور والمشاركين، والسؤال الذي يطرح هنا: كيف تغيّر السوق جلدها كل عام؟ لا سيما ويدرك الجمهور أن التظاهرة تعني تجربة لاكتشاف الجديد بالنسبة إلى كثير من الزوار المقبلين من جميع أنحاء العالم، ويرونه السوق المثلى التي يستطيعون من خلالها الوقوف على آخر المستجدات الفنية في العالم، وكذلك التعرف على الفنانين الجدد.
وأيضا قد يتساءل المتابع: هل تصل آراء الجمهور الإيجابية والسلبية لإدارة المعرض؟ وهل يؤثر ذلك على الخطط التي توضع له؟ ويقرر القائمين عليه في لقاءاتهم الصحافية أن الإضافات إلى برامج المعرض كانت بناء على مقترحات وآراء زواره.
تقول أنتونيا كارفر، مديرة آرت دبي السابقة: «نحب أن نكوّن السوق الفنية التي تصغي للجمهور». لكنها تتساءل: «إلى أي مدى تحقق هذا الشعار، رغم نخبوية وقلة هذا الجمهور؟».
وتؤكد ميرنا عياد، المدير العام الحالي لـ«آرت دبي» على تعزيز موقعه كمنصة إقليمية ينطلق منها فنانو المنطقة إلى العالمية، وبالمثل تتساءل: إلى أي مدى تحقق هذا الهدف، وتواجد فنانو المنطقة في السوق الدولية؟ وتضيف: «لكن، كما نعرف، أن السوق تعتمد بشكل كبير على الناحية التجارية، وعلى نجاح الأجنحة المختلفة في بيع الأعمال الفنية، ومع ذلك هناك جانبا كبيراً غير تجاري ينمو بسرعة كبيرة، ويضم النشاطات الفنية والمشاريع والورش واللقاءات الحوارية، وهنا تكمن بؤرة التقاطع بين الجانبين الربحي وغير الربحي، والذي بدوره يثير سؤالا ملحاً حول الجانب الأكثر بروزا في «آرت دبي»، هل هو تجاري بنسبة أكبر أم فني وثقافي بشكل أوضح؟».
لقياس ذلك يمكننا أن نراقب أن عمليات التطوير في برامجه أخذت تتوالى خلال عمره القصير، وأحدثت قفزة، بل قفزات في البرامج التفاعلية مع الجماهير، وفي المحتوى العام، من حيث النوع، وربما نرصد منها إنشاء «ماركر» سوقا لفنون آسيا الوسطى والقوقاز، وكذلك تفعيل برنامج تقييمي يتناول مواضيع محددة تطرحها فضاءات فنية ناشئة، وعطفا على تسليط الضوء في سنة 2013 على محاور من غرب أفريقيا، وفي 2015 على أميركا اللاتينية، وفي 2018 على خمس مجموعات ومدارس فنية في خمس مدن عربية.
وواصل المعرض سعيه نحو دعم المجتمع الفني والثقافي في دبي، من خلال الدورة السادسة لـ«برنامج الفنان المقيم» حيث أصبحت الأعمال التفويضية أعمالاً عامة دائمة لأول مرة لتمنح هؤلاء الفنانين فرصة ترك بصمتهم. وإن لم يكن يحمل في دورته الحادية عشرة، موضوعاً محدداً، لكن بعض المعارض المشاركة اختارت أن تركز على مسائل تعاني منها منطقة الشرق الأوسط، وبينها الرقابة في بعض دولها والحروب في دول أخرى.
إذن كرس المعرض العلاقات المشتركة بين الخليج وآسيا الوسطى والقوقاز وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بما تشمل الثقافة والتجارة، كمحاولات جادة لاستكشاف تلك العلاقات عبر الفن المعاصر، وبحيث تخاطب أعمال الفنانين المشاركين فيه مفاهيم الهوية، الإيمان واللغة، بالإضافة إلى استكشاف تعقيدات تلك المنطقة وأهميتها المباشرة ليس للعالم العربي فحسب، وإنما للعالم برمته... هذه نقاط لا خلاف عليها، ظاهرياً، ولكن ماذا عن استحداث برامج جاذبة لاستثمارات أهل المنطقة؟ ومن ثم جاذبة للحضور الجماهيري؟
ومن اللافت للنظر في شأن الحضور والمهتمين، خلال الدورات الماضية، أن الحضور الذي تمتلئ به ردهاته وقت الافتتاح وما يتبع ذلك بقية الأيام كان يغلب عليه الحضور الأجنبي (أوروبيون وآسيويون وأميركيون وأفارقة) أي الجنسيات الغربية من مختلف الشركات أو المؤسسات التي تتواجد في دبي مقابل عدد قليل من الحضور من أبناء الإمارات العربية المتحدة إلا من المسؤولين والشيوخ عند حضورهم.
وإن كان في السنوات الأخيرة بدأ الحضور السعودي أكثر تفاعلا لأسباب منها أن هناك عددا من الفنانين يشاركون، وآخرون أقاموا معارض لافتة، إضافة إلى حضور أسماء أخرى من التشكيليين السعوديين الذين يرون في مثل هذه المحافل ما يضفي جديداً ويقرب المسافات بين التجارب المحلية والعالمية، ومنهم على سبيل الذكر السريع وليس الحصر الفنانون عبد الرحمن السليمان وعلي الرزيزاء وعبد الله حماس وعبد الله نواوي وأيمن يسري وصديق واصل وغيرهم.
في البيان الصحافي لقسم «آرت دبي مودرن» الذي أعلن في حينه، عبارة لافتة تقول: «يلقي الضوء على فنانين لم يبرزوا بشكل مناسب»، أو بقول آخر: «أولئك الذين لم تحالفهم الشهرة». وربما نتوقف قليلا عند ذلك الوصف، ونرمي بالكرة في ملعب القائمين على المعرض، ومعها سؤال: هل سيكتفي المعرض بالأسماء التي لم تأخذ حقها من الشهرة والتقدير من الفنانين المؤثرين؟ وهل سيغفل الأسماء المعروفة التي لها تأثير كبير أيضا على الفن المعاصر؟ وإن كان في دورة العام الماضي 2017. الدورة الحادية عشرة، اقترب مضمونه من سابقاتها إلى هموم الناس ومعاناتهم.
ثمة مبادرات واضحة لأنسنة الفن وتقديمه للعامة قبل النخبة. وظهر ذلك عبر اقتراب المعرض في شكل ملحوظ من معاناة اللاجئين أينما كانوا، ومن الفعاليات التي تعتمد على التفاعل المباشر ما بين المرسل والمتلقي، وكثرة الندوات التي سمحت بالتواصل ما بين الجمهور والمُحاضرين، من دون الاعتماد على تلقي المعلومات فقط... وهذا توجه سليم يقدر للمعرض ودوره.
ولكن تبقى التساؤلات حول الدور والمضمون والقيمة والأثر قائمة، ولا يمكن الجزم بما يمكن أن يؤدي إليه «آرت دبي» إلا إذا ترسخت نتائجه في الواقع، وتحول أثره من تظاهرة إلى تطبيقات ثقافية فعلية تثري الجماهير العريضة وتكون جزء من حياته.
* كاتب وناقد فني سعودي