الصحافة في البحرين... تاريخ يكافح في وجه {أزمة الورق}

المنامة كانت شاهدة على ولادة أول جريدة سياسية في الخليج عام 1939

أعضاء اللجنة الاستشارية لإذاعة البحرين عام 1942 يتوسطهم الشيخ مبارك بن حمد آل خليفة وبينهم عبد الله بن علي الزايد مؤسس الصحافة في البلاد (كتاب «الصحافة البحرينية»)
أعضاء اللجنة الاستشارية لإذاعة البحرين عام 1942 يتوسطهم الشيخ مبارك بن حمد آل خليفة وبينهم عبد الله بن علي الزايد مؤسس الصحافة في البلاد (كتاب «الصحافة البحرينية»)
TT

الصحافة في البحرين... تاريخ يكافح في وجه {أزمة الورق}

أعضاء اللجنة الاستشارية لإذاعة البحرين عام 1942 يتوسطهم الشيخ مبارك بن حمد آل خليفة وبينهم عبد الله بن علي الزايد مؤسس الصحافة في البلاد (كتاب «الصحافة البحرينية»)
أعضاء اللجنة الاستشارية لإذاعة البحرين عام 1942 يتوسطهم الشيخ مبارك بن حمد آل خليفة وبينهم عبد الله بن علي الزايد مؤسس الصحافة في البلاد (كتاب «الصحافة البحرينية»)

في عام 2014، وفي الذكرى الـ75 على صدور أول صحيفة بحرينية (جريدة البحرين) أصدر الكاتب والباحث البحريني صقر بن عبد الله المعاودة، كتاباً وثق بين طياته تاريخ الصحافة البحرينية. الكتاب غني بالتفاصيل وبقائمة المطبوعات على مر القرن الماضي والألفية، ولم تخلُ منه تفاصيل مهمة تشرح لقرائه كيفية تطور الصحافة المطبوعة في البلاد. وبعد أربعة أعوام على إصداره، نعود لاستعراضه وإعادة تقييم المشهد الصحافي في البحرين في ظل التطورات التكنولوجية والتحديات التي يعيشها «الورق» عالمياً.
تقول سميرة رجب، وزيرة الدولة البحرينية السابقة لشؤون الإعلام، التي كتبت مقدمة شاملة في هذا الكتاب، في حديث لـ«الشرق الأوسط»: إن «البحرين كجزيرة في وسط الخليج العربي، كانت أحد أهم الموانئ فيما كان يُعرف بطريق الحرير قديماً ومحطة مهمة لمختلف أنواع الرحالة العابرين بين الشرق والغرب». ولذلك: «اكتسبت هذه الجزيرة الجميلة أهميتها منذ ذلك الزمن من هذا الموقع الجيواستراتيجي المهم، الذي جعل الانفتاح على الآخر من أهم سمات شعبها، وجعلها من أهم مصادر الوعي الحضاري الذي تميز به البحرينيون».
وعلى خطى هذه العقلية المتنورة، تأسست أول صحيفة ورقية فيها عام 1939، وغالباً ما تزدهر الصحافة في البيئات الحضارية النشيطة بالحراك الثقافي والفكري؛ مما أعطى العمل الصحافي في البحرين دفعاً قوياً ليكون مصدر إشعاع ثقافي في منطقة الخليج.

المطابع والمكتبات تعبّد الطريق
كان لكل من المطابع والمكتبات دور محوري في تعبيد الطريق للصحافة في البحرين.
وعندما أسس الأديب عبد الله بن علي الزايد مطبعته عام 1936 وأسماها «مطبعة البحرين ومكتبتها» خرجت للنور أول صحيفة أسبوعية سياسية في الخليج العربي عام 1939 (جريدة البحرين)، بعدها جاءت مطبعة المؤيد عام 1949، وفيها طبعت أغلب صحف حقبة الخمسينات من القرن الماضي. ثم تأسست المطبعة الشرقية عام 1952 وتوالت مطابع عدة بعدها بافتتاح أبوابها.
من الطريف في وسائل توزيع وبيع الصحف في فترة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي أنها تباع أحياناً في محال غير متخصصة حتى في الصيدليات. وقد بدأ توزيع الصحف في البحرين لأول مرة عندما أسس سلمان أحمد كمال في العاصمة المنامة مكتبته التي أسماها «المكتبة الكمالية» عام 1919، ثم توالت وتأسست الكثير من المكتبات والمؤسسات التي تعنى بتوزيع الصحف المحلية والعربية والأجنبية. وتضمنت قائمة أوائل مكتبات بيع الصحف في البحرين المكتبة العصرية والماحوزي، والبحرين، وغيرها.
وأدت المكتبات ومؤسسات توزيع الصحف في الدول الخليجية والعربي، بالإضافة إلى بعض الدول الأخرى، دوراً مهماً في انتشار الصحف البحرينية في الخمسينات. وأولى أصحاب الصحف والعاملون عليها توزيع وانتشار صحفهم خارج البلاد اهتماماً كبيراً، وذلك بالاتفاق مع بعض المكتبات والمؤسسات وتعيينهم وكلاء لبيعها في بلدانهم.

جريدة البحرين... البدايات
رأت الصحافة البحرينية النور عندما قرر الأديب البحرينية عبد الله بن علي الزايد في أوائل مارس (آذار) من عام 1939 تأسيس «جريدة البحرين»، التي أصبحت أول صحيفة أسبوعية سياسية تصدر في منطقة الخليج العربي. كان طموح مؤسسها أن تكون يومية، لكن محدودية إمكانات التحرير والطباعة فرضت عليها أن تبقى أسبوعية حتى توقفها عن الصدور في 15 يونيو (حزيران) من عام 1944.
تكونت الجريدة من أربع صفحات كبيرة، وقبل توقف صدورها بعامين صدرت بورق ملون (الأخضر والبنفسجي)، ذلك بعد نفاد اللون المعتاد للصحيفة بسبب تداعيات الحرب العالمية الثانية على الطباعة.
قامت الجريدة بدور إصلاحي من خلال اهتمامها بشؤون البلاد والمنطقة ونشرها الأخبار، ومتابعتها الفعاليات الثقافية والأدبية والمشروعات الوطنية والإنسانية. لم يكن الهدف من الصحيفة ربحياً، لكن كان لنشر الإعلانات الحكومية وبرامج الإذاعة والإعلانات التجارية حيز في صفحاتها؛ ما موّل استمراريتها. وكان لتعليم المرأة الذي بدأ في البلاد عام 1928 دور في تشجيعها على الكتابة والمشاركة بالصحيفة أيضاً.
أما الجريدة الرسمية، فوزعت أولى أعدادها في 22 مايو (أيار) من عام 1948، وما زالت تصدر إلى اليوم عن هيئة شؤون الإعلام.

مهنة المتاعب في القرن الماضي
«كان القرن العشرين حافلاً بالحركات الثقافية العربية والعالمية، وكان البحرينيون من أوائل المتواصلين مع هذه الحركات معرفياً، بما كانوا يملكون من وسائل إعلام، ومكتبات نشيطة وزاخرة بمختلف أنواع المعارف والصحف والدوريات، ثم بنشاط حركة السفر والانتقال بحكم الموقع الجغرافي للبحرين، إضافة إلى انتشار أعداد كبيرة من الطلبة البحرينيين للدراسة في مختلف الجامعات العربية والأجنبية منذ وقت مبكر». هكذا لخصت رجب الجو العام في البحرين خلال القرن الماضي. الصحف بدأت في التكاثر والتطور كسائر البلاد منذ الخمسينات. وضع البحرين حينذاك في التزام مع ضرورة تحديث المنظمات الإعلامية دون توقف، فتطورت لتكون البلاد أحد رواد الصحافة والبث الإذاعي والتلفزيوني الخليجي والعربي.
وتركيزاً على الصحافة المطبوعة، نتذكر صحف القرن الماضي بدءاً من الخمسينات منها مجلة «صوت البحرين» (1950 - 1954) الأدبية الشهرية التي اهتمت بالقضايا المحلية والعربية، وجريدة «الخميلة» (1952 - 1954) الثقافية التي كان رئيس تحريرها ومؤسسها العراقي كارنيك جور ميناسيان، الذي حرص على الابتعاد عن السياسة والتوجه القومي في المنطقة في حينها، وجريدة «القافلة» (1952 - 1954) التي أسسها مجموعة من المثقفين البحرينيين، وجريدة «الوطن» (1955 - 1956) التي أوقفت عن الصدور لعدم التزامها بالتعليمات والقوانين، و«الميزان» (1955 - 1956) التي حملت نزعات قومية وعانت من الرقابة، وجريدة «الخليج العربي» (1956 - 1961) التي صدرت عن شركة الخليج المحدودة، إحدى فروع شركة «التايمز» للطباعة والنشر المحدودة بالعراق، وتوقفت لعدم الربحية، ومطبوعات كثيرة غيرها.
عقد الستينات كان شاهداً على ولادة مطبوعات أخرى، منها جريدة «الأضواء» التي انطلقت عام 1965 حتى عام 1993 وكانت أول صحيفة سياسية تصدر في البحرين بعد توقف الصحف المحلية عام 1956. وكانت مقالات رئيس تحريرها محمود المردي تمتاز بصراحتها وسخونتها. كما اشتهرت مجلة «صدى الأسبوع»، التي صدرت عام 1969 وتوقفت عام 2004. عُنيت المجلة بأحداث الأسبوع، واهتمت بالشؤون المحلية والعربية والدولية في شتى المجالات.
مطبوعات السبعينات اتخذت طابع التخصص، ولمعت الصحافة الرياضية بمجلة «الرياضة» (1974 - 1987) ومجلة «الملاعب» (1978 - 1979). المجلتان قامتا بالاهتمام بالشؤون الرياضية والشبابية وتغطية النشاطات والمسابقات الرياضية المحلية والخارجية لمختلف الألعاب.
دخلت الألوان والورق المشمع والجماليات إلى صناعة المطبوعات في البحرين في ثمانيات وتسعينات القرن الماضي، كما تطور المحتوى ليصبح أكثر وقتية وشمولية. وكان عام 1989 شاهداً على ولادة جريدة «الأيام» العريقة. وهي مطبوعة يومية سياسة جامعة ترأس تحريرها نبيل يعقوب الحمر ويرأس تحريرها حالياً عيسى الشايجي.
وساهم التطور الإعلامي في تلك الفترة بالتأثير المباشر على جميع جوانب الحياة في البلاد. وعن ذلك تقول: «كان لكل ذلك تأثير مباشر على تأسيس الأحزاب والحركات والتنظيمات الفكرية والسياسية في البحرين، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين تماماً كما كان عليه الحال في كبريات العواصم العربية والعالمية، التي اهتمت بالعملية الثقافية والفلسفية في دعم الحراك السياسي». وتضيف: «لربما كان مقاومة الوجود الاستعماري أحد أهم دوافع الشعب البحريني في هذا الحراك المعرفي والإعلامي والسياسي النشيط، أسوة بباقي دول المنطقة في فترة المد التحرري واليساري والقومي، بجانب تطلعات هذا الشعب في بناء دولة حديثة ونهضة حضارية عصرية».

صحف القرن الحادي والعشرين
مع بداية القرن الواحد والعشرين، الذي تزامن مع تولي الملك حمد بن عيسى الخليفة مقاليد الحكم في البحرين، وانطلاق مشروعه الإصلاحي الكبير الذي شمل كل مرافق الدولة والحياة في البلاد، حاز الإعلام نصيباً كبيراً من اهتمامات هذا المشروع.
وعن ذلك، تكشف رجب عن أن «بند إطلاق الحريات العامة، وحرية الفكر والتعبير عن الرأي بشكل خاص، كان من أهم بنود الدستور البحريني الذي تم تعديله في عام 2002، بعد استفتاء شعبي شامل على مشروع الإصلاح، الذي حاز إجماع المستفتين». وتضيف: «كان من نتائجه الجوهرية ظهور المزيد من الصحف والمجلات والأقلام الصحافية الوطنية لتبدأ الانطلاقة الأهم في مسيرة هذا الإعلام، الذي كان يعاني في العقود الأخيرة من القرن العشرين من ضغوط سياسات الحرب الباردة، كما كان شأن الإعلام العربي عموماً».
وخلال العقد الأول من القرن، دب نشاط كبير في الصحافة البحرينية، من حيث أعداد الصحف وأقلام الرأي والخبر، واستمدت الصحافة من هذا النشاط قوتها وسلطتها بما يتناسب مع بناء المرتكزات الضرورية للتحول الديمقراطي الذي هو من صميم المشروع الإصلاحي.
وانطلقت إثر ذلك صحف عدة، منها جريدة «الوسط» اليومية المستقلة (2002) و«العهد» الأسبوعية الاجتماعية (2003 - 2012)، و«الميثاق» اليومية الشاملة (2004 - 2010)، و«الوطن» اليومية التفاعلية (2005)، و«الوقت» اليومية السياسية (2006 - 2010)، و«النبأ» الأسبوعية (2008)، و«البلاد» اليومية الشاملة (2008).

تحديات الحاضر والمستقبل
تواجه الصحافة والمطبوعات الورقية اليوم في جميع أنحاء العالم تحديات في ظل تضاؤل النشر والتطور التكنولوجي. وعندما يأتي الموضوع للصحافة البحرينية، تقول رجب: إن «المشهد الصحافي والإعلامي في البحرين يحتاج اليوم إلى مزيد من التطوير في مستوى البنية التنظيمية والتشريعية وعلاقتها بالتطور التكنولوجي السريع». وتضيف شارحة: إن «قانون الصحافة والطباعة والنشر لسنة 2002، هو، إلى حدّ اليوم، القاعدة التشريعية الأساسية التي تنظم قطاع الصحافة والإعلام في البحرين، إلا أنه أصبح لا يتماشى مع التطورات الحديثة والممارسات الجديدة للصحافة والإعلام التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بانتشار شبكات الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي». وتستطرد: «التغيير الجذري لمفهوم الجمهور الذي لم يعد مستهلكاً سلبياً للأخبار والبرامج، بل أصبح مشاركاً وصانعاً ومنتجاً لهذه الأخبار والبرامج ضمن ما توفره له منصات المضامين الرقمية المفتوحة والمجانية من إمكانات نشر وتوزيع غير مسبوقة».
ومن الناحية التشريعية أيضاً، ورغم الجهود المبذولة لإصدار نصوص تشريعية تنظيمية تجاري التطور التكنولوجي السريع، مثل السماح للمؤسسات الصحافية باستخدام الفيديو ضمن ضوابط معيّنة، فإنها تبقى حلولاً ترقيعية لا تعالج المسألة في شكلها الجوهري، بحسب رجب.
من جانب آخر، ربما تبقى مسألة ربط تنظيم مواقع الإنترنت الشخصية واستخدامات وسائل التواصل الاجتماعي بالتشريعات المنظمة لوسائل الإعلام، أي المؤسسات الإعلامية، أكبر خطأ استراتيجي. فالممارسات الرقمية الفردية تختلف اختلافاً جذرياً عن الممارسات الرقمية المهنية، ولا يجب في أي حال من الأحوال معالجتها أو تنظيمها في نفس مستوى التقييم والمحاسبة.
وتختتم حديثها بالإشارة إلى أن «هذه الإشكاليات لا تخص البحرين فقط؛ إذ إن أغلب الدول العربية وحتى بعض الدول الأجنبية تعاني من هذه التحديات. وتبين بوضوح أن تنظيم مجال الصحافة والإعلام في ضوء التطورات التكنولوجية المتسارعة، وتداخلها الشديد مع مسائل حرية الرأي والتعبير، أصبح يرهق المشرعين والسياسيين على حدّ سواء».


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام