نظرة على هجوم «داعش» على واحة الفقهاء في ليبيا

تحول مفروض في الاستراتيجية القتالية

قوات تابعة لـ«الجيش الوطني» الموالي لحفتر تتصدى للمتطرفين في طرابلس العام الماضي (رويترز)
قوات تابعة لـ«الجيش الوطني» الموالي لحفتر تتصدى للمتطرفين في طرابلس العام الماضي (رويترز)
TT

نظرة على هجوم «داعش» على واحة الفقهاء في ليبيا

قوات تابعة لـ«الجيش الوطني» الموالي لحفتر تتصدى للمتطرفين في طرابلس العام الماضي (رويترز)
قوات تابعة لـ«الجيش الوطني» الموالي لحفتر تتصدى للمتطرفين في طرابلس العام الماضي (رويترز)

خلف الهجوم الإرهابي الذي شنه تنظيم داعش الإرهابي، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بواحة الفقهاء، والذي أوقع 5 قتلى و10 مخطوفين، في صفوف القوات الأمنية الليبية. ومثل هذه العمليات مؤشر واضح على احتفاظ فرع ليبيا من «جماعة البغدادي»، على قدرة مهمة في زعزعة الاستقرار؛ ليس فقط بمنطقة الجفرة، وإنما في عموم الجنوب الليبي. كذلك يؤكد الهجوم المباغت، على تمتع «دواعش» ليبيا بصمود تنظيمي، واستغلال ذكي للمجال الجغرافي (الجبال والأودية)، لتأمين العناصر المجندة؛ وخلق مناطق آمنة ينطلق منها التنظيم لفرض سياسته الجديدة المعتمدة على الهجوم والاختفاء.
بالتالي يؤكد أيضا التخلي عمليا عن استراتيجية بناء الإمارة بالسيطرة المستمرة على المناطق والمدن، والتي اعتمدها التنظيم، ما بين سنة 2014 و2017؛ وانتهت بهزيمة قاسية للتنظيم وخروجه من مدينة درنة، ثم سرت الاستراتيجية في ديسمبر (كانون الأول) 2016. بعد معركة دامت ثمانية أشهر مع قوات «البنيان المرصوص»، التابعة لحكومة الوفاق الوطني.

سياق رسالة الهجوم
يأتي هذا الهجوم، في سياق مواجهات عسكرية مفتوحة بالجنوب الليبي. هذه المعركة الدائرة بين قوى المعارضة التشادية المتمركزة داخل التراب الليبي، وبين «الجيش الوطني» الموالي للمشير خليفة حفتر مسنودا بقوى قبائلية بالجنوب. كما يأتي هذا الهجوم في الوقت الذي يزداد فيه نشاط الطائرات الأميركية من دون طيار، انطلاقا من قاعدة أغاديز في النيجر؛ والذي يهم مراقبة تحركات «داعش» و«القاعدة»، وشن الهجمات عليهما، لعرقلة نشاطهما في الجنوب الليبي، والحدود التشادية.
غير أن «داعش» ليبيا، أثبت طيلة أربع سنوات من عمره القتالي، أنه تنظيم مرن ومتكيف ومستوعب لنتائج الحرب الأهلية؛ والتمزق السياسي والجغرافي بالبلد. كما أثبت فرع تنظيم أبو بكر البغدادي بليبيا، أن هزيمته في سرت سنة 2017. وفي درنة في أبريل (نيسان) 2016. لا تعنيان موت التنظيم؛ بل تعني تحولا في الاستراتيجية القتالية، واعتمادا تكتيكيا على الاستنزاف، وإرباك الوضع الأمني، وتركيزا وترتيبا جديدين على أهداف بعينها.
ويتضح فعلا أن فرع تنظيم «داعش ليبيا»، يتبنى أيضا استراتيجية تبقيه حاضرا بقوة على المشهد السياسي والأمني الليبي. ففي تبني التنظيم للهجوم على واحة الفقهاء؛ أكد في بيان أصدره عقب الحادث، أنه سيطر على البلدة لعدة ساعات، ونفذ هجوما انتحاريا بانغماسي، ضد «الجيش الوطني الليبي». كما أشار البيان إلى أن عناصر التنظيم اقتحموا «مركز شرطة البلدة وأحرقوه»، وعددا من المنازل بالمنطقة بحثا عن «مرتدين من الجيش والشرطة والصحوات والجواسيس». ويمكن القول إن هذا التحول العملياتي المركز، دشنه التنظيم بالهجوم الإرهابي على مقر المفوضية الوطنية العليا للانتخابات بتاريخ 3‏ مايو (أيار) ‏2018.
من جانب آخر، يمكن التأكيد على أن هذا التحول في السياسة الإرهابية للتنظيم خاصة بالجنوب؛ هو تكيف مع الوضع الجديد الذي فرضه السياق الدولي لمحاربة الإرهاب؛ خاصة دور القوات الخاصة على الأرض، والمراقبة والهجمات الأميركية بطائرة «درون» من دون طيار، التي تنطلق من قاعدة أغادير بالنيجر. فقد شنت وحدات «أفريكوم» الأميركية، عدة هجمات على مراكز «للقاعدة» و«داعش» بالجنوب الليبي، شملت منذ مارس (آذار) 2018 عدة مناطق، مثل مدينة أوباري. كما شنت في سبتمبر (أيلول) 2017، غارتين جويتين قضتا على 17 عنصرا من التنظيم الإرهابي «داعش» في منطقة إلى جنوب سرت، وغير بعيد عن مدينة الجفرة.
كما أن هناك قوات خاصة أميركية لمكافحة الإرهاب، حلت بالبلد منذ أغسطس (آب) 2016؛ بغية تقديم الدعم اللوجيستي للقوات التي تقاتل تنظيم داعش. وسبق لهذه القوات الخاصة الأميركية أن اعتقلت عناصر من «أنصار الشريعة» داخل الأراضي الليبية. فقد أكد الرئيس دونالد ترمب بتاريخ 31 أكتوبر 2017 أن القوات الخاصة، ألقت القبض على مصطفى الإمام بليبيا، بتهمة لضلوع في الهجوم الذي تعرضت له قنصلية بلاده في بنغازي سنة 2012؛ وأنه سيحاكم أمام القضاء الأميركي. وهكذا يلقى مصطفى، نفس مصير أبو ختالة الذي تم اعتقاله، من طرف قوات أميركية داخل ليبيا منذ نحو ثلاث سنوات.
السياق التنظيمي
نظرا لطبيعة العملية والتي تمت بانتحاري وسيطرة مؤقتة وتمشيط للمكان وخطف 10 أشخاص، يرجح أنهم من القوات الأمنية؛ يمكن القول إن وعي تنظيم داعش بمحيطه المحلي، يلعب دورا مهما في استمراره. ذلك أن اعتقال القيادي جمعة القرقعي في منطقة الفقهاء يوم 16 أكتوبر 2018. من طرف الكتيبة 128 التابعة للقيادة العامة للجيش الليبي الموالية للمشير حفتر؛ زادت من إحساس التنظيم بضرورة تأمين المحيط القريب، أخذا بعين الاعتبار الولاءات القبلية والعسكرية للمنطقة.
كذلك، يمكن تفسير رد فعل «داعش» وهجومه على واحة الفقهاء؛ بالضربة القاسية التي تلقاها التنظيم بالمنطقة. فقد تمكنت القوات العسكرية الليبية من اعتقال القياديين الفيتوري والقرقعي، في منطقة غير بعيدة عن واحة الفقهاء؛ ما يشكل انتصارا آخر على التنظيم الإرهابي، وقدرة أمنية للجيش على الحد من تحركات التنظيم.
بالنسبة للتنظيم فإن القرقعي المكنى «أبو الليث» (30 سنة)، هو عنصر مهم لاستمرار التنظيم باعتباره المسؤول عن التموين والإمداد؛ وشارك أو قاد عمليات وقعت في النوفلية وكذلك بمنطقة الجفرة والفقهاء وسرت. ثم إنه قاد هجمات أيضا على عدة بوابات أمنية، وعلى الشركة التركية «أوستايل». ويُظهر فيديو نشره التنظيم سنة 2017 مكانة القرقعي البارزة؛ فقد ظهر بالتسجيل المعنون (فما وهنوا لما أصابهم)، والذي أصدرته ما يطلق عليه التنظيم «ولايه برقة» في 24 سبتمبر 2017.
ولقد سطع نجم القرقعي، باعتباره قائدا محليا بارزا منذ 2016؛ وأصبح «أبو الليث» أميرا لتنظيم داعش على بلدة النوفلية بعد مقتل الأمير السابق قعيم. وبحكم تمرسه وخبرته بالمنطقة وتشعباتها التي تعرف تداخلا مهما بين الإرهاب ومنظمات الجريمة والاتجار بالبشر والمخدرات؛ والتي تتخذ من الطرق الصحراوية مسلكا لتجارة مربحة بين أفريقيا وأوروبا، أصبح القرقعي هو الأمير المحلي الجديد.
ويشير عضو مجلس النواب الليبي عن دائرة الجفرة، إسماعيل الشريف لهذا الواقع المر حينما قال، «لقد حذرنا سابقاً من هشاشة الوضع الأمني في مناطق الهاروج التي تعد ملاذا لكل التنظيمات والعصابات التي تمارس الخطف والقتل والحرابة والاتجار بالبشر والمخدرات».
ومن الناحية التنظيمية شارك القرقعي في عمليات خطف، وقد أظهرت بعض من هذه العمليات جدوائيتها؛ إذ استثمرها التنظيم للحصول على موارد مالية وبشرية. ومن هنا يفهم خطف التنظيم لـ10 أفراد من الشرطة الأمنية، لتحويلهم إلى ضغط قوي على السلطة المسيطرة على المنطقة، وعلى القبائل الموالية لها. فالتنظيم يعتبر أن إلقاء القبض على «أبو الليث»، تم بواسطة رجال القبائل المحلية، الذين يشتغلون بالقوة الموالية للمشير حفتر؛ وبالتالي فإن خطف أبناء القبائل من شأنه، المساعدة على استرجاع أمير «داعش» بالنوفلية. كما أن عملية الخطف تدخل التنظيم في عمليات تفاوض مع وجهاء محليين؛ وأي فشل في استرجاعهم المخطوفين، بالتفاوض أو بتحريرهم، قد يبعد شباب المنطقة الجنوبية، من المشاركة في القوات المناهضة للإرهاب.
سياق تاريخي
الجدير بالذكر أن «داعش ليبيا» ظهر مباشرة بعد سقوط نظام معمر القذافي. ورغم انتشاره المحدود في الوسط الاجتماعي الليبي، فإنه أعلن بشكل علني عن نفسه في ربيع 2014. وبدأ في تنظيم صفوفه، عبر تجنيد محلي ومغاربي ومصري، ليلتحق إلى صفوفه فيما بعد شباب من جنسيات أفريقية؛ خاصة السينغالية والتشادية والسودانية، كما استقبل التنظيم أفرادا من جنسيات أخرى بالشرق.
بعد تأسيسه في درنة، انتقل التنظيم لهيكلة صفوفه ببعض المدن وخاصة بنغازي، قبل أن ينتقل لسرت، التي أعلنت إمارة إسلامية تابعة لتنظيم البغدادي؛ ورغم أن التنظيم الليبي لم يعلن ذلك إلا بعد حسم خلاف داخل التنظيم يتعلق ببيعة البغدادي، فإنه لقي حاضنة اجتماعية مهمة من هذه المدينة التي كانت معقلا لأنصار القذافي. مما حول المنطقة لبؤرة جذب للمقاتلين، وممرا نحو أوروبا استثمرته «داعش» في شن هجماتها هناك.
وكما أن تطور التنظيم الإرهابي كان سريعا ومؤثرا؛ وبلغ أوجه في سرت 2015؛ واستطاع الوصول إلى منطقة بن قردان التونسية الحدودية مع ليبيا. إلا وبسرعة أكبر، عرفت مسيرة التنظيم انهيارا وتشتتا لعناصره، ولجوءا جماعيا إلى الجبال والأودية بالجنوب الصحراوي. ولم يسترد التنظيم بعض أنفاسه إلا بعد انسحاب القوة الثالثة التابعة لمنطقة مصراتة من مدينة الجفرة. ويبدو أن هذا الانسحاب الذي تم في مايو 2017؛ يلقي بظلاله اليوم على واحة الفقهاء التي عرفت تنفيذ التنظيم هجمته الأخيرة، وسيطرة دامت لساعات.
ويذكرنا هذا بهجوم «داعش» في أغسطس (آب) 2017، على حاجز أمني على مدخل الفقهاء وقتل 11 شخصا، بينهم 9 من القوات الموالية لحفتر. كما يذكر لهجوم على واحة الفقهاء الأخير، بذلك الذي تم بحقل الظهر النفطي بمنطقة زلة شمال شرقي الجفرة، فبراير (شباط) 2018، وقتل منها 3 عسكريين من «الجيش الوطني» الليبي.
بكلمة، يمكن القول إن تغيير «داعش» لاستراتيجيته القتالية، يأتي في سياق محلي، مرتبط بانكشاف التنظيم ودعوته المرتبطة بمنظومة «الخلافة المزعومة»؛ فقد عرف التنظيم انحسارا حقيقيا في التجنيد، كما عانى من فقدانه لقياداته ذات التأثير المحلي. وهو ما ساعد على مواجهته من طرف قبائل ومجموعات مسلحة موالية للحكومة بطرابلس، وكذلك قوات مسلحة موالية للمشير حفتر.
ورغم أن التنظيم واع تماما بهذا التحول في محيطه، ولجأ لسياسة تركيز الهجمات على مؤسسات وأفراد الأمن والجيش؛ فإن تكاثف الجهود الوطنية للقبائل والمجموعات المسلحة من جهة، وازدياد وتيرة عمل القوات الخاصة والطائرات الدولية العاملة بالجنوب الليبي على محاصرة نشاط الإرهاب، كلها عوامل تلعب ضد «داعش» وفرضت عليه تغيير استراتيجيته القتالية.
*أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس - المغرب



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.