«الشرق الأوسط» في مهرجان قرطاج السينمائي (6) ... نجيب عياد: «قرطاج» لا يتشبه بأحد ونجومه المخرجون

تسارعت الأيام بـ«أيام قرطاج السينمائي الدولي»، وبتنا قرب ساعات إسدال الستار على الدورة التاسعة والعشرين بعدما عرضت ما مجموعه 206 أفلام في أربع مسابقات وأربع تظاهرات وبرامج موازية.
الليلة يتم توزيع الجوائز، وغداً يعود الضيوف إلى حيث جاءوا محمّلين بالذكريات القريبة وبما شاهدوه وعاينوه من أفلام كانت تحتاج إلى هذا المهرجان لكي تطرح مواهب الواقفين وراءها، وتعزز لحمة الجمهور العريض، بكل فئاته، مع السينما وثقافتها وما تعنيه لمجتمعات اليوم.
لجان التحكيم شاهدت آخر أفلامها، أمس، والتأمت ليلاً، ومن المنتظر لها أن تصل إلى النتائج المرجوّة هذا اليوم ليصار إلى إعلانها غداً.
في نطاق الأفلام التسجيلية الطويلة، تم عرض 14 فيلماً طويلاً يبرز منها «سيلاس» لهاوا إسمان (جنوب أفريقيا) و«بنت قمرة» لهبة داودي (تونس) و«طرس - رحلة الصعود إلى غير المرئي» لغسان حلواني (لبنان) و«تأتون من بعيد» لأمل رمسيس (مصر).
هذا الأخير وثائقي يكشف النقاب عن مناضل فلسطيني ترك فلسطين في عداد من غادرها في العام 1948 إلى بيروت ومنها إلى ألمانيا وفرنسا، وبعد ذلك نجده يشارك القتال مع الجمهوريين ضد الجنرال الإسباني فرانكو. المخرجة تلتقي بابنتيه: واحدة تعيش في اليونان (بعدما كان لها دور في إذاعة «بي بي سي» العربي في الخمسينات والستينات من المقرن الماضي) والأخرى (الأكبر سناً) تعيش في موسكو وليس بينهما لغة مشتركة. خلال بحث المخرجة عن هاتين الشقيقتين المتباعدتين ودور والدهما في الحرب الأهلية في إسبانيا تتوقف جيداً عن محطات عاطفية كاشفة عما يخالج مشاعر كل من الشقيقتين من دون أن يسقط الفيلم في براثن العاطفية.
- ثوابت متميزة
المسابقة الروائية الطويلة تألّفت من 13 فيلماً، معظمها يصلح لدخول المنافسة النهائية عوض إلغائه من الاعتبار.
«البعض» يقول لي: أحد أعضاء لجنة التحكيم «وضع نصب عينيه فيلماً معيناً يريد منحه الجائزة الأولى حتى من قبل استيفاء باقي الأفلام».
هذا الفيلم قد يكون «ريح رباني» للجزائري مرزاق علواش، أو «مسافرو الحرب» للسوري جود سعيد، أو «يوم الدين» للمصري أبو بكر شوقي، و«فتوى» للتونسي محمود بن محمود. ومن المعقول إلى حد ذهاب الجائزة الأولى إلى «صوفيا» للمغربية مريم بن مبارك، أو إلى «رفيقي» للكيني وانوري كاهيو أو «ماكيلا» للكونغولي ماشيري إكوا، ومن المستبعد أن تذهب إلى «يارا» للعراقي عباس فاضل، وهو الفيلم الذي شهد أكبر قدر من خروج المشاهدين.
رغم ذلك، هناك كثيرون أعجبوا بجهد المخرج لفيلم عاطفي صوّره في لبنان حول شاب يخترق عزلة فتاة تعيش مع جدتها في بلدة هجرها أهلها.
استبعاد فيلم واحد أو فيلمين من الحصول على جوائز أولى هو برهان واضح على أن المهرجان أنجز دورة ناجحة قوامها أفلام يستحق كل منها جائزة في مضمار ما. لا يغيب هذا التقدير عن أفلام أفريقية أخرى مثل «سوبا مودا» للكيني (أيضاً) ليكاريون وايناينا أو للفيلم التونسي «ولدي» لمحمد بن عطية.
الناقد فقط هو الذي يتوسع قليلاً في أرجاء تلك الأفلام لينقب عن ملامح إيجابية أو سلبية قد لا تحتل الأهمية ذاتها لدى أفراد لجان التحكيم. لكن السعي لربط السينما العربية بالأفريقية، الذي بدأ واهناً من قبل، بات مكتملاً في الدورتين الأخيرتين كما يرى رئيس المهرجان نجيب عياد:
«نحن مهرجان عربي الهوية، وعربي - أفريقي الجغرافيا، مع امتداد صوب أميركا اللاتينية. ونحن مهرجان لا يتشبه بأحد ولا يريد أن يعتبر نفسه ندّاً لأي مهرجان آخر. هذا ما يسعدنا لأنه يمنحنا التميز ويؤكد ثوابتنا».
- ما هي هذه الثوابت، أسأله فيجيب:
«عندما قابلت المسؤولين كان في ذهني شيء واحد وهو الرجوع إلى الثوابت، الثوابت كانت العودة بالمهرجان إلى ركائزه ومنطلقاته. أنا لا أتحدث عن الحنين إلى الماضي أو النوستالجيا، بل أتحدث عن الحفاظ على الأهداف الحقيقية التي من أجلها أقيم هذا المهرجان، والتي كانت السبب في تميّزه عن سواه. بالنسبة لي الرجوع إلى الثوابت هو وضع المهرجان في قلب الحداثة بالنسبة لأيام قرطاج السينمائية».
عندما طُلب من نجيب عياد القيام بهذه المهمّة خلفاً لمن قاموا بها خلال السنوات السابقة، وضع رؤيته أمام وزير الثقافة والمسؤولين بوضوح وهؤلاء وافقوه على الفور:
«أتمتع بالحرية الكاملة والمسؤولية التامة. اتفقنا سريعاً على أن على المهرجان أن يحافظ على هويته دون التمدد صوب آفاق ليست من شأنه. نحن لا نريد أن نتشبه بأحد مثل (كان) أو سواه. ولا من مصلحة هذا المهرجان أن يتحوّل إلى سجادة حمراء يومية ترحب بالنجوم».
هذا كان نقد بعض الصحافة التونسية، وكان جواب عمّار هو «المهرجان مليء بالنجوم… النجوم هم المخرجون».
لم يجد نجيب عياد أي صعوبات في إقناع المسؤولين برؤيته. كانوا، مثله، يتطلعون إلى استمرار النهج الخاص بهذا اللقاء السينمائي السنوي على النحو الذي يؤمن تلك الخصوصية:
«لقيت كل الحماس من السلطة التونسية التي وضعت ثقتها بي، وتبعاً لهذه الثقة منحتني الموافقة على كل ما أريد القيام به».
بعض المفاجآت كانت بانتظار هذا السينمائي الذي سبق له وأن أدار مهرجاناً آخر في مدينة سوسة هو «مهرجان الطفولة والشباب» بنجاح. حصل ذلك عندما اختار أن تكون السنغال بلداً مكرّماً من أفريقيا. يشرح ما حدث بقوله:
«الترحاب الذي لقيته حال وصلت إلى داكار كان غريباً جداً. من المسؤولين والإداريين والسينمائيين من دون استثناء. قمت بندوة صحافية فتحولت إلى اجتماع شعبي حضره قرابة 40 سينمائياً، إضافة إلى كل الصحافة في السنغال».
العراق هو البلد العربي الذي تم اختياره في هذه الدورة للاحتفاء به. وعن تجربته هذه يضيف:
«ذهبت إلى بغداد. الندوة الصحافية حضرها أكثر من 300 شخص. من العراق عندي وفد من 60 شخصاً يرأسه وزير الثقافة. من السنغال عندي أكثر من 40 شخصاً يرأسهم أيضاً وزير الثقافة الذي أمضى هنا أسبوعاً بكامله».
- خمسة أصوات وما فوق
الاحتفاء بالسينما العراقية كان في واقعه بانوراما عريضة احتوت على 17 فيلماً. هناك أفلام من إنتاج العام الحالي، من بينها فيلم يحتفي بدوره بالسينما العراقية عنوانه «Cinema ‪+‬ 100» لجمال العبيدي، وأخرى من إنتاج الأعوام السالفة أبعدها زمناً «الحارس» لخليل شوقي.
عندما طار نجيب عياد إلى بغداد كان مطلعاً على بعض ما قد يحدث لو ترك الأمر كلية إلى مستقبليه:
«أصرّرت على أن يتم تشكيل وفد جامع لا علاقة له بمذهب أو مصلحة أو اتجاه دون اتجاه. طلبت أن يُعامل الجميع سواسية، وأن تمنح الفرصة لكل الاختيارات من دون تحبيذ خاص. وهكذا كان».
كانت هذه فرصة جيدة للسينما العراقية أن تثير من حولها الاهتمام الذي تستحقه. والمسؤولون تجاوبوا، كما يقول رئيس المهرجان، جيداً.
كل هذا وسواه يضاف إلى قائمة طويلة من الإيجابيات التي استطاع المهرجان إنجازها في عاميه الأخيرين. رغم ذلك، صرّح عياد للتلفزيونات التونسية بأنه سيترك المنصب مع نهاية هذه الدورة. أسأله عن السبب فيجيب:
«في الأساس اتفاقي هو لعامين، وقد أنجزت خلالهما ما أردت وفريقي إنجازه. أنا منتج في الأساس وأريد أن أعود إلى مهامي الإنتاجية».
لا يبدو أن عياد قلق على تبعات ذلك. ورداً على سؤال حول ما إذا كان يخشى أن يستلم المنصب من ليس كفؤاً، أو لا يستطيع تأمين النجاح ذاته قال:
«إذا حدث ذلك، فإن هذا يعني أنني لم أنجح. لأن النجاح يعني الاستمرار. لكن هناك عدة أشكال للوجود. من بينها أن أتولى مهاماً استشارية مثلاً. أفكر في طريقة أستطيع فيها الحضور من دون رئاسة. لأن هذا المهرجان يحتاج إلى وقت كامل. إلى سنة متواصلة من العمل، وهذا ما نقوم به بعدما تم تخصيص المكان الذي نستطيع، أنا وفريقي، العمل فيه طوال الوقت».
لا يرى رئيس المهرجان بداً من قيام «أيام قرطاج السينمائية» بعرض أفلام تدور حول ما يحدث في الواقع. وطريقة عمله، كما يشرحها، هي ترك حرية الاختيار للجنة المشاهدة المؤلفة من عشرة أشخاص:
«لا أرى كل الأفلام، لأن المنهج الذي أتبعه هو أنه إذا جلب الفيلم المرسل إلينا خمسة أصوات من قبل لجنة الاختيار دخل المسابقة. إذا صوت له أقل من خمسة، قمت بمشاهدته بنفسي لكي أتأكد من صلاحيته أو عدمها».
الناتج والحصيلة هي توزع قضايا يخوضها العالم العربي على أكثر من فيلم.
ففي عداد الأفلام التي تتحدث عن العلاقات الأسروية شاهدنا «صوفيا» لمريم بن مبارك (المغرب) و«فتوى» لمحمود بن محمود (تونس) و«ولدي» لمحمد بن عطية (تونس) و«في عينيا» لنجيب بلقاضي (تونس) و«عزيزة» لمحسن بصري (المغرب).
بعض هذه الأفلام كانت لها قضاياها المتعلقة بآفة التطرف والعمل الإرهابي مثل «فتوى» و«ولدي»، وهما ينضمان إلى فيلم «ريح رباني» لمرزاق علواش (الجزائري).
كذلك سادت الأفلام التي تتحدث عن أشخاص مصابين بمرض عضال أو بتشويه جسدي أو بعارض صحي دائم. هكذا حال «يوم الدين» (عن الجذام) وحال «ولدي» (صداع نصفي) وحال «في عينيا» (التوحد) والفيلم القادم من الكونغو «ماكيلا» (الإدمان) والفيلم الكيني «سوبا مودو» (يدور حول فتاة على بعد أيام من الموت).
الأفلام التي خرجت عن هذه التصنيفات هي «رفيقي» (كينيا) و«مسافرو الحرب» (لبنان) و«يارا» (العراق).
وجرت العادة على أن تستولي النواحي الضمنية على لجان التحكيم. أفلام كثيرة في تاريخ المهرجانات كافة مُنحت جوائز بسبب مواضيعها وليس بسبب كفاءاتها وكيفيات معالجتها لتلك المواضيع. وهناك من لجنة التحكيم في هذه الدورة الآيلة لإغلاق الستارة على أفلام المسابقة (تتواصل عروض خارج المسابقة ليومين) قد تشهد مثل هذا الوضع لكثرة الأفلام التي يمكن أن يُحكم عليها عاطفياً.
لكن هذا مجرد احتمال. وحتى ولو حدث ذلك فإن هذه الدورة شهدت النجاح الجيد الذي طمحت إليه على أكثر من صعيد. السينمائيون كانوا بوفرة حاشدة والجمهور كان، كعهده، شغوفاً جداً بمتابعة كل ما يعرض على شاشات المهرجان. بين الاثنين، السينمائيين والجمهور، يكمن الوجه البديع «لأيام قرطاج السينمائية».
- الأفلام والممثلون المستحقون
> ليس معروفاً، بطبيعة الحال، من ستؤول إليه جوائز المهرجان من أفلام أو سينمائيين، لكن المؤكد هو أن المنافسة شديدة، والأنظار كلها تتوجه منذ يومين إلى تلك اللحظة التي سيتم فيها إعلان النتائج.
التالي ما نراه مستحقاً أكثر من سواه، وربما بعض ما يرد هنا سينال بالفعل تلك الجوائز المنتظرة:
-- أفضل فيلم:
- اختيار الناقد: «فتوى» لمحمود بن محمود (تونس)
- الفوز المتوقع: «فتوى» أو «مسافرو الحرب» لجود سعيد (لبنان)
-- جائزة لجنة التحكيم الخاصة:
- اختيار الناقد: «في عينيا» لنجيب بلقاضي (تونس)
- الفوز المتوقع: «مسافرو الحرب» أو «يوم الدين» لأبو بكر شوقي (مصر)
-- أفضل سيناريو:
- اختيار الناقد: «فتوى»
- الفوز المتوقع: «ريح رباني» لمرزاق علواش (الجزائر)
-- أفضل إخراج:
- اختيار الناقد: محمود بن محمود عن «فتوى»
- الفوز المتوقع: لمحمود بن محمود عن «فتوى» أو لنجيب بلقاضي عن «في عينيا»
-- أفضل ممثل:
- اختيار الناقد: أحمد الحفيان عن «فتوى»
- الفوز المتوقع: نضال سعدي عن «في عينيا» ومحمد ظريف عن «ولدي» لمحمد بن عطية (تونس)
-- أفضل ممثلة:
- اختيار الناقد: أمور لومبي عن «ماكيلا» (كونغو)
- الفوز المتوقع: مها علمي عن «صوفيا» لمريم بن مبارك (المغرب)