«العالم السريّ»... مفاصل خفيّة لا يكتمل تاريخ من دونها

كريستوفر أندرو يكتب تاريخ الاستخبارات

هتلر  -  ستالين
هتلر - ستالين
TT

«العالم السريّ»... مفاصل خفيّة لا يكتمل تاريخ من دونها

هتلر  -  ستالين
هتلر - ستالين

التجسس، يذكّرنا البروفسور البريطاني كريستوفر أندرو في كتابه الجديد «العالم السريّ: تاريخ للاستخبارات» بمهنة قديمة قدم التاريخ، لكنها مع ذلك، وبحكم طبيعتها، تلتحف العتمة وتعشوشب في الخفاء، فتفتقد إلى سجلات تاريخيّة متكاملة عنها، ويُخفق مؤرخون ومعلقون على وقائع الأيام في تدارك دورها، أو حتى تقييم مساهمتها تجاه تشكيل رحلة التاريخ عبر محطاته المختلفة. ويبدو كتاب البروفسور الموسوعي الجديد (صدر بالإنجليزيّة بعنوان The Secret World: A History of Intelligence) محاولة فردية لتدارك هذا الفراغ المتأصل عبر سجل مفصّل حد الإمتاع من الأخبار المتعلقة بفنون الجاسوسيّة ونجاحاتها، وكثير من قصص إخفاقاتها كذلك، في 800 صفحة أتبعها بملاحق ووثائق.
ينطلق أندرو، الذي اشتهر بريطانياً بكونه المؤرخ الذي كلّف بكتابة سيرة مصرّح بها لجهاز الاستخبارات البريطاني (المعروف بـMI6)، من قناعة بأن تاريخ التجسس، الذي غالباً ما يساء فهمه، هو جزء أساسي من السياق التاريخي الكلّي، وهو لذلك نظّم كتابه وفق المراحل التاريخيّة للتجربة البشريّة، كما رآها الغرب، ويستعيد قصصاً توراتيّة من العهد القديم ليدلّل على تلازم مسار السياسة والسلطة مع العمل الاستخباري، قبل أن يكيل المديح للصينيين والهنود في إمبراطورياتهم القديمة لإدراكهم قيمة العمل الاستخباري، معتبراً أن «فن الحرب» لسن تزو، وأيضاً كتاب «الأرثاشاستارا» الهندي (الذي بقي مفقوداً لألف عام)، إشارات مبكرّة على النّظرة الاستراتيجيّة التي منحها القادة السياسيون والعسكريون في الشرق للمعلومات حول الأعداء الخارجيين والداخليين لكسب الصراعات، مقابل النزعة الاستعلائيّة الرومانيّة تجاه البرابرة الجرمان مثلاً، واعتمادهم على تخرصات العرّافين التي تسببت في توقف توسع الإمبراطوريّة نحو الشّمال الأوروبيّ. لكن «العالم السري» يأخذ منحى أكثر قيمة عندما يتجاوز السردُ الحكايات التاريخيّة المتسمّة بالتعميم، وانعدام وسائل التثبت، وينتقل إلى مرحلة عصر النهضة الأوروبي، الذي تتوفر عنه وثائق كثيرة.
ومن الواضح أن شبكات الاستخبارات كانت وقتها مكوناً أساسياً من أدوات السلطة في نموذج الدولة الذي عرفته العصور الوسطى: من فينيسيا - البندقيّة إلى الفاتيكان وممالك إسبانيا وفرنسا وإنجلترا. ويسجل المؤلف هنا الدور الاستثنائي الذي لعبه فرانسيس وولسينغهام، القائم على استخبارات الملكة إليزابيث الأولى، في حفظ الحكم لآل ويندسور، من خلال مؤامرته الحاسمة لإسقاط ماري، ملكة اسكوتلندا، التي تبيّن لاحقاً أنه زوّر رسائل باسمها تسببت في مصيرها القاتم. كما يعتبر أن سرّ انتصار القائد الإنجليزي ويللينغتون على نابليون بونابرت إمبراطور فرنسا وأهم عقولها العسكريّة إنما كان تحديداً بفضل شبكات المعلومات التي استمع إليها ويللينغتون جيداً، بينما تجاهلها نابليون مكتفياً بالاعتماد على ذكائه الاستراتيجي الاستثنائي فحسب.
معظم تاريخ الاستخبارات المعروف يتراكم في مرحلة القرن العشرين، بعدما تحولت شبكات التجسس إلى لازمة لعمل الدولة الحديثة عبر التقلبات والحروب والكوارث الحادة، لا سيما الحرب العالمية الأولى والثانية، ولاحقاً الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، رغم أن الحكومة البريطانية بقيت لنهاية الثمانينات تنكر بصلافة تثير السخرية أن لديها خدمة سرية. ويعتقد أندرو فيما يتوفر لديه من المعلومات عن صنعة التجسس في روسيا - وكان قد كتب تاريخاً للاستخبارات السوفياتية بالتعاون مع المنشق الروسي أولغ جورديفسكي - أن حنكة موسكو الاستخبارية تفوق بمقدار الثلث على الأقل مثيلاتها الغربية، رغم أنها عانت من بارانويا القيادة السوفياتية، وبالأخص جوزيف ستالين الذي لم يصدق تقارير وصلته بشأن عزم هتلر شن هجوم واسع النطاق على روسيا، معتبراً إياها أخباراً مضللة يروجها البريطانيون، بعدما كان قد وقّع شخصياً منذ بعض الوقت اتفاق عدم اعتداء مع ألمانيا. وقد أصدر ستالين أمراً بإعدام مرسلي تلك التقارير، وأهمل محتواها تماماً، وهو ما تسبب لاحقاً بخسارة عدة ملايين من جنود الجيش الأحمر بلا طائل في مواجهة المراحل الأولى من الهجوم الألماني الكاسح، الذي لولا عوامل لوجيستية وجغرافيّة وسوء تقدير لكان قد أسقط موسكو نفسها.
يحاجج الكاتب بافتقاد الممارسة الاستخبارية المعاصرة للحس التاريخي، على نحو يتسبب فيما يرى بتكرار أخطاء تكون فادحة أحياناً. ويحمل مسؤولية ذلك النقصان بشكل جزئي ربما لغياب النصوص التاريخية التي تفكك التجارب الاستخبارية على المدى الطويل، لكنه يرى أن التكنولوجيا الجديدة، وتشظي المعارف على الإنترنت، وفرت للجيل الجديد من الاستخباريين معلومات كثيرة، بل ومنهم كثيرون مؤهلون في علوم التاريخ، لكن سعة الاطلاع تلك لم تكسبهم الحس التاريخي بسبب اشتراك معظمهم في الخطأ المعرفي حول «أن الظروف مختلفة هذه المرّة».
ويكشف الكاتب أن العالم السري لأجهزة الاستخبارات اليوم ما هو إلا ماكينات بيروقراطية ضخمة تجمع كمَّ معلومات هائلاً من مصادر متقاطعة، وتستخلص استنتاجات تكتسب قيمتها الاستراتيجية من خلال عدم معرفة الطرف موضوع التجسس باطلاع تلك المكائن عليها، والأهم دائماً قدرة متخذ القرار على استيعاب أبعاد التعامل معها. وهو لذلك عالم ممل بطيء محمي من العيون، رغم الصورة البراقة عنه التي يحمّل أندرو مسؤوليتها إلى الروائيين الإنجليز في القرن العشرين الذين أضفوا على شبكات التجسس والعملاء هالة سحر وتفوق جمّلَت صورتها أمام العامة، بعدما كانت تُعاب دائماً لأدوارها القذرة في مراقبة الناس، وملاحقة بريدهم، بوصفها «مهنة لا تليق بإنجليزي متحضّر».
عند المؤلف، لم تتغير أساسيات العمل الاستخباري كثيراً عبر العصور، وإن اكتسبت مزيداً من ثراء المعلومات المتوفرة لها مع كل تطور في صناعة تكنولوجيا الاتصالات، لا سيما مرحلة اختراع التليغراف، ولاحقاً تطور الحواسيب وأنظمة الهاتف والإنترنت وقواعد البيانات الضخمة. فهو يقول مثلاً إن أحدث تقنيات التعذيب لاستخلاص المعلومات، التي كُشف عام 2007 عن أن المخابرات المركزيّة الأميركيّة تستعملها، هي طرائق كانت متداولة في محاكم التفتيش الإسبانية سيئة السمعة، التي تعتبر مناهجها بمثابة أدلة عمل تلهم الاستخباريين المعاصرين، ويتطرق بتوسع للخبرة الأميركية في العمل التجسسي بوصفها الدولة الحديثة الأعظم، وهي خبرة بدأت أيام جيل الآباء المؤسسين، ويَذكر أن جورج واشنطن خصص ما معدله 12 في المائة من الميزانية الفيدرالية للإنفاق على الأنشطة الاستخباريّة المتنوعة. وينتقد الكاتب بشدة تنازع الصلاحيات بين الأجهزة الأمنية المختلفة في الولايات المتحدة، الأمر الذي يرى أنه تسبب - وما زال - في وقوع فجوات تغطية أمنية خطيرة فيما بينها. ويعتبر أن حادثة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) كان يمكن تجنبها، لو امتلكت المخابرات المركزية الأميركية الخيال الكافي لتوقع هجوم رمزي كبير، بعد تعدد الإشارات الواضحة على وجود ذلك التوجه، بما فيها هجوم فاشل سابق على ذات مركز التجارة العالمي المستهدف لاحقاً بهجوم الطائرات المدنية المختطفة.
ومع كثرة تفاصيله، وتعدد ما يرويه من اللطائف والنوادر في دهاليز الاستخبارات الخفية عبر حقب التاريخ ومحطاته، فإن «العالم السريّ: تاريخ للاستخبارات» سيكون بمثابة أنسايكلوبيديا بريطانية متخصصة في موضوعها، تكتفي بتسجيل الحوادث دون امتلاكها نظرية شاملة لنقد التجارب المختلفة للعمل الاستخباري عبر تاريخ العالم بنجاحاته وإخفاقاته، المعروف منها والمخفي. فالمعلومات وحدها، دون القدرة على استخلاص استنتاجات عامة للاستفادة منها في اتخاذ القرار، تبقى مجرد نشاط بيروقراطي ممل آخر، كما يرى البروفسور أندرو نفسه، ولذا فإن هذا السِفر العظيم القيمة سيبقى ناقصاً دون نص لاحق ينظرّ لإطارات كلية تفسّر حراك التاريخ العلني بالاستفادة من حراك التاريخ السري الموازي.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.