قصص تقاوم الخراب باكتشاف جمال الحياة

«نهار بطيء» للعراقي حيدر عبد المحسن

قصص تقاوم الخراب باكتشاف جمال الحياة
TT

قصص تقاوم الخراب باكتشاف جمال الحياة

قصص تقاوم الخراب باكتشاف جمال الحياة

عندما ينتهي المرء من قراءة «نهار بطيء»، سيكتشف مستغرباً أن قصصه القصيرة تدور في فضاء متحرر تماماً من الوضع السياسي - الاجتماعي السائد في بغداد، كأن هناك إمكانية للعيش السوي في عالم يتخلله العنف واختلال الأمن والاستقرار، وهذه نقطة مضيئة تحسب لصالح القاص والشاعر حيدر عبد المحسن، فمقاومة قوى الخراب اليومية باكتشاف جماليات الزمن الإنساني المُعاش ضمن شروط حياتية كالتي يعيشها العراق منذ سقوط النظام السابق هو بحد ذاته إنجاز كبير. وحين يترافق ذلك مع تقديم قصص قصيرة تمتلك كل الخصائص الأساسية في هذا الصنف الأدبي المعقد فإن الإنجاز يصبح معلماً متميزاً ضمن تاريخ الأدب العراقي الذي يمتلك آليته الخاصة بالنمو والتطور بشكل متخارج عن الشروط المادية التي يعيشها المجتمع.
يضم الكتاب بين دفتيه تسع قصص قصيرة تحتل خمساً وتسعين صفحة و35 قصة قصيرة جداً تحتل ما يقرب من عشرين صفحة. وكان الأجدر بالكاتب الاكتفاء بالقصص القصيرة التسع التي تمتلك تقنيات وثيمات مترابطة وإصدارها لوحدها بدلاً من حشر جنس أدبي آخر له خصائصه المختلفة وأعني به القصة القصيرة جداً، فكأنما وضع القاص عبد المحسن مجموعتين قصصيتين معاً على الرغم من اختلاف مناخيهما وتقنياتهما تماماً.
في قصصه القصيرة ينجح عبد المحسن بإقامة معمار كل منها على المشهد الواحد، لكن هذا المشهد غني بالآلات الموسيقية التي تظل تتناوب على تلوين لحنه ذي المقام الواحد، مثلما هو الحال عند الاستماع إلى قطعة جاز موسيقية. التناوب الذي يجري هنا بين الرصد المستمر للعالم المادي المحيط بالأفراد بتفاصيله الدقيقة من ألوان وأشكال، وبروائحه وأصواته المختلفة، وبالرصد المتواصل للعالم الداخلي للبطل عبر المونولوج المتفاعل مع تفاصيل العالم الخارجي، فكأننا نسير فوق سجادة مُحاكة بطريقة بارعة.
لعل القصة القصيرة الوحيدة التي لم تُطبخ على نار هادئة هي «جرح غائر» ،وهي النص الوحيد الذي لا يستخدم الكاتب تقنية المشهد الواحد، ويبدو مسار الأحداث فيه مفتقداً لوحدة الزمان والمكان في بناء المشهد، وفي الوقت نفسه يقع في مطب «تربوي» بشكل ما أو هكذا بدا لي.
الخاصية الثانية التي قد يتلمسها القارئ في كثير من هذه القصص هو التحول المفاجئ في إحدى الشخصيات الرئيسية، وهذا التحول يكشف عن وجود إنسان آخر داخل الإنسان نفسه، ففي قصة «قناع»، المكتوبة بصوت ضمير المتكلم (الشخص الأول) نتابع زيارة شاب لبيت ابن عمه المعاق، باسل، ومحاسن زوجة عمه المتوفى قبل أشهر، وإذ يتعرف المتلقي على الحالة الصحية المؤلمة التي يعاني منها المريض المقعد على كرسيه بسبب إصابته القديمة بالتدرن، والتي تجعله قريباً من حالة الاحتضار، فهو قد يلمس ذلك الانجذاب الخفي بين الزائر ومحاسن من دون أن يكون هناك أي إفصاح مباشر له، ثم يأتي التحول في ابن العم باسل الذي ينهض من سريره، مهدداً ابن عمه وأمه بعد فقدان قصير لذاكرته: «من أنت؟ ماذا تفعل بجوار أمي؟.
يتكرر هذا التحول المفاجئ واستيقاظ شخص آخر نقيض لشخصية البرسونا (القناع) في قصة «حارسان». هنا يتقاسم حارسان غرفة صغيرة على الحدود، وحولهما تعوي الذئاب وفي أعماق أحدهما يسكن خوف عميق، بينما يبدو الآخر الضخم الذي يطلق عليه الراوي اسم (الفيل) في حالة انسجام مع نفسه، شجاعاً ومتطامناً وقادرا على النوم دون خوف في سريره.
هذه القصة هي الأكثر تألقاً بين النصوص التسعة، فكأننا نتابع مونولوجين يتداوران مع صوت الراوي الذي يجعلنا بين لحظة وأخرى نتلمس ونسمع صوت الرعد والذئاب والرياح ونشعر بالبرد القارس والخوف من المجهول في تلك الحجرة الباردة الموحشة. لكن هذه الحال تنقلب عند الفجر، إذ يكشف اللاشعور لدى «الفيل» شخصاً آخر مسكوناً بشعور بالعار، وحالما يرى أمامه الجندي الآخر يطلب منه أن يقتله، وحال رفض الأخير ذلك يقرر هو قتله.
في ذلك الفضاء الغريب الذي ينقلنا القاص عبد المحسن إليه (حيث الجندي الأضعف ينطلق فيه هرباً من رفيقه الذي راح يطلق النار صوبه) ثم يتركنا معه دون معرفة ما سيحل به، هل سينجو أم ستصرعه طلقة طائشة: «شعر بالخوف يشل أطرافه، شحرور كان يتقافز على غصنٍ عارٍ، كأنما يرسل إليه إشارات أنه سوف لا يرى ذئباً في المكان، ولم يكن متأكداً تماماً من ردة فعله فيما لو هاجمه ذئب أو قطيع من الذئاب».
في قصة «نهار بطيء» التي تحمل عنوان الكتاب، يتغير الإيقاع والحبكة عن القصص الأخرى، فهنا ترصد القصة نهاراً عادياً يعيشه عاشقان في شقة لوحدهما، ونحن من خلال شعرية المناخ نتلمس تلك السعادة الداخلية التي عبر عنها الراوي باتباع صوت ضمير المخاطب، فكأننا أمام بانوراما الاحتفال بالحياة بتفاصيلها الصغيرة: «على المائدة ثلاثة صحون من البسكويت المملح، والبيض مع الزبدة ومربى التين، بالإضافة إلى كوبين من الحليب المحلى، وسلة الخبز المحمص، ومفرش المائدة بلون المولاس الخفيف الذي انتشرت عليه نتف صغيرة من نبات الخشخاش الأصفر، تتلألأ مشعة بهجة في النفس».
قصص هذه المجموعة تكشف عن براعة فنية متميزة حيث التمويه والكشف يتداخلان بشكل متوازن، وحيث الإيحاء هو الطريقة للتعبير أكثر من الإعلان.
إنها قصص تحتفل بالحياة: بالكشف الممتع عن خبايا لحظاتها بين الضوء والعتمة، بين الغيوم والرعد والبرق والنباتات والحيوانات وغيرها، وتحقيق ذلك في ظروف العراق الحالية مهمة شاقة ومعقدة.
حيدر عبد المحسن في مجموعته القصصية «نهار بطيء» يترك بصمة متميزة لهذا الفن الصعب.
يشبِّه الناقد الفرنسي ميشيل بوتور القصة القصيرة بالغرفة التي تتطلب أعلى درجات الترتيب والتوازن مقارنة بالرواية التي يشبِّهها بالبيت القابل لتوزيع الأشياء على غرفه الكثيرة وإخفاء الزوائد بينها، وفي قصص هذه المجموعة يتحقق هذا الشرط بشكل متقن وأنيق.


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.