بروفايل: الدبلوماسية سهلي - ورق زودي أول سيدة تترأس إثيوبيا

«حسناوات الهضبة» يمسكن بزمام السلطة في أديس أبابا

بروفايل: الدبلوماسية سهلي - ورق زودي أول سيدة تترأس إثيوبيا
TT

بروفايل: الدبلوماسية سهلي - ورق زودي أول سيدة تترأس إثيوبيا

بروفايل: الدبلوماسية سهلي - ورق زودي أول سيدة تترأس إثيوبيا

انتخب البرلمان الإثيوبي يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي سهلي - ورق زودي رئيسةً للدولة بغالبية ساحقة، ليجعل منها أول امرأة تتقلد المنصب الرفيع في تاريخ إثيوبيا الحديث، وذلك خلفاً للرئيس السابق مولاتو تشيومي الذي تقدم باستقالته فجأة ومن دون مقدمات. فمنذ الإمبراطورة توتا بتول، زوجة الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني، التي شاركت في قيادة جيوش الإمبراطورية في معركة عدوة، التي هزم فيها الاستعمار الإيطالي، لم تجلس امرأة إثيوبية على منصب بهذه الأهمية.
وعلى الرغم من أن منصب «رئيس الدولة» في إثيوبيا يعد منصباً بروتوكولياً؛ لأن الدستور الإثيوبي يعطي الصلاحيات التنفيذية الواسعة لرئيس الوزراء، فيتيح له نفوذاً سياسياً كبيراً، فإن اختيار زودي للرئاسة ينتظر أن يعطي المنصب الكثير من الديناميكية والتأثير، وأن تنفح فيه من «روح المرأة الإثيوبية»، لتحقيق المساواة بين الجنسين.

بدت الدبلوماسية سهلي - ورق زودي «مزهوّة» بتحقيق حلم والدها بأن تصبح ذات شأن، ويا له من شأن، فقد احتلت منصب السيدة الإثيوبية الأولى التي تتولي منصب رئيس الدولة.
وقالت زودي في كلمتها إلى البرلمان غداة انتخابها رئيسة للدولة بغالبية كاسحة «نحن أربع شقيقات، كان والدي يقول دائماً وبفخر إنه أب للإناث، تنبأ لنا بأن نكون أفضل من الرجال بالعلم». وأبدت امتنانها لجهود والدها التي أثمرت بنيلها المنصب الكبير، بقولها: «أنا أقف اليوم لأشكر والدي، وأقول له إنني وصلت إلى هذا المنصب وحققت رؤيتك... أقول لكل امرأة ولكل أب وأم لإناث، إننا تساوينا ولم يعد هناك فرق بين الرجال والنساء بعد اليوم».
أكدت سهلي - ورق في كلمتها للبرلمان، إنها ستركز على قضايا المرأة ودعم مواصلة الجهود الإصلاحية التي يقودها رئيس الوزراء آبي أحمد، وتابعت في تصريحات «يمكن أن يحافظ التغيير الذي تشهد إثيوبيا على زخمه، إذا كان يتزعمه الرجال والنساء بالتساوي، ويمكن أن يؤدي إلى إثيوبيا مزدهرة خالية من التمييز الديني والعرقي والجنسي؛ لذلك أؤكد أن أعمل خلال فترة ولايتي على تعزيز دور المرأة، وحفظ السلام من أجل النساء». ثم أضافت: «إذا كانت الإصلاحات التي بدأناها يقودها بنفس القدر من الرجال والنساء على حد سواء، فإن البلاد ستنسى في وقت قريب الفقر والتخلف وتتحرك نحو الازدهار... إن الإثيوبيين في حاجة إلى بناء مجتمع يرفض اضطهاد المرأة».
في الواقع، جاء اختيار زودي رئيسةً إكمالاً لحزمة إصلاحات يقودها رئيس الوزراء آبي أحمد، الذي ظل يعمل منذ انتخابه في مارس (آذار) الماضي، على سياسة جديدة وغير معهودة في البلد الذي ظل يتبع تقاليد صارمة بشأن الحكم. وهزت خطواته الجريئة أسس وتقاليد الحكم المتوارثة في «الإمبراطورية» القديمة، بتكوينه حكومة من عشرين وزيراً نصفهن من النساء، ومنحهن في تلك التشكيلة مناصب وزارية سيادية رفيعة، لم تكن متاحة للنساء من قبل.
إذ اختار رئيس الوزراء عائشة محمد وزيرة للدفاع، وباتت أول امرأة تتولّى هذا المنصب الحساس الذي كان حكراً على الرجال، ضارباً بذلك أسس المحاصصة العرقية التي ظل الحكم في إثيوبيا يقوم عليها منذ وصول التحالف الحاكم لأديس أبابا، وزيرة الدفاع من عرقية «العفر» الصغيرة المسلمة. وأكمل آبي أحمد ثورته في هزّ قيم الحكم الإثيوبي باستحداث «وزارة السلام» واختار لها الوزيرة الشابة مفريات كامل على رغم من حساسية المنصب الذي يدير قوات الشرطة والأمن وغيرها. ثم اختتم «ثورته الجندرية» بتعيينه يوم الخميس الماضي السيدة مآزا أشنافيفي في منصب رئيسة المحكمة العليا لتغدو أول سيدة تتولى المنصب هي الأخرى. وبحسب مصادر صحافية، كان آبي قد قال بعيد إعلان حكومته: «المرأة ستساعد في محاربة الفساد، لأنها أكثر كفاءة وأقل فساداً من الرجل»، بينما نقلت عنه «العربية نت» قوله «وزيراتنا سيحطمن المقولة القديمة بأن النساء لا يصلحن للقيادة».
وفي العاصمة السودانية الخرطوم، علّق رئيس البعثة الدبلوماسية الإثيوبية أمسالو هيتي لـ«الشرق الأوسط»، على انتخاب زودي قائلاً: إن «خبرات السيدة سهلي - ورق الكبيرة، المحلية والدولية، ستسهم بشكل كبير في تطور البلاد وتنميتها وترسيخ الديمقراطية والسلام والوحدة في البلاد». وأردف: «كامرأة يمكن أن تسهم بشكل كبير؛ لأن النساء هن اللاتي ينعكس عليهن تطور المجتمع سلباً وإيجاباً»، وتابع: «الرئيسة سهلي - ورق كامرأة يمكن أن تحشد النساء في اتجاه تحقيق التنمية، وفي تطور البلاد».
وإضافة إلى خبرات الرئيسة الجديدة، ولكونها امرأة يمكن أن تحشد جهود النساء من أجل التنمية، يرى الدبلوماسي الإثيوبي أن بلاده ستستفيد كثيراً من علاقات الرئيسة الدولية والإقليمية»... بل ويمكنها توظيف هذه العلاقات لخدمة إثيوبيا...أنا مقتنع بذلك، إنها ستفعل».
من جهته، يقول محمد حامد جمعة، الصحافي السوداني المتخصص في الملف الإثيوبي، إن منصب رئيس الجمهورية كان قد استحدث لخلق توازن بين القوميات الإثيوبية، وإرضاءً للمحاصصات القبلية التي كان الحكم في إثيوبيا يقوم عليها. وأوضح جمعة، أن رئيس الوزراء آبي أحمد بعد مجيئه للسلطة خالف المتعارف عليه، واعتمد طريقة جديدة في اختيار معاونيه ووزرائه، تعتمد على الكفاءة وتتجاوز العرق والإثنية والقومية، وتقوم على الكفاءة والشباب.
ورأى جمعة، أن اختيار سهلي - ورق زودي رئيسةً جاء لإكمال سلسلة حلقة ومفاهيم «جندرية»، هي «إكمال تمكين النساء الذي بدأه بإعطاء نصف الحقائب الوزارية في الحكومة الإثيوبية للنساء، وتمكينهن من وظائف مثل وزارتي الدفاع والسلام اللتين تعدان من أخطر الوزارات وأكثرها حساسية».
ويوضح جمعة، أن الرئيس الشاب اعتمد على الشباب كلياً في إدارته الجديدة، واختار المؤهلات بديلاً للمحاصصات، مستطرداً «لقد عيّن الرجل 55 وزير دولة من الشباب دون مراعاة لأي جوانب إثنية، فقط لأنهم مؤهلون». وهو يقطع بأن رئيس الوزراء يسعى لتغيير الموازنة السياسية التقليدية في إثيوبيا، معتمداً على «الجندر» والمساواة بين الرجال والنساء، والشباب للتخلي عن المحاصصات الإثنية. ثم يوضح «هو يريد خلق هذه المناسبة لتحقيق هدفين، أولها إرسال رسالة يخاطب بها العالم بأن شيئاً إيجابياً وجديداً يحدث، ورسالة للداخل تكسب النساء وتحشدهن من أجل الإصلاحات التي يقوم بها».
وعلى الرغم من مراسمية منصب رئيس الدولة في إثيوبيا ورمزيته، فإن جمعة يقطع بإمكان إحداث الرئيسة سهلي - ورق اختراقاً يتيح لرئيس الوزراء إيكال بعض الملفات لها، ويشرح «إنها سيدة مقبولة في المجتمع الدولي، وخبراتها المتراكمة تتيح لها تولي بعض ملفات رئيس الوزراء خاصة في الجانب الدبلوماسي... ولقد كانت كلمتها في احتفال جنوب السودان بتوقيع اتفاقية السلام في العاصمة جوبا، في أول مشاركة خارجية لها بعد انتخابها رئيسة، في غاية الدقة والدبلوماسية».
أيضاً يوضح جمعة، أن اختيار الرئيسة الجديدة للدولة الإثيوبية سيعزز من توجهات آبي أحمد الغربية التي قد تتجاوز دول الجوار والإقليم، ويضيف: «سهلي - ورق لم تكن طرفاً في الفساد، فأبوها كان جنرالاً كبيراً في الجيش الإثيوبي، وهي تؤمن بقيم المساواة بين الجنسين وتمكين الشباب من الحكم».
وبالتالي، يتوقع جمعة أن يحدث انتخابها، وجهود رئيس الوزراء في قيادته لتيار تجديدي على مستوى الأفكار والأشخاص والكتل التي يمثلونها، طفرة في إثيوبيا... طفرة تتجاوز المفاهيم التقليدية للسياسية الإثيوبية القديمة. ويتابع: «لم يتبع أحمد سياسية الترضيات الإثنية، ولم يجنح لترضية المعارضين العائدين للبلاد، بل اتبع سياسة الكفاءة والشباب وتمكين المرأة وتبني الأفكار الجديدة، وهي سياسة يمكن أن تلعب الرئيسة سهلي - ورق زودي دوراً مميزاً في دعمها».
من جهة ثانية، على صفحته في موقع التراسل «تويتر» قال فيستم أريغا، مدير مكتب رئيس الوزراء، معلقاً على اختيار زودي رئيسة «المجتمع الإثيوبي مجتمع بطريركي (ذكوري – أبوي) محافظ، وفي مجتمع مثيل فإن تعيين رئيسة أنثى، لن يحدد معايير المستقبل وحدها، بل يشير إلى إمكان تحويل النساء إلى صانعات أدوار في الحياة العامة في إثيوبيا».

- بطاقة هوية
أبصرت الرئيسة سهلي - ورق زودي النور يوم 21 فبراير (شباط) 1950 في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وهي ابنة عائلة: «عسكرية»؛ إذ كان والدها جنرالاً كبيراً في عهد»الإمبراطور هيلي سيلاسي». وحقاً، أوردت الرئيسة في كلمتها للبرلمان غداة انتخابها رئيسة، إن والدها الجنرال زودي خلّف أربع فتيات ولم يرزق بذكور، وكان مهموماً بتربيتهن وتعليمهن على أرفع مستوى.
تعلمت زودي في مدارس بلادها حتى المرحلة الجامعية؛ إذ درست في جامعة أديس أبابا. وبعد ذلك حصلت على منحة لدراسة العلوم الطبيعية في جامعة مونبيلييه الفرنسية العريقة، وأقامت في فرنسا زهاء تسع سنوات أتقنت خلالها اللغتين الفرنسية والإنجليزية إضافة إلى جانب اللغة الأمهرية، لغتها الأم، قبل أن تعود لخدمة بلادها.
عملت زودي، بعد عودتها من فرنسا، في وزارة التربية والتعليم بقسم إدارة العلاقات العامة، ثم ترقّت لتصبح رئيسة للقسم، ثم اختيرت لتشغل وظيفة دبلوماسية في وزارة الخارجية.
وفي وزارة الخارجية تدرّجت في الوظائف الدبلوماسية، حتى تم تعيينها سفيرة مقيمة في السنغال، والوقت نفسه عيّنت سفيرة غير مقيمة في كل من مالي والرأس الأخضر وغينيا بيساو وغامبيا وغينيا، خلال الفترة بين 1989–1993. وفي أعقاب تلك الحقبة، نقلت سفيرة لبلادها في دولة جيبوتي المجاورة، وشغلت المنصب طوال الفترة 1993 – 2002، وإلى جانبه كانت تشغل منصب الممثلة الدائمة لإثيوبيا في «الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا» (إيقاد) التي تتخذ من جيبوتي مقراً لها.
من جيبوتي انتقلت زودي سفيرة لإثيوبيا لدى فرنسا، وخلال فترة شغل منصب السفير في باريس بين 2002 - 2006، شغلت أيضاً منصب الممثل الدائم لبلدها في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، وإلى جانب ذلك عملت سفيرة غير مقيمة لدى كل من المغرب وتونس.
وشغلت بعد ذلك منصب الممثل الدائم لإثيوبيا في الاتحاد الأفريقي، ثم لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية في أفريقيا (ECA)، وعملت مديرة عامة للشؤون الأفريقية في وزارة الخارجية، قبل اختيارها من قبل الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون ممثلاً خاصاً له لبناء السلام في جمهورية أفريقيا الوسطى عام 2011 .وفي العام ذاته، اختارها الأمين العام الحالي للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مديراً عاماً لمكتب الأمم المتحدة في العاصمة الكينية نيروبي، بمستوى وكيل الأمين العام للأمم المتحدة.
واكتملت مراحل ترقي سهلي – ورق زودي، أخيراً، بانتخابها من قبل البرلمان الإثيوبي رئيسة للدولة. وبالتالي، صارت الرئيس الرابع لإثيوبيا منذ وصول «ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية» إلى السلطة، بعد كل من نيغاسو غاديد، وقيرما ولد غيورغيس، ومولاتو تيشومي الذي استقال قبل إكمال دورته الرئاسية. وينتظر أن تعمل زودي في منصبها لفترتين مدتهما ست سنوات.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.