تقع مدينة ليزاما الهادئة على بعد 10 كيلومترات فقط خارج مدينة بلباو الإسبانية، ولا يتجاوز عدد سكانها 2400 نسمة فحسب. إلا أنها بجانب ذلك تضم بين جنباتها واحداً من أكثر أندية كرة القدم استثنائية على مستوى العالم «أتلتيكو بلباو». جدير بالذكر أنه بعد 14 عاماً فقط على تأسيسه، واجه أتلتيكو بلباو اتهامات بالاستعانة بلاعبين أجانب غير مؤهلين في بطولة كأس ملك إسبانيا عام 1911. لذا قرر النادي أنه لن يعتمد إلا على اللاعبين المولودين داخل مقاطعة الباسك أو «الذين تشكّلوا محلياً». وبعد أكثر من قرن لاحقاً، لا تزال هذه السياسة سارية، ويعد النادي اليوم واحداً من بين ثلاثة أندية فقط في تاريخ بطولة الدوري الإسباني الممتاز لم تتعرض للهبوط قط، بجانب «برشلونة» و«ريـال مدريد».
ويبدأ اعتماد النادي على المهارات المحلية من داخل ملعب التدريب في ليزاما، والذي افتُتح عام 1971 ويستضيف حالياً الفريق الأول والفرق النسائية والعديد من الفرق التابعة للأكاديمية. وتضم ليزاما ثمانية ملاعب، وصالة ألعاب رياضية وقاعة للمؤتمرات الصحافية وعيادة طبية، لكن يبقى القوس الأيقوني -الذي جرى نقله إلى هنا، قادماً من استاد «سان ماميس»- أبرز ما يضفي على المكان الشعور بوجود مؤسسة كبرى.
من ناحيته، قال جون سالون، الذي سبق أن لعب لصالح النادي ويتولى حالياً تدريب فريق تحت 16 عاماً: «أصبح هذا النادي الكروي جزءاً من هويتنا منذ الثانية التي وُلدنا فيها. وأي صبي يولد في نطاق 60 كيلومتراً من هنا يتلقى أعداداً ضخمة من البالونات والهدايا من أتلتيكو بلباو، وتزدان الأقسام المخصصة للتوليد في المستشفيات بملصقات النادي المميزة باللونين الأحمر والأبيض. لقد وُلدتُ في بلباو، والعالم بأسره ينحصر في عيني في هذه السترة الرياضية وتمثيلي لهذا النادي. وأعلم أن الصبية يشعرون بذات القدر من الفخر. ونشعر جميعاً بأننا جزء من تاريخ هذا النادي وأننا بمثابة أسرة واحدة».
وأضاف: «يخالج الصبية شعور رائع بوجود بعضهم إلى جوار بعض ومراقبة بعضهم لبعض وهم يكبرون عبر الفئات المسلسلة كأفراد ولاعبين. وعندما يرتدي صبي ليزاما القميص الأحمر والأبيض داخل استاد سانت ماميس، يساورنا جميعاً شعور بالنصر».
من ناحية أخرى، فإنه على مدار الأعوام الخمسة الماضية، جرى تصعيد لاعبين على الأقل من الأكاديمية إلى صفوف الفريق الأول، ما يعد مصدراً عظيماً للفخر الرياضي بالنسبة إلى مدير الرياضة بالنادي خوسيه أموروتو. وقال أموروتو: «جاء 85 في المائة من لاعبي الفريق الأول عبر هذه الأكاديمية، ويبلغ متوسط مدة البقاء في الأكاديمية قبل الوصول للفريق الأول سبع سنوات. نحن نستقبلهم صبية صغاراً ونعمل على تشكيل مهاراتهم. وتعد هذه الأرقام مجرد ثمرة جهودنا».
من جهته، شارك أموروتو في صفوف أتلتيكو بلباو -بل ومثّله أمام يوفنتوس في نهائي بطولة كأس الاتحاد الأوروبي عام 1977- وذلك قبل أن يتولى تدريب كلٍّ من فريق الناشئين والفريق الأول. وعليه، فإنه شخص يفهم جيداً طبيعة الثقافة السائدة في المكان، وكذلك كل شخص داخله. وقال: «لدينا 20 كشافاً بمختلف أرجاء منطقة بيسكاي وكذلك اتفاقات توأمة مع 150 نادياً بالمنطقة تتولى مراقبة تقدم مستوى الناشئين وترسلهم إلى ليزاما إذا شعرت بأنهم يمتلكون السمات التي تؤهلهم للمشاركة هنا. ونحن نثق بقدرة مدربينا والأندية المحلية على تنمية مهارات الصبية الصغار لدرجة أننا لا نبدأ برنامج الأكاديمية الخاصة بنا حتى يصبح الصغار تحت 10 أعوام. العام الماضي فقط، كان لدينا 100 صبي دون التاسعة يتدربون هناك. وليست هناك صعوبة أمامنا في العثور على لاعبين».
وأوضح أموروتو أن المدربين العاملين تحت قيادته يحرصون على اختيار اللاعبين أصحاب «المهارات الذهنية». وأضاف: «نريد معرفة كيف يفكرون ويتخذون القرارات داخل أرض الملعب، ثم نتابع كيف يتصرفون خارج الملعب». واللافت أن أموروتو البالغ 65 عاماً استخدم كلمة «قيم» كثيراً في أثناء حديثه.
وأكد المدير الرياضي أنه «سيتحمل الصبيةُ أدواراً ومسؤوليات بمجرد أن يدخلوا المبنى، سواء كان ذلك ترتيب الأدوات أو تنظيف غرفة تبديل الملابس أو حمل المعدات. ويجري توزيع هذه المهام على اللاعبين بالتناوب».
وأوضح أموروتو: «عملت في أتلتيكو مدريد وأندية صفوة أخرى، لكن ليس بينها ما يملك ما نحظى به هنا. في بلباو لدينا ثقافة وهوية مميزة. وتتمثل مهمتنا في بناء أفراد صالحين ولاعبين ماهرين، وليس هناك نادٍ آخر يفعل ما نفعله. إن الأسرة تعني كل شيء بالنسبة إلى أبناء الباسك، ونحن نرغب في تحقيق النجاح بالاعتماد على أبنائنا. وبالنسبة إلى أي صبي، ليس هناك شعور بالفخر يمكن أن يضاهي لعب الكرة لحساب هذا النادي».
وانطلق مدير الكرة واللاعب السابق في صفوف المنتخب الإسباني إلى داخل مكتبه وعاد حاملاً ورقة، وتحدث عن ناشئي النادي قائلاً: «من المهم أن تتوافر لديهم سبل أخرى لكسب العيش بخلاف كرة القدم، خصوصاً أن المسيرات المهنية الكروية قصيرة بطبيعتها ويمكن أن تنتهي في لحظة واحدة بمجرد التعرض لتداخل عنيف في أرض الملعب. يتألف الفريق الثالث لدينا من 21 فتى تتراوح أعمارهم بين 18 و19 عاماً، بينهم 13 يدرسون في الجامعة حالياً. ومع هذا، نحرص على ألا نفرض شيئاً على الفتيان، وإنما نشجعهم فحسب على انتهاج القيم الصالحة، خصوصاً أنه في ظل البيئة الرياضية والاجتماعية الحالية، يجري النظر إلى فتيان النادي باعتبارهم قدوة».
في أثناء الحديث، أنجز الفريق الأول عمله ورحل اللاعبون إلى ديارهم. وبالتالي، أصبحت الفرصة متاحة أمام الصغار للتدريب أسفل تلال الباسك الرائعة. ويتميز النادي بمعايير استثنائية بالفعل. وعن هذا، قال أموروتو: «نهتم بشدة بالجانب الفني. ونركز على التكنيك ثم التكنيك ثم التكنيك».
خلال حديثه، أخذ الصغار يجرون بالكرة نحو الأمام والخلف عبر لمسات متنوعة، مع حرص المدرب باستمرار على تذكيرهم بـ«ثلاثة نقاط أساسية: 1- وضع الجسم: أبقِ ظهرك مستقيماً بينما تثني ركبتيك. 2- الرؤية: تفحَّص المحيط بك من حيث المساحات والأفراد. 3- بدّل الإيقاع والاتجاه».
وبعد 30 دقيقة من المجهود الفني، ترسخت أهمية الاستراتيجية والشكل في ذهن كل فرد. وكانت هناك حالة من النشاط في مختلف أرجاء المكان، وكانت المعايير مرتفعة للغاية لدرجة أن صبيين من فريق أقل من 14 عاماً لم يبديا نشاطاً في أثناء التدريب جرى طردهما من جلسة التدريب، وأُمرا بالوقوف إلى الجانب وأيديهما خلف ظهريهما.
وقال مدرب فريق أقل من 18 عاماً، إيبان فونتيس: «كل فرد هنا يجب أن يكون واجهة تمثل النادي والعاملين به. وبمجرد أن يبدأ الصبي في التعامل بتساهل مع الأمر، يصبح في حاجة إلى من يذكّره بأن هناك آخرين يستميتون لأن يكونوا في مكانه. هذه هي طبيعة اللعبة ويجب أن نوفّر لهم التثقيف الرياضي أيضاً».
وأضاف: «المجتمع يتغير، والنموذج الاحترافي لم يعد ما كان عليه منذ 20 عاماً. نحن نعمل بجد لإبقاء تركيز الصبية منصبّاً على الكرة، لكن تمر لحظات صعبة. ومع هذا، يبلغون سناً يدركون عندها أن المال لا يمكنه شراء ما لدينا هنا داخل أتلتيكو بلباو. وهنا، تؤتي كل الجهود الدؤوبة التي بذلها الجميع ثمارها. هذا النادي لا يشبه أي ناد آخر، فنحن نتدرب إلى جانب الفريق الأول ويعمل رئيس النادي على عدم وجود حواجز بيننا وبينهم. ويتوقف لاعبو الفريق الأول للحديث إلى الصبية في أثناء مرورهم إلى جوارهم ودائماً ما يتابعون تقدم وتطور مستوى لاعبينا».
وأكد فونتيس: «نحن هنا نعيش الحلم. ويملك كل شخص داخل هذا المكان تذكرة موسمية. وإذا كان الفريق الأول يلعب بعيداً عن أرضه، يتدرب الصغار هنا، ثم يعودون إلى ديارهم ويرتدون بيجامات أتلتيكو بلباو كي يشاهدوا المباراة مع أفراد أسرتهم. أما المدربون، فيجتمعون في مكان محدد في المدينة لمشاهدة المباراة معاً، فنحن جميعاً جزء من أسرة أتلتيكو بلباو، ونملك ثقافتنا وهويتنا المميزة».
أكاديمية أتلتيكو بلباو تثبت أن النجاح ليس دائماً في سوق الانتقالات
النادي لا يعتمد إلا على اللاعبين المولودين داخل مقاطعة الباسك
أكاديمية أتلتيكو بلباو تثبت أن النجاح ليس دائماً في سوق الانتقالات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة