إذاعة سورية تطرح قضية إعادة دمج مقاتلي «داعش» المحليين

ردود متباينة من المستمعين... وغياب مراكز تخصصية يشكل أكبر العقبات

TT

إذاعة سورية تطرح قضية إعادة دمج مقاتلي «داعش» المحليين

مُنِي تنظيم «داعش» بأكبر هزائمه؛ بخسارة معقله الأبرز في سوريا مدينة الرقة، على يد قوات «سوريا الديمقراطية» الكردية العربية، بعد أن شنَّت هجوماً استمر نحو أربعة أشهر بين يونيو (حزيران) وأكتوبر (تشرين الأول) 2017، بدعم من التحالف الدولي بقيادة واشنطن، وخلال المعركة، اعتقلت قوات سوريا الديمقراطية وقوى الأمن الداخلي التابعة لمجلس الرقة المدني، والأخير يُعد مجلس حكم محلياً يدير شؤون المدينة بالتنسيق مع التحالف الدولي، الآلاف من العناصر الذين انضموا للتنظيم، معظمهم كانوا مقاتلين محليين ينحدرون من سوريا.
لكن عشائر عربية وشخصيات مجتمعية من أبناء الرقة تدخلت للإفراج عن كل شخص لم يتورط في القتل، أو ارتكب جرائم ولم يتسبب في تهجير المدنيين، الأمر الذي دفع مسؤولي مجلس الرقة المدني للإفراج عن المئات من العناصر على دفعات، لكن لا توجد إحصاءات رسمية حول عدد المفرج عنهم، أو عدد الذين لا يزالون في السجون بتهمة الانتساب للتنظيم المتطرف.
قضية إعادة الدمج حساسة وجدلية... وتأكد ذلك من خلال برنامج إذاعي صادر من معقل التنظيم السابق، الرقة، هذا الأسبوع.

«صباحكم فرات وأمل وخير مستمعي راديو (أمل إف إم)، موضوع حلقتنا لليوم فكرة إعادة دمج مقاتلي (داعش) السوريين للمجتمع. احكوا لنا إذا تعرفوا تجارب من هذا النوع»، بهذه الكلمات بدأت المذيعة جلنار سعيد مخاطبة المستمعين، وبدء الفقرة الصباحية والتي امتدت بين الساعة 9 صباحاً، و12 ونصف ظهراً.
وأثار عنوان الحلقة جدلاً واسعاً بين مقدمي الحلقة والمستمعين، وفتحت نقاشاً ساخناً وسط ردود فعل متباينة، وتجاذبت آراء المستمعين حول موضوع الحلقة، وتتالت الاتصالات والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بالإذاعة بين مؤيد للفكرة ومعارض لها، حيث طالب عدد من المستمعين منحهم فرصة جديدة، وتقديم يد العون للتغلب على أفكار التنظيم المتشددة، فيما وجد آخرين ضرورة إحالتهم إلى محاكم مختصة، ومحاسبتهم بسبب الجرائم والفظائع التي ارتكبوها بحق المدنيين.
ومن داخل استوديو إذاعي مجهّز بمعدات بسيطة، وغرف ملونة بمدينة الرقة الواقعة شمال سوريا، يحرص الكادر الإذاعي في غرفة الكونترول والإخراج، نقل ردود فعل المستمعين وتعليقاتهم، وتقول المذيعة جلنار سعيد (28 سنة)، إنّ «هذه المواضيع الحساسة تلقى تجاذباً وردود كثيرة عند متابعي الإذاعة، مهمتنا تسليط الضوء على كل الجوانب التي تمس الناس».
بعد دقائق يشير مهندس الكونترول إلى أن مستمعاً من أبناء مدينة الرقة يريد التحدث، تطلب المذيعة جلنار رأيه بالحلقة ليقول: «اسمي صبحي، وأنا أرفض فكرة دمج عناصر (داعش) إلى المجتمع، يوماً ما كانوا أدوات واستُخدِموا لتوسيع سلطته وبقاء حكمه ثلاث سنوات».
وهذا الرأي أيده مستمع آخر، ويُدعى محمود، الذي كتب تعليقاً على البوستر الصباحي لصفحة الإذاعة في موقع «فيسبوك»، وقال: «يجب نبذ كل شخص حمل السلاح وانتسب إلى التنظيم ومعاقبته».
أما ريهام، وهي مستمعة دائمة للإذاعة وتنحدر من مدينة الرقة، شاركت في الحلقة عبر اتصال هاتفي، لتروي كيف أن شقيقها قتل برصاصة قناص (داعشي)، وكان شاباً في مقتبل عمره، وعلى الرغم من أن الحادثة الأليمة تركت أثراً في أسرتها، توجهت بطلب السماح لكل شخص لم يشارك في جرائم التنظيم، «فالكثير اضطروا أو أُجبِروا الالتحاق بصفوف التنظيم»، تقول ريهام وتضيف: «بقيت بالرقة طوال حكم (داعش). وأثناء المعركة، شفت كيف انعدمت فرص العمل ولم يعد هناك موارد مالية ما دفع الكثير للعمل معهم».
بدورها شرحت المذيعة جلنار أن قضية الاندماج يجب أن تتطابق مع القوانين المحلية والتشريعات القضائية من جهة، والأعراف والتقاليد المجتمعية من جهة ثانية، وأضافت: «كل شخص لم يرتكب جريمة أو استخدام السلطة والنفوذ علينا إعطاؤه فرصة ثانية».
وتساءل مستمع آخر يُدعى مسعود عبر اتصال هاتفي عن كيفية إعادة دمج مقاتلي التنظيم، وقال: «مثلاً بضمهم إلى فصيل عسكري ثانٍ، وماذا عن المقاتلين الأجانب»، ليجيب المذيع علي عثمان على السؤال قائلاً: «عندما نذكر مقاتلي (داعش) نقصد بهم المتحدرين من سوريا فقط، ثانياً: المقصود كل مَن لم تتلطخ أيديهم بالدماء أو ارتكبوا جرائم تحاسب عليها القوانين المحلية والدولية».
ويعمل علي عثمان (28 سنة) معداً ومقدم برامج في راديو أمل منذ بداية العام الحالي، ينحدر من بلدة البوكمال التابعة لمدينة دير الزور شرق سوريا، وقد خضعت لقبضة تنظيم «داعش»، بين أعوام 2014، و2017.
يروي كيف تأثر جيل الشباب بإصدارات التنظيم المرئية، وعمده إلى عرضها في الساحات العامة، ويوزع مجاناً أقراص مدمجة لنشر أفكاره وانتصاراته الوهمية. يسرد حادثة تعرض لها صيف 2015 بسبب تخفيف حلاقة ذقنه، سجن على أثرها 3 أيام، ثم عرض على قاضٍ شرعي، وحكم عليه بالجلد 20 مرة في ساحة عامة، ثم أفرج عنه شريطة خضوعه لدورة شرعية، وقال: «الحادثة كانت كافية لاتخاذ قرار بالهروب من المنطقة».
ومنذ ذلك اليوم يسكن علي في مدينة الرقة، واعتبر فكرة إدماج مقاتلي التنظيم مهمة للغاية، وقال: «التنظيم كان يستثمر الإعلام في حربه، يجب علينا مواجهته بكل أدواته وكشف حقيقته وزيف ادعاءاته».
وأرسل المستمع هاشم على رقم الإذاعة ومفعل عليه خدمة «واتساب»، مقطعاً صوتياً، وعلَّق على الموضوع، واعتبرها جزءاً من بناء سوريا المستقبل، وقال: «نعلم أن الكثير انضموا بسبب الجهل الديني والتخلف العشائري وعملية الاندماج يجب أن تكون وفق شروط ومراقبة».
وانطلقت إذاعة «أمل إف إم» بداية أبريل (نيسان) 2017 تحت شعار «صوت كل السوريين»، تقدم برامج اجتماعية ونشرات إخبارية متخصصة وسلسلة من المواجيز الإخبارية على رأس الساعة.
وعن أهمية اختيار موضوع الحلقة الخاصة بدمج عناصر «داعش» إلى المجتمع من جديد، يقول الصحافي رامي السالم (30 سنة) رئيس قسم الأخبار: «إعادة تأهيل هؤلاء العناصر ودمجهم في الحياة المدنية مرة ثانية، تشكل أولى مراحل التخلص من موروث التنظيم وتاريخه الأسود».
وأفرجت السلطات المحلية في مجلس الرقة المدني، على عدة دفعات عن العناصر الذين انضموا إلى تنظيم داعش من السوريين، وأكد السالم: «لكن لا توجد حتى هذه اللحظة مراكز تخصصية أو برامج توعوية والعمل على تغير سلوكهم، أو تغير نظرة المجتمع الرافض لهم».
بدوره، يقول بسام الأحمد، المدير التنفيذي لـ«منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة» إحدى المنظمات السورية المحلّية العاملة في مجال توثق انتهاكات حقوق الإنسان في عموم سوريا، في حديثه لـ«الشرق الأوسط» بأنّ موضوع إعادة دمج المقاتلين - على أهميته يُعتبر واحداً من المواضيع الحسّاسة، خصوصاً عندما يتم الحديث عنه في سياق نزاع غير منتهٍ، كما في حالة النزاع السوري، حيث يتمّ عادةً - وفي سياقات الانتقال من حالة النزاع إلى حالة السلام، خصوصاً عند الحديث عن العدالة الانتقالية - طرح مصطلح «إعادة الدمج» متزامناً مع عمليات نزع السلاح والتسريح، التي تكون جزئية مهمّة في سياق إصلاح المؤسسات وإعادة هيكلتها.
ويخشى الأحمد أنّ يتم التعاطي مع قضية إعادة الدمج في سياق غير طبيعي، ويتمّ التركيز عليه فقط دون العناصر الأخرى، ويقول: «لعلّ أول هذه العناصر هو الانتقال من حالة الحرب لحالة السلم، وتوفّر هذه الظروف من العناصر الأساسية لنجاح عملية الدمج، والحيلولة دون انضمام هؤلاء الأشخاص إلى التنظيمات المتطرفة أو غيرها».
وأضاف: «من الصعب ضمان نجاح أي عملية إعادة دمج دون العمل على إنهاء الظروف التي ظهرت فيها مثل هكذا تنظيمات، ولكن هذا لا يعني عدم حاجتنا إلى مراكز قد تبحث عن طرق خلّاقة لإعادة دمج فئة محددة من العناصر في المجتمع مرة أخرى، على سبيل المثال: فئة الأطفال الذين كان يتم تسخيرهم لأغراض غير قتالية».
ولفت الأحمد إلى أنه من المخاطرة تقييم برامج إعادة الدمج، خصوصاً العناصر التابعة للتنظيمات المتطرفة في حال عدم وجود بيئة لا تتوفر فيها ظروف عودة هؤلاء الأشخاص للتنظيمات العنيفة، وقال: «هذه البيئة تتطلب انتقالاً سياسياً يشارك فيه جميع السوريين بجميع مكوناتهم، والمرور بمرحلة عدالة انتقالية يُراعى فيها العمل على جميع عناصرها، مثل الملاحقات القضائية وتشكيل لجان الحقيقة، وإنشاء برامج جبر الضرر لتعويض المتضررين، وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات»، مضيفاً أنه من الضروري فهم السياق، والتعاطي مع الأبعاد القانونية والسياسية والاجتماعية والدينية «سوف يضمن إعادة تأهيل ودمج حقيقية وغير منقوصة»، على تعبيره.
وفي ختام حديثه، لم يستبعد الأحمد عودة تنظيمات متطرفة أخرى (أسوأ من «داعش») «في حال لم يتم الوقوف على هذه القضية وقضايا أخرى في سياق وطني سوري، والتعاطي مع الظروف التي أدت إلى ظهور مثل هذه التنظيمات المتطرفة».
وتقع مدينة الرقة على الضفة الشرقية لنهر الفرات، تبلغ مساحتها نحو 27 ألف كيلومتر مربع، خرجت عن سيطرة النظام الحاكم ربيع 2013، لكن عناصر تنظيم «داعش» أحكموا قبضتهم عليها، نهاية العام نفسه، قبل أن يطردوا على يد «قوات سوريا الديمقراطية» بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في أكتوبر 2017.
وكتب عنصر التحق بتنظيم «داعش»، تعليقاً على صفحة الإذاعة يقول فيها: «أثبتت التحقيقات أنني لم أرتكب جريمة، وكثير مثلي انتسبوا للتنظيم من الفقر والحاجة للمال، بقيت بعض الأشهر ويُفرج عني ومحيطي يعرفون من أكون، لكنهم متأكدون من أنني لم أوذِ أحداً».


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام