مخاطبة الأشياء من دون أقنعة ورتوش

هل يكمن الشعر في غموضه أو وضوحه، أم في الاثنين معا، وكيف نرى عمق النص من فوق سطح محايد، وهل يكره الشعر الوضوح، كما هو شائع ومألوف في أقوال وذائقة الكثير من الشعراء والنقاد.
تطل هذه الأسئلة القديمة بشكل ملح في ديوان «بعد الموتى بقليل» للشاعر محمد الكفراوي، الصادر حديثا عن دار بدائل. فنحن أمام قصائد بسيطة وواضحة، ذات نزوع رومانسي ناعم، قصائد منسجمة مع وعيها بذاتها فوق السطح، لا تكترث – في الغالب - بالعمق المخفي وراء الأشياء، متحاشية مغامرة التكثيف سواء بالمجاز أو الاستعارة أو الرمز أو الأسطورة.
لكن، هل للوضوح عمق، نعم له عمق، لكنه ابن تراتب منطقي صوري، يوحي بالراحة والاسترخاء والطمأنينة، وغيرها من مشاعر القبول والرضا الشائعة في السلوك البشري، حيث الوضوح يعني الصراحة، وأن الأشياء مستقرة في أنساقها الواقعية الطبيعية، لكن من الصعب أن يمنحنا كل هذا إحساسا ما بالمتعة أو الإثارة والدهشة، ربما نشعر بها حين يصبح الوضوح نفسه ابنا شرعيا لحالة من الغموض، مشكلا تتويجا وتصفية لها من شوائب وعقد الحياة، حينئذ يصبح خلاصة لخبرة، لشكل من أشكال الوجود الإنساني، كان معطلا ومشوشا، ومنسيا، تحت وطأة علائق وحواجز سرية، كامنة في الزمن والبشر والعناصر والأشياء.
في الفن لا شيء يؤوِّل نفسه، ويدعي أنه مكتفٍ بها، لا شيء يكون صريحا وواضحا بشكل نهائي ومحدد، طالما هناك قارئ ومتلقٍ واعٍ، يملك المقدرة على القراءة والتفكيك والتأويل، وخلق مسافات مرنة وحية بينه وبين النص، الأمر الذي يجعل العمل الفني نفسه قابلا للأخذ والعطاء والتجدد معا. ناهيك عن أن الوضوح - برأيي - يقتل الحقيقة في الفن، فما الذي يتبقى من الصراع إذن، طالما أصبح عاريا وواضحا وماثلا للعيان... إن الأشياء تتخفى في عريها، تلك هي الحقيقة في الفن، وأن هذا الخفاء - كما أرى - هو خلاصة جدل خفي وشفيف بين الغموض والوضوح، يغسل اللغة من معجميتها ومن آثار الغير، ويشحنها بدالات أكثر عمقا، فكريا وعاطفيا وجماليا، تحول القارئ إلى منتج مشارك في النص، يمتلك القدرة على تفكيكه وإعادة قراءته من زوايا متعددة.
ومن ثم، يبدو الوضوح دالا مركزيا في هذا الديوان، اختاره الشاعر لأنه فيما يظن أبسط الطرق الموصلة للحقيقة، فهو يريد أن يخاطب الأشياء في بساطتها وألفتها، من دون أقنعة ورتوش، أو حتى ظلال تشوِّش على هذه الألفة. فثمة ذات موجوعة من شرور العالم ومكائد البشر وفوضاهم وحروبهم الصغيرة الرتيبة، ذات مسالمة ومستسلمة، لا تسعى إلى المواجهة والصدام والانتقام حتى لو لوّحت بذلك على نحو عابر في بعض النصوص، فكل ما تطمح إليه أن تجد مساحة شاعرة صغيرة، ترثي فيها نفسها بمحبة، وبقليل من العتمة، وأيضا تتصالح مع الآخر والعالم.
هنا سيكون لطيفا أن ينهي الشاعر نصه الأول (تقدموا) الذي يستهل به هذا الديوان، طالبا من المجموع، وبعد أن يخاطبه بكل صيغ الطلب والرجاء والأمر، قائلا «تقدموا - ودوسوا على جثتي النيئة»، فالإشارة الرمزية في كلمة «نيئة»، تأتي منسجمة مع النزوع الرومانسي الناعم فوق السطح، على العكس مثلا لو كانت - كما أتصور - «جثتي الصاخبة»، والتي تعني أن ثمة حركة وصخبا وضجيجا يشي بالتمرد وعدم الاستسلام.
لا بأس إذن في ظل هذا المنحى من الوضوح، أن يصبح هم الذات الشاعرة هدهدة الأشياء، والرغبة في التصالح معها بحثا عن هذه الحقيقة المتوهمة، ولا بأس أن يتم ذلك أحيانا بمسحة من السخرية، ما يطالعنا في النص الثاني من الديوان (ص9)، بعنوان «تخاريف»، حيث يتوجه خطاب الذات الشاعرة إلى المجموع أيضا قائلا:
«خرفوا كما تشاءون
بعثروا الأخيلة
تلاعبوا بالعقول
زيفوا الحاضر
تملصوا من سطوة الماضي
افعلوا ما بدا لكم
لكن إياكم أن تحاولوا إقناعي
أنكم تخبئون الحقيقة في جعبتكم
أيها الغجر».
خطاب واضح، يلقي بنفسه في حِجر قارئه دون أي جهد أو مساءلة، لكنه مع ذلك يعكس آفة الوضوح، آفة أن ترى المشهد من زاوية واحدة فقط... فليس من حق القارئ أن يتساءل هنا: أي حقيقة يتحدث عنها النص، بل أي غجر هؤلاء الذين يخفونها في جعبتهم... يتكرر الأمر على المنوال نفسه، وبصيغة الرجاء في نص بعنوان «لحظة» (ص17) يقول:
«أمهلوني لحظة
وسأفند لكم ما يجول بخاطري
لحظة واحدة
ويصبح قلبي كتابا
مفتوحا أمامكم
فقط لحظة
وتصير خيالاتي تحت تصرفكم
كونوا رحماء وامنحوني الوقت
لأخبركم بالحقيقة كاملة
وأسباب مروري - أصلا -
في مجال رؤيتكم».
إن أخطر ما يعلق بحجر هذه الزاوية الواحدة، ليس فقط مجانية الوضوح والمباشرة، بل اصطناع نزعة تبريرية شارحة أحيانا للنص، لا تملك الذات أن تحولها إلى قناع، من تحته تحاول مراوغة السطح واللعب مع قشرته الهشة، سعيا لنزعها والوصول إلى ما تحتها، ربما تعثر على أشياء تشبه الحقائق أو حقائق تشبه الأشياء، تخلِّص الذات من مأزق الوضوح والمباشرة، وتمنحها قدرا من الوثوق الشعري والصلابة النفسية.
نعم ثمة نزعة أخلاقية في الشعر وفي الفن عموما، لا نستطيع أن ننكر ذلك، فالخجل والتردد، والتشتت، بل الحب والكره، والضعف الإنساني، وغيرها من السمات الإنسانية، هي محض قيم أخلاقية، تنطوي بالضرورة على قضايا كبرى، لكن مدخلنا لها في الفن ليس علم الأخلاق، بل علم الجمال، الذي ينبني على المفارقات الخلاقة ما بين الحلم والذاكرة والواقع والخيال.
رغم ذلك، ليس الأمر سيئا على هذا النحو بهذا الديوان، فشعريته تشف، حين تتخلص الذات الشاعرة من ربكة ضمير المجموع، متخففة من حمولته الزائدة ومظانه وصوره الشبحية التي تطل من عباءة الماضي والحاضر والمستقبل، حينئذ تخلص الذات إلى صوتها الداخلي ودبيبها الخاص، ويصبح الوضوح مجرد غلالة لغموض شفاف، تتخفى تحته الذات لتبني عالمها ورؤيتها وتنوِّعها بسلاسة، ما بين الداخل والخارج. وهو ما يطالعنا في نصوص: (حرية - أرواح - مكافأة - شبح - طيبون - بيت - تعاسة - هنا)... ففي نص «حرية» (ص31) يقول الشاعر:
«عوالم فاتنة تعبر خلالي
وبجهلي البشري أرفض نداءاتها
أتخيلني طائرا خرافيا
أمتطي سحابة
وأتجول في الأرض
أشرب نهرا ولا أرتوي
... إلى آخر النص».
يكشف النص عن مكابدات الحرية في الداخل والخارج، فهي قرين العوالم الفاتنة، قرين الخرافة والتحليق في فضاء حر، قرين الحفر والنبش في جسد الطبيعة والبشر والعناصر والأشياء، وقبل كل ذلك هي فعل تغيير شجاع، أشبه بلوحة، تتجدد فيها الخطوط والمساحات والألوان والظلال والضوء... هكذا تتعدد زوايا المشهد وتتنوع، ما يمنح الوضوح قيمة دالة، قادرة على الحذف والإضافة، على النفي والإثبات.
هذا الوعي المفارق لنزعة التبرير والمباشرة، يفاجئنا برشاقة، ملوحا بمسارات أخرى للروح، أشبه بمرثية شجية ومرحة للمكان، في نص «هنا» (ص55) والذي وسم عنوان الديوان، حيث تتحول الدلالة الإشارية العابرة إلى علامة للعبور بين عالمين، عالم الموتى من ناحية، وعالم الأحياء من ناحية أخرى، عالم الذين رحلوا، والذين يتأهبون للرحيل، ورمزيا يفارق السكن بعد الموتى بقليل، مصادفة المجاورة في المكان، ويصبح بمثابة خطوة أخرى في الرحلة نفسها، بينما تتحول عناصر الطبيعة وأشجارها إلى مخزن للذكريات والمشاعر الغضة... يقول النص على لسان الذات الشاعرة:
«أسكن أطراف المدينة
بعد الموتى بقليل
الرجال الذين رحلوا منذ زمن
نبتت مكانهم أشجارٌ تحمل هيئاتهم وملامحهم
وفي غفلة من الجميع
خزَّنوا مشاعرهم
في الأغصان الغضة
والورق الأخضر
تركوا أوجاعهم في مهب الريح
هنا حيث أسكن».
هو إذن الوضوح الغامض في هذا النص، تجدله ببساطة الذات الشاعرة، وتحوله إلى طقس إنساني شيق وممتع، يمنحنا في الوقت نفسه، محبة الشعر والحياة معا.