عادل عبد المهدي... رجل الفرصة الأخيرة

رئيس وزراء العراق المكلف واقعي يجمع الفكر والخبرة الاقتصادية

عادل عبد المهدي... رجل الفرصة الأخيرة
TT

عادل عبد المهدي... رجل الفرصة الأخيرة

عادل عبد المهدي... رجل الفرصة الأخيرة

قبل شهور من تكليفه تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، كتب عادل عبد المهدي مقالاً في جريدة «العدالة»، التي يشرف عليها ويطرح من خلالها آراءه ورؤاه لكيفية بناء الدولة، مقالاً حمل عنواناً مثيراً، وهو «أشكركم فالشروط غير متوفرة»... وذلك في سبيل تبريره تداول اسمه لدى الأوساط السياسية لاحتمال أن يكون مرشحاً لرئاسة الوزراء. كان المقال قد نشر بعد الانتخابات، التي أجريت يوم 12 مايو (أيار) الماضي، بأقل من أسبوعين - بالذات، يوم 23 مايو - أثناء ما كان قد دار في بعض الأوساط السياسية بأن عبد المهدي أحد المرشحين.

كانت الانتخابات العراقية الأخيرة قد صدمت سواءً على نطاق نسبة المشاركة الجماهيرية المتواضعة، التي ناهزت الـ25 في المائة، أو النتائج التي أحرجت الكتل السياسية التقليدية. وهذا، فضلاً عن الجدل الذي رافقها بشأن التزوير والعد والفرز اليدوي أو الإلكتروني.
عادل عبد المهدي، الذي يعد من القادة المؤسسين لـ«عراق ما بعد عام 2003» لم يشارك في تلك الانتخابات. ولكونه سياسياً محترفاً، ويعرف الوسط السياسي العراقي عن قرب، بما في ذلك مسالكه ومطابخه السرّية، يدرك أن لا فرصة لمستقل أو غير مشارك في الانتخابات لأسباب كثيرة، لعل من أبرزها أن الكتل - ولا سيما الكبيرة منها - التي شاركت في الانتخابات وأحرزت عدداً كبيراً من المقاعد تفضّل مرشحيها المدعومين داخلياً وخارجياً. وبالتالي، ليس بوسعها التفريط بما تعدّه حقاً انتخابياً.
المسألة الأخرى المهمة أن لكل منصب في العراق ثمناً انتخابياً تقابله عدد المقاعد التي يجب على المرشح لأي منصب الحصول عليها. ومنصب رئيس الوزراء يكاد يحوز على أكثرية النقاط أو المقاعد البرلمانية، وعددها 35 نقطة أو مقعداً برلمانياً... فمن أين يأتي بالكتلة التي تمنحه كل هذه المقاعد من دون مقابل؟
انسجاماً مع ذلك، كتب عبد المهدي مقاله الشهير الذي أسدل من خلاله الستار على كل جدل بشأن إمكانية ترشحه للمنصب. وبالفعل، انزوى الرجل جانباً مكتفياً بتقديم النصائح والإرشادات بما يمتلكه من خبرة وكفاءة. وما يُذكر أنه كان قبل ذلك قد عبّر عن زهده في المناصب حين استقال من منصب نائب رئيس الجمهورية عام 2011. كذلك، استقال من آخر منصب كان يشغله، وهو وزير النفط في حكومة الدكتور حيدر العبادي عام 2016 بعدما كان أبرم اتفاقاً نفطياً مع الأكراد بشأن النفط مقابل الموازنة. ليس هذا فقط، بل كان قد استقال أيضاً من عضوية «المجلس الأعلى الإسلامي» قبل انشقاق زعيمه عمّار الحكيم عنه وتأسيسه «تيار الحكمة الوطني». لذلك؛ بات عبد المهدي مستقلاً تماماً وهي في العراق ميزة مرة وإشكالية مرة أخرى. فهي ميزة لمن لا يريد زج نفسه من جديد في العمل السياسي. وطبقاً لمقال عبد المهدي «أشكركم فالشروط غير متوفرة» فإن رؤيته لبناء الدولة التي ضمنها المقال عبرت عن عدم رضاه للمسار التي تريد الكتل الفائزة بالانتخابات اتخاذه، وهو نهج المحاصصة بعيداً عن الشعارات التي كانت رفعتها أثناء الانتخابات وهي تشكيل حكومة قوية بغالبية سياسية ومشاركة وطنية تنسجم مع إرادة الناس.

- بعد خراب البصرة!
خلال فصل الصيف الماضي حين الحراك السياسي والبرلماني في العراق على أشده انطلقت المظاهرات المعتادة سنوياً في محافظة البصرة بسبب الكهرباء والماء وقلة الخدمات. وكالعادة المتبعة، سنوياً أيضاً، امتدت تلك المظاهرات إلى الكثير من المحافظات الوسطى والجنوبية... وصولاً إلى العاصمة بغداد. وخلال شهر يوليو (تموز) الماضي كانت ولاية البرلمان السابق قد انتهت، وتحولت حكومة حيدر العبادي إلى حكومة تصريف الأعمال.
كانت كل المؤشرات تؤكد أن المظاهرات لن تتعدى الخطوط المرسومة لها سنوياً. غير أن ما حصل فيما بعد من تطورات مخيفة، وصلت إلى حد حرق مقرات الدوائر والمؤسسات والأحزاب، كشف عن إمكانية حدوث مواجهة وشيكة بين الأحزاب والفصائل الشيعية.
عندها وصل النظام السياسي في البلاد إلى مرحلة الانسداد أو الفشل التام، وانعكس ذلك على طبيعة المرشحين لشغل منصب رئيس الوزراء. وكان العبادي أول من احترق بلهيب النار المشتعل في البصرة. ثم لحق به هادي العامري، الذي أعلن انسحابه رسمياً من التنافس على منصب رئاسة الوزراء. ومن ثم، لم يعد في الساحة بعد خراب البصرة سوى مرشحي التسوية.
لكن، حتى بين هؤلاء لم يكن اسم عادل عبد المهدي قد جرى تداوله إلى أن بدأ أول ملامح رؤية المرجعية الدينية بشأن أوصاف رئيس الوزراء المقبل، وهي التي أردفها مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، بمجموعة من الشروط بدت في معظمها لا تنطبق على غالبية الأسماء المطروحة. عندها ظهر اسم عادل عبد المهدي في حيّز التداول بشأن ترشيحه لتشكيل الحكومة طبقاً لتوافق بين زعيم التيار الصدري وزعيم كتلة «الفتح» هادي العامري، ومن دون رفض من قبل المرجعية الدينية في النجف.
مهمة عبد المهدي لا شك، صعبة، بل باتت توصف في الأوساط السياسية والنخبوية بأنها بمثابة الفرصة الأخيرة للعراق، ولا سيما أن أحداث البصرة قد تتكرر وفي أكثر من مكان بالعراق وربما تطيح النظام السياسي كله. وفي هذا السياق، يقول الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية السابق علي الدباغ لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدكتور عادل عبد المهدي تسلم رئاسة مجلس الوزراء بتركة ثقيلة نتيجة الحرب على (داعش)، والعشوائية التي صاحبت الفترة الماضية، مع موارد شحيحة وسقف توقعات مشروع وعالٍ، وليس ميسوراً تحقيق نسب نجاح عالية». وأضاف الدباغ، أن «ما يتوجب عمله هو تهدئة قلق الشارع وغضبه، وإعطاء جرعة أمل منشّطة، عبر توفير فرص عمل من القطاع الخاص، من خلال تقديم إغراءات وإعفاءات ضمن الحدود المتوفرة. إذ لم تعد الدولة قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من البطالة وجموع الخريجين الجدد». وتابع «الأمر يتطلب توفير الحد الأدنى من الخدمات، وتحسينها عبر رؤية جديدة لا تعتمد الآلية التي لم تحقق نجاحاً».
وحول رؤيته لما يمكن أن يقدِم عليه رئيس الوزراء المكلف، يقول الدباغ إن «عبد المهدي سيركز على نزع فتائل التوتر السياسي الداخلية والإقليمية؛ ذلك أنه رجل حوار وليس شخصية صدامية. وسيقارب ما يمكن حله من الملفات الساخنة، ويدير ما يُختلف عليه بطريقة مختلفة، ما يخلق ثقة بين الشركاء وينزع الشكوك. وعلى المستوى الإقليمي، يحتاج إلى مقاربة هادئة للأزمات التي تعصف بالمنطقة، والعلاقات المتشنجة مع بعض الدول، مثل تركيا».
ويستطرد الدباغ بأن «رئيس الوزراء المكلف يحتاج إلى تطوير هذا الانسجام الحاصل بين الرئاسات الثلاث، كل من موقعه، ودون الإخلال بدور كل منهم».

- تحوّلات الفكر والموقف
يتنافس في شخصية عادل عبد المهدي انتماءان، الأول عائلي والآخر سياسي. فعبد المهدي الذي ولد في منطقة البتاوين ببغداد عام، وينتمي إلى أسرة ميسورة يمتد نسبها إلى آل البيت، وتعود جذورها إلى جنوب العراق، وتحديداً محافظة ذي قار (الناصرية). والده عبد المهدي المنتفجي (أو المنتفكي)، وهو لقب يعود إلى البيئة العشائرية البارزة للمدينة التي ينتمي إليها، أي مدينة الناصرية العاصمة الإدارية لمحافظة ذي قار. وكان الوالد قد شغل منصب وزير المعارف إبان العهد الملكي، بالإضافة إلى عضوية مجلس الأمة لست دورات.
تلقى عادل عبد المهدي تعليمه المتوسط في كلية بغداد، وهي كلية خاصة يسوعية راقية تخرجت فيها نخبة من أبرز شخصيات العراق. وبعدها، التحق بجامعة بغداد، حيث تخرج حاملاً شهادة البكالوريوس في الاقتصاد. ثم سافر إلى فرنسا، وهناك حصل على الماجستير في العلوم السياسية من المعهد الدولي للإدارة العامة في العاصمة الفرنسية باريس عام 1970، ثم تابع دراساته المعمقة فحاز ماجستير ثانية في الاقتصاد السياسي من جامعة بواتييه عام 1972، وأنهى أطروحة الدكتوراه، لكنه لم يناقشها.
هذا على الصعيد الأكاديمي، أما على الصعيدين الفكري والسياسي، فإنه بدأ حياته السياسية عروبياً؛ إذ انتمى في فترة شبابه المبكر إلى حزب البعث العربي الاشتراكي. بيد أنه سرعان ما غادر الفكر القومي ليصبح شيوعياً ماوياً لفترة قصيرة سبقت سفره إلى فرنسا لإتمام دراسته العليا المتقدمة. ومع أن اللقب الشائع عنه «الدكتور» عادل عبد المهدي، فإنه يفضّل أن يطلق عليه لقب «السيد» انطلاقاً من نسبه العلوي.
في باريس التقى عادل عبد المهدي في ثمانينات القرن الماضي زعيم «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» محمد باقر الحكيم - قتل خلال شهر أغسطس (آب) عام 2003 بعد شهور قلائل من سقوط نظام صدام حسين -، وطلب منه الحكيم الإشراف على منشورات «المجلس» هناك، ولا سيما أن عبد المهدي كان يملك داراً صغيرة للنشر. ولقد فتح هذا التعارف والعمل المشترك أمام رئيس الوزراء المكلّف (اليوم) الباب إلى الدخول إلى الحركة الإسلامية، التي سرعان ما جعلت منه أحد قادة المعارضة لنظام صدام حسين طوال أكثر من عقدين من الزمن.

- مسيرته بعد 2003
بعد عام 2003 تقلد عادل عبد المهدي مناصب عدة، من أبرزها عضو مناوب في «مجلس الحكم» الذي أسسه الحاكم المدني الأميركي بول بريمر عام 2003، ووزير المالية في حكومة إياد علاوي الأولى (2004 ـ 2005)، ومن ثم وزير النفط في حكومة حيدر العبادي (عام 2014 ليستقيل منها عام 2016). كما تقلد منصب نائب رئيس الجمهورية في ولاية الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني، قبل أن يستقيل من المنصب عام 2011؛ الأمر الذي أعطى الناس عنه فكرة زهده في المناصب وقلة تشبثه بها.
اليوم، بعد تكليف عادل عبد المهدي تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، فإنه في الوقت الذي يحظى بدعم كامل من قِبل جميع الكتل السياسية - فضلاً عن مقبولية إقليمية ودولية - فإن الخشية تلازم الجميع من أن أي فشل لحكومته العتيدة سيكون له نتائج وخيمة على العراق. باختصار، المطلوب راهناً من عبد المهدي ليس النجاح في معالجة ملف الخدمات الشائك في البلاد فحسب، بل معالجة ما هو أخطر من ذلك، وهو العيوب التي تعتري العملية السياسية في البلاد.
ومع أن الجميع يرى أن عبد المهدي يحمل من المؤهلات ما يؤهله للعمل والنجاح، تبقى المشكلة الأساسية - التي لا تزال تشكل عقبة كبيرة - هي أن «الدولة العميقة» في العراق هي التي تهيمن على كل شيء. وهو واقع من شأنه الحد من قدرات رجل فكر وسياسة... يحتاج إلى بيئة سليمة لكي يتمكن من تنفيذ برنامجه السياسي ـ الإصلاحي بمضمونه الاقتصادي، الذي يقوم على تحويل العراق من بلد ريعي يعتمد على مداخيل النفط فقط إلى بلد منتج تتعدد فيه مصادر الدخل.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.