لا يحتمل أي بحث في تاريخ السينما أكثر من بضع دقائق قبل أن يبرز اسم إنغمار برغمن كأحد عباقرته. مخرج سويدي كانت له رؤيته للدين وللحياة وللموت ولمتاعب النفس البشرية وأهوائها. كان لديه أسلوبه الخاص في مداولة شخصياته ومعالجته غير التقليدية لطرح حكاياتها.
إنغمار برغمن عرف كيف يختلف وبقي مختلفاً. حاورت أفلامه محيطها من مشاهدين ونقاد وبقيت، طوال العقود الكثيرة التي مرّت عليها، مصادر معرفة ونماذج فنية بالغة التميّز والأهمية.
- شخصيات مكشوفة
وُلد برغمن في 14 يوليو (تموز) 1918 وهو العام ذاته الذي وُلد فيه الكاتب البوليسي ميكي سبيلين والممثل ويليام هولدن والمخرج روبرت ألدريتش والمخرجة إيدا لوبينو والممثلتان ريتا هيوارث وتيريزا رايت من بين آخرين كثيرين ليس من بينهم، أو سواهم لاحقاً، من حازت أعماله منهج تفكير وأسلوب عمل المخرج السويدي الأشهر.
حياة برغمن وترعرعه في بيت متدين وتأثير الأب والكنيسة والمدرسة عليه بات أمراً معلوماً وهو في متناول أي مهتم أو باحث. كذلك حبه للمسرح وللسينما ومجمل أعماله المصوّرة التي بلغت 57 فيلماً طويلاً (وهناك ثلاثة أفلام قصيرة ونحو 40 عملا تلفزيونيا). هذه لا غبار عليها كحقائق حياتية لا تتحمّل التأليف ولا التكرار بعدما تم تأليف الكتب عنها وعنه وكتابة مئات المقالات حول اهتماماته الفنية والإنسانية بمختلف اللغات.
الأمر الوحيد الذي لا يزال يتحلق حوله النقد الجاد هو تلك الأفلام التي خلفها وراءه وما تعبر عنه من اتجاهات ورؤى وكيف قام المخرج بمعالجتها بصرياً ليتداول أعماق شخصياته وردات فعلها على أفعال الذات البشرية وما تحمله بدورها - من مؤثرات.
هذه الشخصيات كانت معرّضة. مكشوفة. جاهزة للبحث. غريبة في موطنها وأكثر غرابة بالنسبة لنا نحن المستقبلين لها ما وراء الحدود السويدية أو الإسكندنافية. أسلوبه الذي «شخصن» السينما وكان سابقاً للموجة الجديدة الفرنسية أو البريطانية وحتى بعد أن وُجدت تلك الموجة بقيت أفلامه مختلفة ولو أنها جميعاً أضحت صفاً واحداً ضد الأسلوب الحكائي التقليدية في سرد القصّة.
إذا ما كان للسينما الشعبية من نقيض كامل فبرغمن من بين أبرز النقائض، مثله في ذلك مثل الفرنسي جان - لوك غودار والروسي أندريه تاركوفسكي والأميركي ديفيد لينش. وهذا كله يأتي من إصرار المخرج على الكيفية التي سيعالج بها إصراراً آخر: تلك الشخصيات المكبّلة بمؤثراتها العاطفية التي - بدورها - نتاج البيت والمدينة والتعاليم السائدة. هذه الشخصيات لم تظهر دوماً في كل أعماله، بل تطورت لما أمست عليه في أواخر الخمسينات وطوال الستينات وما بعد.
- الأربعينات: فترة تأسيس ما هو قادم
أفلام برغمن في الأربعينات شملت ثمانية أفلام ليس من بينها ما لحق بقطار سواه من الأعمال البديعة. بعد مشاهدتها جميعاً (باستثناء «سفينة للهند»، 1967» و«موسيقى في الظلام، 1948) يجد هذا الناقد نفسه أمام مخرج يتلمّس طريقاً لم يبلوره بعد. هي دراميات ورومانسيات تشتغل على قضايا اجتماعية طفيفة الأثر. هذا يتضح في «أمطرت على حبنا» (1946) و«ميناء النداء» (1948) وفي «عطش» (1949) مثلاً. لم تستقبل أفلامه تلك جيداً من قِبل النقاد السويديين (والإسكندنافيين عموماً) لكن ذلك لا يعني أن مخرجها لم يحاول تناول التركيبة الذاتية لأفراده ومناهل التأثير الفردي والاجتماعي الذي يدفعها لقراراتها أو أنها كانت أعمالاً لاهية ورديئة.
- الخمسينات: ولادة برغمن الذي عرفناه.
الخمسينات هي قضية أخرى. هنا تبلور أسلوب طرح ومنهج اشتغاله على تلك المصائر التي يتناولها. بالتالي، ومنذ «تطفل صيفي» (1951) بدأ سعيه لتقديم ما هو مختلف فعلياً عن أفلام أترابه ومتطوّر عملياً عن بداياته. هنا نراه يتعامل أكثر مع شخصيات تستند إلى تجاربها السابقة لتحدد اتجاهاتها، لكنها لا تستطيع لأن ما مرّت به من تجارب، نفسية وعاطفية، دخل في مضمار الشعور بالندم. وإذا كانت أفلام برغمن تتمحور حول شيء واحد فإن الندم هو ذلك المحور.
في الخمسينات عرفني برغمن عن كثب أفضل: «الختم السابق» و«الفريز البري» (كلاهما سنة 1957) عملان رائعان ينتميان إلى برغمن الذي عرفناه واستحق الإعجاب.
- الستينات: بلوغ القمّة
هذا هو العقد الفريد بالنسبة لبرغمن. أفلامه في ذلك العقد شملت روائع مؤكدة منها بينها «ينبوع العذارى» و«خلال منظار معتم» و«ساعة الذئب» كما ثلاثيته الأعمق شأناً من معظم ما أوردته السينما في تاريخها وهي «الصمت» (1963) و«برسونا» (1966) و«عار» (1968).
كذلك هو العقد الذي ازدادت فيه علاقته الأسروية بممثليه كماكس فون سيدو وإنغريد ثولين وغونل ليندبلوم وبيبي أندرسن وليف أولمن وإلاند جوزفسون. وبمدير تصويره سفن نيكفست ومونتيرته أولا ريغي.
كذلك فإن هذه الأفلام المذكورة زادت من عبء التركيز على الأزمات النفسية والدينية وكلا المصدرين هما، بالنسبة لبرغمن، وجهان لعملة واحدة عبّر عنها فيلم «ساعة الذئب» على نحو مبتكر ومختلف عن أفلامه المذكورة الأخرى. هذا في حين أن «برسونا» كان الاتجاه الأقصى لطرح دواخل شخصيتيه الرئيسيتين وتداخلهما كما لو كانت كل شخصية هي امتداد للأخرى.
- السبعينات: العالي والمنخفض
بلغ برغمن هنا أوج نجاحه. أفلامه كانت اكتسبت شعبية لا بأس بها في الستينات وفي السبعينات ازدادت. لكن المخرج العبقري كشف أنه يستطيع أن يخطئ من حيث لا يريد. هذا وقع في «اللمسة» (1971) وفي «بيضة الأفعى» (1977) و«سوناتا الخريف» (1978). هذه أفلام تسير على المنوال نفسه إنما من دون إضافة أو تطوير.
لكن في المقابل كان ما زال ممسكاً بزمام أعمال ممتازة أخرى مثل «صرخات وهمسات» (1972) و«مشاهد من زواج» (1974) و«وجه لوجه» (1976).
توفي برغمن في الثلاثين من يوليو سنة 2007 لكن ليس من قبل أن يوقع على عملين جيدين آخرين هما «فاني وألكسندرا» (1982) و«ساراباند» (2003). هذا الثاني كان إنتاج تلفزيوني (ولو أنه عرض على الشاشات الكبيرة خارج موطنه). لكن حينها كان المثقفون الجدد شبعوا باكراً من برغمن وهمومه فلم يتم تقدير العمل على النحو الصحيح.