عيّن الرئيس الفرنسي، أمس، وزير داخلية جديداً اسمه كريستوف كاستانير، ويبلغ من العمر 52 سنة. لم يأت كاستانير إلى هذا المنصب من لا مكان، ولم يخرجه الرئيس إيمانويل ماكرون من قبعته، بعد أسبوعين على استقالة الوزير السابق جيرار كولومب بحجة رغبته في العودة إلى ليون، مدينته التي يحبها، والتي شغل رئاسة بلديتها ومقعدها النيابي لسنوات مديدة (12 عاماً).
استقالة كولومب، الرجل الثاني في حكومة إدوار فيليب، شكّلت ضربة سياسية قاسية لماكرون، لأنه كان من الوزراء القلائل الذين يتمتعون بوزن سياسي، ومن أوائل الذين دعموا المرشح المغمور لرئاسة الجمهورية وراهنوا عليه. والأسوأ أن استقالته فُرضت على ماكرون، كما كانت استقالة وزير البيئة نيكولا هولو، الذي سبقه بأسابيع ثلاثة فقط.
هولو لم يخبر ماكرون سلفاً برغبته في الاستقالة، بل أعلنها في مقابلة صحافية صباحية. أما كولومب، فقد ذكرها في حديث لصحيفة «لو فيغاور». ورغم سعي ماكرون لثنيه عن ترك الحكومة، إلا أن كولومب أصر على ذلك، بل إنه وضع رئيس الجمهورية أمام الأمر الواقع.
وفي الحالتين، اهتز وضع الرئيس سياسياً. فبعد الصيف الرديء الذي هيمنت عليه «فضيحة ألكسندر بنعالا»، وتراجع شعبية ماكرون إلى الحضيض، وغياب النتائج المنتظرة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وزيادة الضرائب، وتواتر الاحتجاجات المطلبية، جاءت الاستقالات المتلاحقة لتضع الرئيس والحكومة في وضع بالغ الهشاشة، ما فتح الباب للمعارضة يميناً ويساراً لأن تستعيد عافيتها «على ظهر» الحكومة والرئاسة. من هنا، كان من المهم جداً بالنسبة لماكرون أن تكون عملية إعادة صياغة الحكومة فرصة لدفعة سياسية تخرجه من أزمته الراهنة، الأمر الذي يفسر التأخير الذي لحق بتسمية الوزراء الجدد.
وهذا الواقع دفع بكثير من أصوات المعارضة من كل اتجاه إلى اعتبار أن التأخير سببه الأول «نضوب» الشخصيات القوية والموثوقة داخل الحزب الرئاسي «الجمهورية إلى الأمام».
من هذه الزاوية، يمكن أن نفهم أهمية وصول كريستوف كاستانير إلى وزارة الداخلية التي هي وزارة سيادية. فهي من جهة، من بين الأهم لأن شاغلها صاحب «آذان طويلة»، باعتبار أن كل تقارير المخابرات تحط على مكتبه كل صباح، ولأنه يعمل بشكل وثيق مع رئيسي الجمهورية والحكومة، ولأن وزارته لصيقة جغرافياً بقصر الإليزيه الذي لا يفصلها عنه سوى شارع «فوبورغ سان هونوريه». ثم إن وزير الداخلية مسؤول عن أمن البلاد والمواطنين، وفرنسا تعتبر أن التهديد الإرهابي ما زال قوياً.
إضافة إلى ذلك كله، فإن وزير الداخلية مسؤول عن الانتخابات وعن تقسيم الدوائر الانتخابية، والبلاد قادمة على انتخابات أوروبية، الربيع المقبل، ثم بلدية في العام الذي بعده، فضلاً عن أن ماكرون يريد خفض عدد النواب بنسبة الثلث، وبالتالي ثمة حاجة لإعادة تقسيم الدوائر.
وأخيراً، فإن وزير الداخلية هو أيضاً وزير شؤون العبادة، وبالتالي فإنّه يمثّل الدولة في علاقتها بالأديان، خصوصاً بالديانة الإسلامية. وليس سراً أن ماكرون أجّل أكثر من مرة الكشف عن خططه لتمثيل مسلمي فرنسا، بعد أن تبيّن أن «المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية» الذي رأى النور في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي، عندما كان وزيراً للداخلية، يتعين إعادة النظر في تركيبته ووظائفه.
يقول المتابعون إن وزير الداخلية الجديد كان يحلم منذ فوز ماكرون بالرئاسة، بالجلوس على مقعد وزير الداخلية ليكون خليفة لفوشيه الرهيب، وزير الداخلية في عهد الإمبراطور نابليون بونابرت، الذي يقال عنه إنه كان يعرف كل صغيرة وكبيرة في الإمبراطورية. ولعل أهم ميزة يتمتع بها كريستوف كاستانير أنه من أوائل الشخصيات التي التحقت بماكرون. فالنائب الاشتراكي عن منطقة تقع في جبال البيرينيه، تعرّف إلى رئيس الجمهورية عندما كان الأخير أميناً عاماً مساعداً لقصر الإليزيه، ثم لاحقاً وزيراً للاقتصاد. ولعب كاستانير دوراً تنظيمياً وسياسياً إلى جانب ماكرون خلال الحملة الانتخابية، فقد قدّم من جهة استقالته من الحزب الاشتراكي الذي انتمى إليه في العام 1986، والتحق بحركة «إلى الأمام» التي شكلها ماكرون. وكافأه الأخير بأن عينه ناطقاً باسمه إبان الحملة الرئاسية، حيث برزت مواهبه كمحاور هادئ لا يفقد أعصابه ومتمكن من ملفاته.
كان من الطبيعي أن يرافق كاستانير، الرئيس الجديد، وزيراً في أول حكومة شكلها إدوار فيليب، برتبة وزير دولة، ولكن الأهم من ذلك ناطقاً باسم الحكومة. وكل يوم أربعاء، كان كاستانير يطل على الصحافيين ليشرح عمل الرئيس والحكومة، وخصوصاً ليقارع المعارضة. ولأن ماكرون كان بحاجة لشخصية وفية ومضمونة الولاء له ليضعها على رأس حركته التي تحولت إلى حزب سمي «الجمهورية إلى الأمام»، فإنه لم يجد أفضل من كاستانير ليكلفه بهذه المهمة، رغم أن الأخير، وفق ما يؤكده عارفوه، ليس رجل أجهزة حزبية، ولم يكن لاهثاً أبداً وراء هذه المهمة. إلا أنه قبل القيام بها «لأن الرئيس طلب منه ذلك».
هكذا ارتفعت أسهم كاستانير، وتفوّق اسمه على منافسيه لما يتمتع به من إمكانات وصفات، ولأن ماكرون أراده في منصبه الجديد، مفضلاً إياه على وزير الخزانة جيرار درامانان الذي كان يدفعه رئيس الحكومة إلى الأمام، وعلى فردريك بشنار، مدير جهاز الشرطة السابق، وكلاهما قريب من الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي. ولأن كاستانير لا يتمتع بخبرات عالية في الملف الأمني، ويفتقر لشبكات فاعلة داخل الأجهزة الأمنية، فقد عين ماكرون إلى جانبه لوران نونيز، وزير دولة، لمساعدته في مهماته.
وحتى أمس، كان نونيز مديراً للمديرية العامة للأمن الداخلي (المخابرات الداخلية). لكن هذا الثنائي لا يبدو أنه يرضي المعارضة، إذ سارعت ليديا غيروس، الناطقة باسم حزب «الجمهوريون» اليميني، إلى اعتبار أن وجود كاستانير في منصبه الجديد «لا يجعلها تطمئن إلى أمن الفرنسيين، ولا إلى الدفاع عن العلمانية، ولا الوقوف بوجه الطوائفية الإسلامية»، على حد قولها.
هكذا أغلق ماكرون أمس ملف وزارة الداخلية وكافة التعيينات، محاولاً إسدال الستار على الجدل الذي واكب هذه العملية. وإلى جانب كاستانير، عمد ماكرون إلى مجموعة تعديلات طالت وزارات الثقافة والزراعة وإدارة المناطق وعدد آخر من وزارات الدولة الأقل أهمية. وهدفه من كل ذلك توفير انطلاقة جديدة لمواجهة الاستحقاقات السياسية والاجتماعية التي تنتظر حكومته.
ماكرون يعيّن كاستانير وزيراً للداخلية
يسعى إلى انطلاقة جديدة تسدل الستار على صعوبات الأشهر الأخيرة
ماكرون يعيّن كاستانير وزيراً للداخلية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة