تقاطع الراهن السياسي والثقافي العربي

محمد عابد الجابري
محمد عابد الجابري
TT

تقاطع الراهن السياسي والثقافي العربي

محمد عابد الجابري
محمد عابد الجابري

يرى المتلقي في المؤلفات العربية عبر الأزمنة الثقافية قديماً وحديثاً؛ أنه أمام كثير من الكتب العربية الواقعة تحت الراهن السياسي أيّاً كان زمانها، وحيث استقر بها المكان، فمنذ أن كتبَ ابن المقفع (رسالة الصحابة) كان مُلِماً بالموقف السياسي في زمانه، إذ لجأ إلى سؤال الراهن وأبان عن موقفه تجاه هذا الواقع المؤلم!! فاستمسك بالكتابة والحكمة؛ لتشكيل طوق نجاة يتوسل فيه بالكتابة من خلاله؛ ولكي ينجو أمام التلقي والتاريخ من مصيره الذي بات هاجساً يتربص به.
فالاستشهاد برسالة الصحابة جاء من أجل الحاجة إلى فعل الكتابة قديماً في الكشف عن علاقة التأليف بالراهن السياسي، ويقاس عليها عبر الأزمنة المتتالية والمتلاحقة مروراً بالدول (شرقاً وغرباً) حتى العصر الحديث، إذ يجد القارئ أنه أمام كتب وموسوعات تأسس التأليف فيها على الراهن السياسي، إمَّا بطلب من السلطة السياسية المتمثلة في مؤسسة أو جامعة أو شخص بعينه، أو بمبادرة من المؤلف ذاته، بناءً على ما يراه ويقرأه في الراهن السياسي.
فنرى على سبيل المثال كتاب «ﻃﺒﺎﺋﻊ اﻻﺳﺘﺒﺪاد وﻣﺼﺎرع اﻻﺳﺘﻌﺒﺎد» لعبد اﻟﺮﺣﻤﻦ اﻟﻜﻮاﻛﺒﻲ الذي كان يرى في جدل السياسة والعلم: أن المستبد ترتعد فرائصه من علوم الحياة «مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق العلم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية)»، ويقول: إن «للعلم سلطاناً أقوى من كل سلطان». ونقرأ مقدمة: (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، حيث أشار فيها مؤلفها محمود محمد شاكر إلى الفساد الثقافي والسياسي والاجتماعي؛ فباتت في تقاطع ثقافي/ سياسي لنشر رؤية عربية للكشف عما يدور في الراهن السياسي وما يبثه الغرب في عقول العرب.
ثم نتقدم قليلاً لنرى أن الراهن السياسي - إبَّان النكسة - قد أخرج للعرب مجموعة من المؤلفات على مستوى الإبداع والنقد والفلسفة والفكر عموماً كشفت عن العلاقة القائمة بين الراهن الدافع نحو الاحتياج للكتابة وبين المؤلفين القارئين للواقع السياسي والمعبرين عن رؤاهم الخاصة تجاه الأحداث الكبرى الفاعلة في بناء الكتابة. فقد يلجأ المتلقي إلى تحزيب النتاج الثقافي وفق الأحداث الكبرى، فيتجلى أدب النكسة، وأدب الحروب ومرحلة الانتصار العربي، وفترة دخول إسرائيل لبنان، وأحداث جيهمان، وحرب الكويت، وحرب العراق، وأحداث 11 سبتمبر.
هذه الجدلية (جدلية الثقافة والسياسة) أشار إليها الدكتور محمد عابد الجابري في مقدمة كتابه «مدخل إلى القرآن الكريم» - الجزء الأول - مُرْجعاً علاقتهُ بما يكتب بالعارض السياسي، وكأنَّه يريدُ القول إن ما يكتبه في الجانب الفكري قائم على علاقته بالراهن السياسي من حيث هو الدافع إلى الكتابة والتأليف، فما كتبه في «نقد العقل العربي» كان له الاتصال بالتحولات التي أعقبت نكسة 1967م، وأن كتابه ًمدخل إلى القرآن الكريم« له علاقة بالتحولات التي أعقبت أحداث سبتمبر 2001م وما تلاها.
يؤمن الجابري بجدلية السياسي/ الثقافي في مسيرته الفكرية، إذ تتأسس في جُلِّ ما يكتبه على إحراج السياسة بالتاريخ وليس العكس، هذا ما صرَّحَ به وأبَان عنه في كتابه سالف الذكر.
وإذْ كانَ الأمر كذلك فإن المبدعين والمؤلفين ممن امتهنَ الكتابة وفقَ التقاطع السياسي/ الثقافي؛ ينطلقون في جُلِّ مؤلفاتهم إلى الإجابة عن الدافع السياسي الكامن خلف أسئلة يناقشون من خلالها الإشكالات المتنوعة الدافعة إلى تدوين الرؤى القائمة على التنوع السياسي والمرجعيات الثقافية المختلفة، وتتشكل وفق موقف كل مؤلف من الراهن السياسي، والموقف يختلف باختلاف مقام الرفق ومقام التأييد، بل تتجلى إشكالات أخرى تتكون وفق المرجعيات الثقافية.
ومما يجيء في هذا السياق كتاب الدكتور محمد جابر الأنصاري «انتحار المثقفين العرب»، إذ أشار في بناء مقالات الكتاب الخاصة بانتحار المثقفين المعاصرين أمثال خليل حاوي وآخرين؛ أشار إلى الأوضاع العربية الراهنة، قاصداً الوضع السياسي في تلك الحقبة الزمنية التي دفعت ببعض المثقفين إلى الانتحار، والهزيمة الثقافية أمام الطغيان والظلم الواقع على الأمة العربية.
والأمثلة قد تطول في موضوع العلاقة بين التأليف والراهن السياسي في شتى موضوعات الكتابة العربية؛ لكنني أشير هنا إلى أهمية التوظيف في استغلال الراهن السياسي قد يكون من أجل التسويق للمؤلفات، كما أنه يعود لغاية تختبئ وراءها غاية التأليف!! لكن سيظل التلقي لهذه المؤلفات كاشفاً حقيقياً لفعل القراءة وتنوعها في تفكيك العلاقة بين الكتابات المختلفة وبين القضايا الساخنة التي تتأسس على الأوضاع العربية والعالمية الراهنة، هذه الملاحقة في الكتابات أنشأت حوارات علمية على مستوى حوار النصوص بينها بين، فتأسس على إثرها كثيرٌ من المؤلفات العربية والعالمية أيضاً، فعلى سبيل المثال نجد كتاب «صراع الحضارات» لصامويل هنتنجتون أظهر لنا عربياً «حوار الحضارات»، اعتقد أن الراهن السياسي هو من أملى هذه المؤلفات، وأسس نوعاً من الحساسية لدى المتلقي في تلقي ما يقرأه في السياقات المختلفة حين يلجأ إلى تفكيك الراهن السياسي والإجابة على الأسئلة الملِّحّة في العلاقة بين فرضية الراهن السياسي وإنشاء التأليف العربي على مستوى الإبداع والنقد والفكر.
باختصار سيظل الجدل قائماً بين (الثقافي والسياسي) ليس لدى العرب وحدهم؛ بل في كل الحضارات التي تسعى نحو فكر مدني وحضارة تقدر الإنسان، وطالما أنَّ الثقافي يمثل صوت الشعب المغلوب على أمره، وأن الراهن السياسي يمثل الصوت الموجه للثقافي؛ فإنَّ الجدل سيظل قائماً، والاختلاف مستمر!! وما نتوق إليه مستقبلاً من أجل بناء حضارة مزدهرة أن يتصالح السياسي والثقافي وفق استراتيجيات واضحة ومتلائمة للنهوض بالإنسان العربي وبفكره وحضارته.

- كاتب سعودي
دكتوراه في الأدب والنقد



«مجتمع ورث» يحيي التراث السعودي برؤية عالمية

«مجتمع ورث» منصة لإحياء وتطوير الحرف اليدوية وربطها بالتصميمات الحديثة (الشرق الأوسط)
«مجتمع ورث» منصة لإحياء وتطوير الحرف اليدوية وربطها بالتصميمات الحديثة (الشرق الأوسط)
TT

«مجتمع ورث» يحيي التراث السعودي برؤية عالمية

«مجتمع ورث» منصة لإحياء وتطوير الحرف اليدوية وربطها بالتصميمات الحديثة (الشرق الأوسط)
«مجتمع ورث» منصة لإحياء وتطوير الحرف اليدوية وربطها بالتصميمات الحديثة (الشرق الأوسط)

في إطار الاهتمام المتزايد بإحياء التراث السعودي وتعزيز الهوية الثقافية الوطنية، أطلق المعهد الملكي للفنون التقليدية «وِرث» مبادرته المتميزة «مجتمع وِرث»، في يوم 4 يناير 2025، وذلك في مقره الرئيسي بمدينة الرياض. يأتي ذلك بالتزامن مع إعلان عام 2025 عاماً للحِرف اليدوية، ما يُجسد رؤية المملكة في دعم الفنون التقليدية وصونها وتطويرها لتكون جزءاً من الثقافة الحية التي تجمع بين الأصالة والحداثة.

ويهدف «مجتمع وِرث» إلى أن يكون المنصة الرائدة لإحياء وتطوير الحِرف اليدوية السعودية وربطها بالتصميم والتقنيات الحديثة. كما يسعى إلى تعزيز مشاركة المؤسسات والمجتمع المحلي في إبراز أهمية الفنون التقليدية في دعم الهوية الثقافية، إلى جانب تمكين الأفراد من استكشاف الإمكانات الكامنة في توظيف تلك الفنون عبر تقنيات معاصرة تشمل لقاءات وورش عمل تفاعلية مع نخبة من الخبراء والمختصين في مجالات الحِرف اليدوية والفنون التقليدية، مما يتيح فرصة استثنائية لتبادل الخبرات وإثراء المعارف وتطوير المهارات.

أنشطة تعليمية وحرفية يقدمها «مجتمع ورث» (الشرق الأوسط)

هذه الخطوة تمثل رؤية طموحًا تجمع بين الحفاظ على التراث وإعادة تقديمه بأساليب مبتكرة، فهي تعمل على دمج الحِرف اليدوية مع أدوات التكنولوجيا الحديثة مثل النمذجة ثلاثية الأبعاد، والطباعة الرقمية، والتصنيع الذكي، مما يسهم في تحويل المنتجات التراثية إلى أعمال عصرية تلبي متطلبات السوق المحلية والعالمية، مع الحفاظ على جذورها الأصيلة.

وتشمل فعاليات «مجتمع وِرث» مجموعة واسعة من الأنشطة التعليمية والحرفية والريادية التي تستهدف جميع المهتمين بالفنون التقليدية. ومن أبرز ورش العمل المقدمة، التدريب على تصميم المنتجات التراثية باستخدام البرامج الحديثة، وتطوير المهارات التسويقية للحرفيين عبر القنوات الرقمية، إلى جانب استراتيجيات دمج التصميم المعاصر مع الحرف اليدوية، كما يقدم المجتمع جلسات حوارية تضم خبراء ومتخصصين، وتركز على استكشاف تطورات هذا المجال وإيجاد حلول مبتكرة تحفز الإبداع والابتكار.

ويُعد المعهد الملكي للفنون التقليدية «وِرث» مؤسسة رائدة تسعى إلى الحفاظ على التراث الوطني السعودي وتعزيزه، من خلال تبنّي مشروعات وبرامج تُبرز الفنون التقليدية محلياً وعالمياً. ويسعى المعهد إلى دعم المتميزين في هذا المجال، سواء أكانوا من الحرفيين أم الممارسين أم المهتمين، من خلال توفير بيئة تعليمية وداعمة تحفز المواهب وتعمل على تطويرها. إلى جانب ذلك، يُولي المعهد اهتماماً خاصاً بتقدير الكنوز الحية التي تمثل رموزاً للإبداع الحرفي، وتشجيع الأجيال القادمة على تعلم وإتقان الحِرف التقليدية السعودية وتطويرها بما يتماشى مع روح العصر.

ويشكل إطلاق «مجتمع وِرث» جزءاً من رؤية استراتيجية تسعى لتحقيق أهداف «رؤية المملكة 2030» في مجال الثقافة والفنون، وذلك من خلال الجمع بين التراث والابتكار، حيث يسعى «المجتمع» إلى بناء جسور تربط الماضي بالحاضر والمستقبل، مما يضمن استمرار الحِرف اليدوية بوصفها عنصراً حيوياً في الهوية الثقافية السعودية يسهم في تعزيز مكانتها عالمياً.