الملفات الخلافية تتراكم بين باريس وطهران بعد اتهام الاستخبارات الإيرانية بمؤامرة إرهابية

عنصران رئيسيان يفسران سبب تأخر باريس في الرد على محاولة الاعتداء الإرهابية التي دبرت ضد تجمع لـ«مجاهدين خلق» قريبا من العاصمة الفرنسية في 30 يونيو (حزيران) الماضي: الأول أن طهران وعلى أعلى المستويات وعدت باريس بتقديم «عناصر موضوعية» تبرئها من إلصاق التهمة بها. والثاني أن الأجهزة الفرنسية نفسها سعت لتجلية خفايا هذه المحاولة ولم تعمد السلطات الحكومية ممثلة بوزارات الخارجية والداخلية والاقتصاد إلى إصدار بيان يتضمن اتهامات مباشرة لإيران إلا صباح الثلاثاء الماضي وبعد أن انتهى التحقيق وتوافرت لها التفاصيل.
وجاءت مضبطة الاتهام دقيقة؛ إذ استهدفت وزارة الاستخبارات؛ وتحديدا مديرية الأمن الداخلي فيها المتهمة بتدبير المحاولة. كذلك، فإن العقوبات التي فرضتها باريس جاءت أيضا محددة؛ إذ طالت المديرية المذكورة وشخصين؛ أولهما أسد الله الأسدي؛ الدبلوماسي في سفارة إيران في فيينا، والثاني سعيد هاشمي مقدم الذي يشغل منصب نائب وزير مكلف بالعمليات داخل الوزارة المذكورة والذي تظن باريس أنه من دبر وخطط للهجوم. وبالنسبة لباريس، فإن الوزارة المذكورة تتبع مباشرة المرشد الأعلى علي خامنئي، وبالتالي فإن محاولة الاعتداء ليست عملا «فرديا» أو «مرتجلا»، ولذا، فإن المسؤولية عنها تقع على أعلى السلطات، مما يفسر رد الفعل الفرنسي.
توافرت، في الساعات الأخيرة، معلومات إضافية حول ما جرى بين باريس وطهران، بالنسبة للعنصر الأول الخاص بالتزام طهران بتوفير الأدلة «الموضوعية» على براءتها من المحاولة الإرهابية. والحال أن هذه «العناصر» لم تصل إطلاقا لباريس رغم الوعود التي أغدقها الرئيس روحاني على الرئيس إيمانويل ماكرون.
وتفيد المصادر الفرنسية بأن الإيرانيين بقوا متمسكين بروايتهم الأولى التي تقول إن العملية دبرت للإساءة للعلاقات الفرنسية - الإيرانية ولتخريب الجولة التي كان الرئيس روحاني يتأهب للقيام بها إلى أوروبا بدءاً من فيينا.
ووفق الرواية الإيرانية الرسمية، فإن «مجاهدين خلق» هي من دبرت العملية؛ لا بل إن مصادر فرنسية رسمية أشارت إلى أن إيران حاولت أيضا تسويق رواية «المؤامرة الصهيونية». يضاف إلى ذلك أن هذه المسألة أثيرت في اجتماع وزير الخارجية جان إيف لودريان ونظيره الإيراني، وخرج الطرف الفرنسي «غير مقتنع» بما سمعه من الإيرانيين.
بموازاة ذلك، قامت الأجهزة الفرنسية بتحقيق دقيق بالتعاون مع أجهزة أجنبية ذكرت منها صحيفة «لوموند» في عددها ليوم أمس الأجهزة الألمانية والبلجيكية والألبانية والإسرائيلية. والخلاصة التي أفضى إليها «التحقيق الطويل والدقيق والمفصل لأجهزتنا يبين بوضوح ودون أي لبس، مسؤولية وزارة الاستخبارات الإيرانية في التخطيط لمشروع الاعتداء» ضدّ تجمّع لحركة «مجاهدين خلق» في ضاحية فيلبانت الواقعة شمال باريس.
بيد أن باريس لم تكتف بالبيان الوزاري الثلاثي ولا بالعقوبات التي فرضتها والخاصة بتجميد أصول وزارة الاستخبارات والمسؤولين الإيرانيين الاثنين «الأسدي ومقدم». فهذه العقوبات تبقى «رمزية»، وفق توصيف مصدر فرنسي رسمي، وأهميتها تكمن في أنها «رسالة» سياسية للمسؤولين الإيرانيين فحواها أن باريس «لا يمكن أن تسمح بارتكاب عمليات إرهابية على أراضيها». إلا إن للرسالة شقاً ثانياً جاء على لسان وزير الخارجية الذي أكد أن محاولة الاعتداء التي تم إحباطها «تبين الحاجة لمقاربة صارمة في علاقاتنا» مع إيران، مما قد يعني أن سياسة باريس في المرحلة المقبلة لا يمكن أن تكون على غرار السياسة التي اتبعتها حتى الآن تجاه طهران، وبالتالي يتعين، على الأرجح، انتظار تغييرات ما.
وحتى تصل الرسالة بشكل أفضل، عمدت باريس إلى دهم «مركز الزهراء» الشيعي القائم شمال فرنسا والقريب من السلطات الإيرانية ومن «حزب الله» اللبناني، ودهم منازل 12 شخصا؛ وتوقيف 3 منهم، وتجميد أصول المركز وإغلاق قاعة الصلاة فيه، والحرص على نشر القرار في الجريدة الرسمية في اليوم عينه (أول من أمس) الذي نشر فيه القرار الخاص بتجميد أموال وزارة الاستخبارات وأموال الأسدي ومقدم.
وقد فتح المركز في مدينة غراند سانت القريبة من دنكرك في عام 2005.
وتعدّ باريس المركز المذكور ذراع إيران الآيديولوجية في فرنسا. وقامت قوى الأمن بعمليات الدهم وإغلاق قاعة الصلاة استنادا لقانون الأمن الداخلي الجديد الذي يتيح إغلاق مواقع العبادة التي تروج لأفكار أو نظريات «تدفع إلى الحقد أو إلى القيام بأعمال إرهابية». وخلال عملية الدهم، عثرت القوى الأمنية على أسلحة منها؛ بنادق صيد ومسدسات ورشاش، بعضها مرخص به وبعضها من غير ترخيص.
ورغم انعدام الصلة المباشرة بين محاولة الاعتداء ودهم «مركز الزهراء»، فإن السلطات الفرنسية أرادت بذلك إظهار أنها ستكون «حازمة» في مواجهة النشاطات الإيرانية التي تعدها خطرة أو ضارة.
تأتي التدابير الفرنسية لتراكم الملفات الخلافية بين طهران وباريس. وتأخذ الأولى على الثانية إيواء «جماعة إرهابية»، (مجاهدين خلق)، وإتاحة مجال التحرك على الأراضي الفرنسية، و«تساهلها» مع مجموعة كردية هاجمت مؤخرا مقر السفارة الإيرانية في باريس. يضاف إلى ذلك كله إصدار وزارة الخارجية في باريس مذكرة تطلب من الدبلوماسيين والرسميين الامتناع عن التوجه إلى إيران إلا عند الضرورة.
وأكثر من مرة، طالبت طهران السلطات الفرنسية بمنع «مجاهدين خلق» من العمل في فرنسا، وجاء الرد الفرنسي بأن باريس اتخذت «كل الإجراءات» لمنع هذا التنظيم، الذي ينشط بقوة في الوسط النيابي والإعلامي، من الإخلال بالنظام العام أو استخدام الأراضي الفرنسية للقيام بعمليات في إيران.
رغم الإجراءات الفرنسية، فإنه يبدو واضحا أن طهران لا تريد التصعيد مع فرنسا؛ الأمر الذي تعكسه ردود الفعل الآتية من العاصمة الإيرانية. فقد قال المتحدث باسم وزارة الخارجية بهرام قاسمي لوكالة الصحافة الفرنسية إنه «إذا كان هناك سوء تفاهم حول أمر غير موجود، سواء أكان ذلك مؤامرة مدبرة من قبل آخرين أم خطأ، فيمكننا الجلوس والتحدث عن ذلك»، مضيفا أن الطريقة «الوحيدة» لذلك هي الدبلوماسية.
يبقى أن السؤال الأهم يتناول معرفة ما إذا كانت باريس، التي كانت أحد أشد المدافعين عن الاتفاق النووي الموقع في عام 2015 وعن تمكين إيران من الاستمرار في الاستفادة مما يوفره لها رغم خروج واشنطن منه وفرضها عقوبات اقتصادية ومالية، ستعمد إلى تغيير سياستها وربما الالتحاق بالركب الأميركي؟
حتى الآن، اكتفت باريس بالامتناع عن إرسال سفير جديد لها إلى طهران، كما أن مشروع زيارة الرئيس ماكرون إلى إيران موضوع على الرف. لكن باريس، بالتوازي، ما زالت متمسكة بأن تبقى إيران داخل الاتفاق النووي، وهي تشدد على الحاجة لمنعها من الحصول على السلاح النووي والتأكد من أن غاياته سلمية فقط. فضلا عن ذلك، فإنها تنتقد بقوة نشاطات طهران الباليستية والصاروخية، وتندد بسياستها الإقليمية «المزعزعة للاستقرار»، وترى أنه «لا مفر» لها من القبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات للبحث في هذه المسائل، وأن تلك «الطريق الوحيدة» المتاحة لها وفيها «تكمن مصلحتها ومصلحة الآخرين».
وهكذا، فبالإضافة إلى الملفات الخلافات الثنائية، ثمة ملفات أوسع تفصل بين باريس وطهران، مما يترك الباب مفتوحا أمام كثير من الاحتمالات في ما يخص علاقات الطرفين المستقبلية.