ملحمة المثقفين الفرنسيين!

الحدث الأبرز للموسم الثقافي الجديد

ميشال فوكو  -  جان بول سارتر  -  بروديل فرنارد
ميشال فوكو - جان بول سارتر - بروديل فرنارد
TT

ملحمة المثقفين الفرنسيين!

ميشال فوكو  -  جان بول سارتر  -  بروديل فرنارد
ميشال فوكو - جان بول سارتر - بروديل فرنارد

في مطلع كل عام دراسي جديد، وبعد انتهاء العطلة الصيفية مباشرة، تنهال علينا الكتب من كل حدب وصوب في الساحة الباريسية. لن أتحدث لكم هنا عن الروايات التي تصدر بالمئات دفعة واحدة، وإنما سأحصر حديثي فقط بالكتب الفكرية أو الفلسفية الجادة. وأعتقد دون مبالغة أن الباحث المعروف فرنسوا دوس حاز قصب السبق لهذا العام (2018)، وتفوق على من سواه. لماذا؟ لأنه أصدر كتابين ضخمين عن أشهر المثقفين الفرنسيين على مدار نصف قرن: من عام 1944 إلى عام 1989. الكتاب الأول تصدر غلافه كما هو متوقع جان بول سارتر، في حين تصدر غلاف الكتاب الثاني ميشال فوكو، وهما أشهر مثقفين أنجبتهما فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين. ولكن قبل الدخول في التفاصيل، دعونا نطرح هذا السؤال: من هو فرنسوا دوس مؤلف هذين الكتابين الضخمين؟ إنه أستاذ في معهد العلوم السياسية، وبعض الجامعات الباريسية الأخرى، كما أنه واحد من أشهر كتاب السيرة للشخصيات الكبرى في فرنسا حالياً. فقد أتحفنا سابقاً بكتاب ضخم عن البنيوية في جزأين، ثم أتحفنا بعدئذ بكتاب عن الفيلسوف بول ريكور، بجزء واحد لكن ضخم جداً: نحو الثمانمائة صفحة من القطع الكبير. وقد رافقني هذا الكتاب على مدار السنوات الأخيرة، وقرأته أكثر من مرة، وعاشرته واستفدت منه كثيراً. واشتهر أيضاً بتأليف أول سيرة للفيلسوف الفرنسي من أصل يوناني: كورنيليوس كاستورياديس، وهو شخص خطير لم يحظ بالأهمية التي يستحقها. فهو لا يقل عظمة عن فوكو أو بارت أو ديلوز أو دريدا، وقد يتفوق عليهم جميعاً. والآن، يطلع علينا فرنسوا دوس بهذين الجزأين الضخمين اللذين يقوم فيهما بمسح شامل لكل المثقفين الكبار الذين سيطروا على الساحة: من سارتر إلى ألبير كامو، إلى ريمون آرون، إلى كلود ليفي ستروس، إلى فرنسوا مورياك، إلى جاك لاكان، إلى بيير بورديو، إلى عشرات غيرهم. وميزة هذا الباحث أنه لا يكتفي بعرض سيرهم بشكل بارد من بعيد، وإنما ينخرط شخصياً في الموضوع، ويكتب بكل أعصابه وعواطفه ومشاعره. هذا لا يعني أنه ليس موضوعياً متبحراً في العلم، ولكنها ليست موضوعية باردة ناشفة. والأهم من كل ذلك أنه يجري مقابلات مع عشرات، بل ومئات، الأشخاص الذين عرفوا هذه الشخصيات الكبرى عن كثب. إنه يقابل أقرباءهم وعائلاتهم وأصدقاءهم الخلص وتلامذتهم، وحتى جيرانهم... إلخ. وعلى هذا النحو، فإن السيرة التي كتبها عن بول ريكور أو سارتر أو فوكو أو كاستورياديس هي بمثابة ريبورتاجات مليئة بالمقابلات الشخصية والنوادر الممتعة التي تقرب لك هذه الشخصيات الكبرى التي تحولت إلى أساطير لاحقاً. بمعنى آخر، فإنه يؤنسنها، ويجعلها قريبة إلى القلب. فهم بشر، على الرغم من عبقريتهم، ولهم نقاط ضعفهم ونواقصهم أيضاً. وهكذا، لا تكل ولا تمل عندما تقرأ عنهم سيراً ضخمة تتجاوز مئات الصفحات. بصراحة، أنا مللت من أولئك الكتاب الذين يؤلفون كتباً ضخمة ولكن جافة لا ماء فيها ولا حياة. وكل ذلك بحجة الموضوعية والحيادية الفارغة.
يضاف إلى ذلك سبب آخر للاهتمام بهذا الكتاب الضخم. ما هو؟ سوف أفاجئكم إذا قلت لكم إنه ضروري لكتابة «ملحمة المثقفين العرب» يوماً ما. وذلك لأن الساحة الثقافية العربية مرتبطة بشكل وثيق بالساحة الثقافية الفرنسية! من ينكر أن جان بول سارتر كان قد شغلنا في الخمسينات والستينات، بل وحتى السبعينات من القرن الماضي؟ لقد ترجم إلى العربية، وأثرت مؤلفاته على المثقفين العرب. وقل الأمر ذاته عن ميشال فوكو وجاك دريدا وبيير بورديو وجيل ديلوز ورولان بارت. وقل الأمر ذاته عن الموجة البنيوية التي انتقلت مباشرة من الساحة الفرنسية إلى الساحة العربية، وأثرت على النقد الأدبي عندنا، سلباً أو إيجاباً. وقل الأمر ذاته عن موجة العلوم الإنسانية. وقل.. وقل..
لكن لنعد إلى هذا الكتاب الضخم الذي يشغلنا هنا: الجزء الأول بعنوان «ملحمة المثقفين الفرنسيين: على محك التاريخ»، منشورات «غاليمار»، 624 صفحة. والجزء الثاني بعنوان «ملحمة المثقفين الفرنسيين: المستقبل محطماً ومتناثراً كالشظايا»، 704 صفحات؛ بمعنى أن مجموع الكتاب بجزأيه يتجاوز الألف وثلاثمائة صفحة! ولكن هذا ليس كثيراً على استعراض حياة وأعمال كبار مثقفي فرنسا على مدار نصف قرن. على أي حال، فإنه مشروع ضخم، يستحق صاحبه كل الشكر على كل هذا المجهود الهائل الذي بذله.
الجزء الأول من الكتاب يغطي مرحلة سارتر وسيمون دو بوفوار (1944 - 1968). وأما الجزء الثاني فيغطي مرحلة فوكو والبنيويين (1968 - 1989). في المرحلة الأولى، كان المثقفون الفرنسيون، من كتاب وأدباء وشعراء وفلاسفة، يشعرون بأنهم محمولون على أجنحة التاريخ، وأن المستقبل واعد بالآمال العراض. والسبب هو أنهم كانوا خارجين للتو من مرحلة الاحتلال النازي الذي خنق أنفاسهم لمدة أربع سنوات متتالية. وبالتالي، فقد تنفسوا الصعداء لأول مرة عندما حررها ديغول من براثنهم عام 1944. وكان معظم مثقفي فرنسا آنذاك من الاتجاه اليساري، بل وحتى الشيوعي، ما عدا فرنسوا مورياك وريمون آرون (عدو سارتر اللدود). ولكن في نهاية المطاف، أي عام 1989، انهارت كل أحلامهم اليسارية، إن لم نقل اليسارية المتطرفة. فلم تحصل الثورة البروليتارية التي كانوا يحلمون بها، ولم تسقط الرأسمالية، وإنما حصل العكس تماماً. ولذلك كفروا بماركس والماركسية التي كانوا قد اعتنقوها ديناً حتمياً، ولم يعد أحد يجرؤ على القول إنه شيوعي، بل أصبحوا يخجلون من ذلك كل الخجل؛ لشدما تغيرت الدنيا! أصبحت الشيوعية اليسارية وصمة عار بعد أن كانت مفخرة على مدار ثلاثين سنة متتالية. ولهذا السبب، فإن عنوان الجزء الثاني هو «المستقبل محطماً كالشظايا». كل أحلامهم اليسارية تحطمت على رصيف الواقع المر، بل وتحطمت الشيوعية ذاتها، وانهارت بانهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1989. ولكن بين هذين التاريخين (1944 - 1989)، حصلت أحداث وأحداث. وربما كان أهمها وأخطرها حرب الجزائر الاستعمارية التي أدانها جان بول سارتر بكل قوة، بل ووقف ضد بلاده لصالح استقلال الجزائر، وخاطر آنذاك بنفسه، هو وكثير من المثقفين اليساريين الفرنسيين، عندما هاجم ديغول والسياسة الفرنسية كلها بعنف. وعندئذ، طالب بعض الوزراء بسجنه، ولكن ديغول رد عليهم قائلاً: لا أحد يسجن فولتير! فذهبت مثلاً. وهي دليل على عظمة ديغول بقدر ما هي دليل على عظمة سارتر، وربما أكثر.
حقا إن الكتاب يقدم صورة بانورامية متكاملة عن تلك المغامرة التاريخية الخلاقة للمثقفين الفرنسيين على مدار أكثر من نصف قرن، ويصورهم على هيئة أبطال لملحمة حقيقية. فسارتر كان بطلاً للفكر والمسرحيات، وأراغون بطلاً للشعر، وألبير كامو بطلاً للرواية، وفوكو بطلاً للفلسفة الأركيولوجية العميقة على الطريقة النيتشوية، وقس على ذلك. ونلاحظ أن المؤلف يقدم عن كل واحد منهم صورة شخصية أو بورتريه، بالإضافة إلى نبذة معمقة عن أهم مؤلفاته. وبالتالي، يختلط لديه الخاص بالعام، ويمتلئ سرده السلس الممتع بالنوادر والحكايات الشخصية غير المعروفة حتى الآن، وهي تشكل ملح الكتاب. من هنا، جاذبية هذه السير الذاتية التي يقدمها فرنسوا دوس عن أهم المثقفين الفرنسيين في القرن العشرين؛ إنها سير تضج بالحياة والفكر العميق على حد سواء، إنها سير حية وليست جامدة ميتة.
وينبغي أن نضيف أن فرنان بروديل كان بطلاً لعلم التاريخ، بعد أن جدد مناهجه بشكل غير مسبوق، فهو الذي اخترع مصطلح المدة الطويلة والقصيرة والمتوسطة للتاريخ، وقال لنا إن هناك ظواهر ضخمة لا تُفهم على حقيقتها إذا لم نموضعها ضمن منظور المدة الطويلة للتاريخ التي قد تتجاوز الألف سنة. نضرب على ذلك مثلاً مشكلة الطائفية والمذهبية المشتعلة في العالم العربي حالياً، فلا يمكن فهمها إلا إذا عدنا إلى جذورها الأولى أيام الفتنة الكبرى قبل ألف وثلاثمائة سنة أو يزيد. وقل الأمر ذاته عن الانقسام بين المذاهب المسيحية، من كاثوليكية وأرثوذكسية، فهو أيضاً قديم جداً يتجاوز الألف سنة. أما الانقسام الحاد بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين، الذي أسال الدماء أنهاراً في أوروبا، فلا يتجاوز الخمسمائة سنة.
ونضيف أن بيير بورديو كان بطلاً لعلم الاجتماع أو السوسيولوجيا عندما بلور مصطلحات من نوع «الرأسمال الرمزي» مثلاً، مقابلة له بـ«الرأسمال المادي»، بالإضافة إلى أشياء أخرى كثيرة، وتحليلات ثاقبة مضيئة فعلاً.
وأما ميشال فوكو فكان بطلاً للمنهجية الأركيولوجية على الطريقة النيتشوية، وهي ما ندعوه بمنهجية الحفر الأركيولوجي في الأعماق بغية فهم الجذور العميقة للظواهر والمشكلات. وهنا، نلتقي ببروديل مرة أخرى، ومصطلح المدة الطويلة للتاريخ.
وأما جاك دريدا فكان بطل المنهجية التفكيكية على طريقة هيدغر، والمقصود بها تفكيك العرقية المركزية الأوروبية والعقلية الميتافيزيقية الكلاسيكية، وهي المنهجية ذاتها التي طبقها بعض الرواد على تراثنا عندما فككوا الدوغمائيات المتحجرة والانغلاقات اللاهوتية التكفيرية المهيمنة علينا منذ الدخول في عصر الانحطاط، وإغلاق باب الاجتهاد، قبل ألف سنة، أي منذ انهيار العقل في أرض الإسلام، وانتقال مشعل الحضارة إلى أوروبا. بهذا المعنى، فالمنهجية التفكيكية ذات طاقة تحريرية هائلة؛ إنها إيجابية وليست سلبية، على عكس ما يوحي الاسم. فلا تجديد من دون تفكيك للقديم المنخور المهترئ!


مقالات ذات صلة

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.