وكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي... تنافس أم تكامل؟

صحافي لدى «رويترز»: «السوشيال ميديا» مفتاح للمصادر... وآخر بـ«شينخوا»: زادت الضغوط علينا

وكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي... تنافس أم تكامل؟
TT

وكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي... تنافس أم تكامل؟

وكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي... تنافس أم تكامل؟

صنع وجود شبكات التواصل الاجتماعي تحولاً كبيراً في صناعة المحتوى الإعلامي في حين فتح الفضاء الأزرق باباً واسعاً ومجالاً أكثر لانتشار الأخبار ومساحة تأثيرها والتفاعل معها جماهيرياً. وفي ظل هيمنة «السوشيال ميديا» على صناعة الأخبار وبثها واستقطابها للجماهير، انسحب البساط تدرجياً من وكالات الأنباء العالمية في سرعة نقل الخبر وإتاحة تداوله عالمياً لحظة وقوعه؛ ما تسبب في «خلخلة» أسلوب عمل هذه الوكالات التي كانت قبل عقود هي المصدر الرئيسي للأخبار.

التواصل يعيد التشكيل
أشارت دراسة موسعة لمركز أبحاث «بيو» الأميركي بعنوان «كيف تعيد وسائل التواصل الاجتماعي تشكيل الأخبار»، إلى أن أكثر من نصف مستخدمي «السوشيال ميديا» يشاركون في نشر أخبار ومحتوى إعلامي يتضمن نصوصاً وصوراً ومقاطع فيديو. بينما أظهرت نتائج استطلاع رأي حديث أجرته مؤسسة «آي إن جي» مع عدد من الصحافيين الدوليين، أن 50 في المائة من الصحافيين يعتبرون «السوشيال ميديا» مصدراً حياً للأخبار رغم عدم مصداقيتها في كثير من الأحيان، في حين أن 73 في المائة منهم أكدوا أنهم يستعينون بالمواد والمحتوى الأكثر قيمة ومصداقية بالنسبة لهم مثل مقاطع الفيديو والتغريدات، ولا سيما التي تخص الزعماء والرؤساء وقادة الدول. بل ويعتقد أكثر من 60 في المائة من الصحافيين، أنه لا يمكن لأي وسيلة إعلامية أو وكالة أنباء الاستمرارية من دون شبكات التواصل الاجتماعي.
يرى مصطفى آيت ميهوب، نائب مدير الإعلام بوكالة الأنباء الجزائرية، أنه من الصعب تحديد العلاقة بين «السوشيال ميديا» ووكالات الأنباء باعتبارها سلبية أو إيجابية، قائلاً لـ«الشرق الأوسط»، «فتحت مواقع التواصل الاجتماعي المجال للمواطن العادي للتعبير عن وجهة نظره، ونشر الأحداث الكبرى في نفس لحظة وقوعها، ورغم أن الغالبية العظمى ممن يطلق عليهم (الصحافي المواطن) غير مهنيين ومصادر غير موثقة؛ إلا أن (السوشيال ميديا) خلقت تنافسية مع كبرى وكالات الأنباء العالمية».
ويفسر ميهوب جانباً من سطوة «السوشيال ميديا» في أن «شبكات التواصل الاجتماعي هي الأقرب للجمهور، وأصبحت أداة لتشكيل الرأي العام، وهي أقل احترافية وغير مقيدة بأخلاقيات الصحافة، ولا تخضع للكثير من الضوابط قبل بث خبر ما». ويعتبرها بمثابة «إنذار» بوجود قصة خبرية يعمل عليها الصحافي بمزيد من الاحترافية ويغذيها بالتفاصيل. وذكر مثالاً: حينما نشرت مواقع «السوشيال ميديا» مقاطع فيديو لفيضانات «قسنطينة» بالجزائر، كان المواطن هو الأقرب للحدث، وتحرك الصحافيون لتغطية الحدث بالأرقام والإحصائيات وتمت الاستعانة بهذه المقاطع.
ميهوب أكد أن وكالات الأنباء في «مفترق الطرق» فيما يتعلق بصناعة الرأي العام والمحتوى الإعلامي، وعليها التأقلم مع تلك المواقع والشبكات؛ لأن «السوشيال ميديا» لا يمكن تجاوزها. مضيفاً، أن وكالات الأنباء تستخدم «السوشيال ميديا» لنقل الأخبار التي تصنعها لتصل للجمهور.
وحول الضغوط التي يمثلها «الزخم الإخباري» على «السوشيال ميديا» بالنسبة للصحافيين وأسلوب عملهم، أكد ميهوب، أن الصحافي لا بد أن يكون متابعاً جيداً للأحداث من حوله والأحداث الدولية، ووجود هذه المواقع شكل ضغطاً كبيراً، وبالطبع فإن بث خبر ما عبر «السوشيال ميديا» لا يمكن محاسبة الصحافي عليه؛ لكن تجاهل الصحافي وتأخره في تغطية هذا الحدث، هو ما يعتبر تقصيراً في تغطية الحدث.

مصادر غير موثوقة
أكد سامح صلاح، الصحافي بوكالة «رويترز»، أن «السوشيال ميديا» لا تعتبر مصادر موثوقة للأخبار، لكنها بمثابة «مفتاح» لمصادر وخيوط لقصص خبرية، وبخاصة في حالة الكوارث الطبيعة والأحداث الإرهابية، وتوفر للصحافي عيناً أخرى لعمل تغطيات حية لأحداث خارج نطاقه الجغرافي، وتجعله في قلب الحدث، ويمكنه بعدها التواصل مع المصادر وأخذ تصريحات عبر طرق عدة، ومثال على ذلك تغطيات جوائز دولية مثل «البوكر» و«نوبل» وغيرهما، حيث يتم بث هذه الفعاليات مباشرة في حين يقوم الصحافيون عبر العالم بتغطيتها عن بعد.
ويعتبر صلاح، أن طبيعة العلاقة بين «السوشيال ميديا» ووكالات الأنباء ذات بعد تكاملي؛ لكنها تضع على الصحافي الذي يعمل في وكالة أنباء دولية مهمة التحري بدقة، وتدعيم قصته الخبرية بمزيد من المصادر وتغطية كافة الزوايا المتعلقة بها، وأيضاً تمد الصحافي بالمواعيد والفعاليات القريبة منه، أو التي تقع في دائرة اهتماماته. مشيراً إلى أنها «تمد الصحافي بالحدث ورد الفعل حوله من دون الحاجة إلى فريق عمل كبير وتحركات واتصالات؛ مما يساعد الصحافي على تغطية الحدث بسرعة ومواكبته، وهو ما يحدث مثلاً عند تغطية أحداث متعلقة باختيار فيلم ما للترشح للأوسكار أو إطلاق عمل فني أو أدبي، وهكذا».
وحول طبيعة العمل الصحافي لوكالات الأنباء في ظل هيمنة «السوشيال ميديا»، يقول الصحافي عماد الأزرق، بوكالة الأنباء الصينية «شينخوا» لـ«الشرق الأوسط»، «بالتأكيد وجودها خلق قدراً كبيراً ومتزايداً من المنافسة والضغوط على الصحافي؛ إذ لم تعد المنافسة ما بين وكالات أنباء عدة فقط، وإنما دخل فيها ملايين المتنافسين، ومع ذلك يبقى صحافي الوكالة مقيداً بالتوثق من المعلومة من مصادرها، وحريصاً على ألا ينجر في سباق السرعة على حساب الدقة، وبخاصة في الوكالات الرسمية الناطقة باسم دول لما يمكن أن يسببه ذلك من مشكلات للدولة وليس للوكالة فقط.
ويشير الأزرق إلى أن «هناك الكثير من القصص الخبرية التي تكون مواقع التواصل الاجتماعي هي مفتاحها، وبخاصة فيما يتعلق القصص الخبرية للتجارب الشخصية أو العمل الأهلي البعيد عن الأضواء»، مؤكداً «لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي أثرت بشكل كبير على الإعلام بشكل عام، وعلى عمل صحافيي وكالات الأنباء والمؤسسات الإخبارية الدولية بشكل خاص، ومن هذه التأثيرات ما هو إيجابي، وإن كان أكثرها سلبياً من وجهة نظري».

تطور التقنية والمنبر
يفند الأزرق التأثيرات الإيجابية لوسائل التواصل الاجتماعي على طبيعة عمل الوكالات، قائلاً «سهلت من التواصل مع الكثير من المصادر، والحصول على بعض المعلومات موثقة من مصادرها»... أما عن التأثيرات السلبية لها، فيقول «لم تعد وكالات الأنباء العالمية هي مصدر المعلومة كما كان من قبل، ولم يعد صحافيو وكالات الأنباء دائماً الأسبق في الحصول على المعلومة؛ بل أصبح كل مستخدم لوسائل الاتصال الحديثة من (جوال وحاسب آلي) بمختلف أنواعها ومسمياتها، أسبق في الحصول على المعلومة ونشرها كل في مكانه. ونظراً لتحول المواطنين العاديين لمصادر للمعلومات كلٌ في موقعه ومكانه، فقد صارت وسائل التواصل الاجتماعي التي يبلغ مستخدميها بالملايين أكثر انتشاراً وقدرة في الحصول على المعلومة قبل غيرها من وسائل الإعلام التقليدية، ومنها وكالات الأنباء».
ويؤكد الأزرق، أن «لجوء كل الأجهزة الرسمية وغير الرسمية والأشخاص البارزين إلى إنشاء صفحات لهم على وسائل التواصل الاجتماعي، جعل من الصعب انفراد وكالات الأنباء بالمعلومات، وأصبحت مساحة السبق الصحافي للوكالة محدوداً، وفي مجالات محدودة». وصارعت كل وكالات الأنباء تقريباً إلى إيجاد مكان لها على وسائل التواصل الاجتماعي وإنشاء صفحات لها عليها، ووكالة أنباء «شينخوا» الصينية من بين تلك الوكالات التي أنشأت صفحات لها على «فيسبوك» و«تويتر» وغيرهما من مواقع التواصل الاجتماعي وبمختلف اللغات.

مخاوف من سحب البساط
من الناحية الأكاديمية، أكد الدكتور محمد سعد إبراهيم، عميد المعهد الدولي العالي للإعلام بأكاديمية الشروق، لـ«الشرق الأوسط»، أن أغلب الدراسات واستطلاعات الرأي لكبرى المراكز البحثية في مجال الإعلام، تؤكد أن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت دون منازع المصدر الأول للخبر، في حين كانت وكالات الأنباء هي المصدر الرئيسي قبل ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، التي خلق وجودها زعزعة لهذه الوكالات من الناحية المهنية في ظل تراجع الصحافة المطبوعة والوسائل التقليدية للإعلام التي كانت تستند على الأخبار التي تبثها الوكالات في حين أصبحت «السوشيال ميديا» مصادر للأخبار.
ويشير إبراهيم إلى أن وكالات الأنباء العالمية الكبرى لا تزال أداة دعائية ومهمة لدى الدول الكبرى؛ لكن هذا لا ينفي الحالة التكاملية وتلاشي الحواجز بين شبكات التواصل ووكالات الأنباء واستخدامهما معاً في تشكيل الرأي العام الدولي.
كما يعتبر الدكتور باديس لونيس، الأستاذ بقسم الإعلام والاتصال بجامعة باتنة بالجزائر، أن العلاقة بين وسائل الإعلام المختلفة هي علاقة تكاملية، ورغم أن الطرح الذي يقول بالتنافس بينها، يستند إلى حقائق تاريخية أيضاً «منها: تناقص جمهور وسيلة معينة بظهور أخرى»، فإن الحقيقة التاريخية البارزة التي لا تناقش هي أن لا وسيلة جديدة استطاعت أن تلغي تماماً الوسيلة التي سبقتها. بل ربما تكون دافعاً لها للتجدد «لا التبدد». ‏هذه العلاقة صارت أكثر مدعاة للطرح مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي وصعود ما سُمي بصحافة المواطن التي حظيت بحفاوة بالغة، إلى الحد الذي وضع الإعلام أمام مساءلات جدية وحاسمة جعلت القائمين عليه يعيدون حساباتهم للتعامل والتأقلم مع الوضع غير المسبوق والاستفادة بقدر الإمكان من المزايا التي تقدمها صحافة لا تحتاج إلى كثير من التعقيدات المادية والتنظيمية.
ويلفت إلى أن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على عمل صحافيي وكالات الأنباء والمؤسسات الإخبارية الدولية ومختلف الوسائل الإعلامية الأخرى هو استمرارية لفكرة التكامل الأولى. ‏فهذه الشبكات قدمت خدمة كبيرة للصحافيين في إيجاد موضوعات وقضايا وأحداث لتغطيتها ومتابعتها حتى أن كثيراً من الفضائيات الدولية لم تكتف بتخصيص أركان ضمن برامج حول هذه الموضوعات، بل إنها خصصت برامج بأكملها: مهمتها فقط متابعة جديد تلك الشبكات.
ويؤكد أستاذ الإعلام بجامعة باتنة الجزائرية، أنها «حالة من تبادل للأدوار بشكل تلقائي، لكنه يساهم في تحقيق إشباعات معينة لدى جميع الإطراف»، ‏أما فيما يخص الضغوط التي تقع على عاتق الصحافي وهو يتابع جديد تلك الشبكات، فلا يخفى على أحد أن جل إن لم نقل جميع وسائل الإعلام ووكالات الإنباء صارت تشكل متخصصين وفرقاً من الصحافيين، مهمتهم الجلوس أمام حواسيبهم وهواتفهم النقالة فقط لمتابعة كل كلمة أو «هاشتاغ» أو صورة أو فيديو مثير للانتباه (الاشتباه). ‏وصار من اليسير متابعة ما يشغل الرأي العام العالمي أو المحلي أكثر من ذي قبل من خلال هذه الشبكات وصار تردد الوسومات والتراندينغ مفتاحاً موجهاً للصحافي، الذي عليه أيضاً، أن يتحلى بالذكاء والفطنة لـ«شم» وتوقع تطورات معينة لاقتناصها والحصول على السبق الذي يبحث عنه.


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

رئيسة «منتدى مصر للإعلام» تُحذر من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار

نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
TT

رئيسة «منتدى مصر للإعلام» تُحذر من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار

نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)

في ظل صراعات وحروب إقليمية متصاعدة وتطورات ميدانية متسارعة، لعب الإعلام أدواراً عدة، سبقت في بعض الأحيان مهمات القوات العسكرية على الأرض؛ ما ألقى بظلال كثيفة على وسائل الإعلام الدولية. تزامن ذلك مع زيادة الاعتماد على «المؤثرين» ونجوم مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار؛ ما دفع رئيسة «منتدى مصر للإعلام»، نهى النحاس، إلى التحذير من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار.

وفي حوارها مع «الشرق الأوسط»، عدّت نهى دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار «خطأً مهنياً»، وقالت إن «صُناع المحتوى و(المؤثرين) على منصات التواصل الاجتماعي يقدمون مواد دون التزام بمعايير مهنية. ودمجهم في غرف الأخبار كارثة مهنية».

وأشار تقرير نشره «معهد رويترز لدراسات الصحافة»، أخيراً، إلى «نمو في الاعتماد على مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار». ومع هذا النمو باتت هناك مطالبات بإدماج صناع المحتوى في غرف الأخبار. لكن نهى تؤكد أن الحل ليس بدمج المؤثرين، وتقول: «يمكن تدريب الصحافيين على إنتاج أنواع من المحتوى تجذب الأجيال الجديدة، لكن يجب أن يكون صانع المحتوى الإعلامي صحافياً يمتلك الأدوات والمعايير المهنية».

وتعد نهى «الإعلام المؤسسي أحد أبرز ضحايا الحروب الأخيرة»، وتقول إن «الإعلام استُخدم باحة خلفية للصراع، وفي بعض الأحيان تَقدمَ القوات العسكرية، وأدى مهمات في الحروب الأخيرة، بدءاً من الحرب الروسية - الأوكرانية وصولاً إلى حرب غزة».

وتبدي نهى دهشتها من الأدوار التي لعبها الإعلام في الصراعات الأخيرة بعد «سنوات طويلة من تراكم النقاشات المهنية ورسوخ القيم والمبادئ التحريرية».

وتاريخياً، لعب الإعلام دوراً في تغطية الحروب والنزاعات، وهو دور وثّقته دراسات عدة، لكنه في الحروب الأخيرة «أصبح عنصراً فاعلاً في الحرب؛ ما جعله يدفع الثمن مرتين؛ أمام جمهوره وأمام الصحافيين العاملين به»، بحسب نهى التي تشير إلى «قتل واغتيال عدد كبير من الصحافيين، واستهداف مقرات عملهم في مناطق الصراع دون محاسبة للمسؤول عن ذلك، في سابقة لم تحدث تاريخياً، وتثبت عدم وجود إرادة دولية للدفاع عن الصحافيين».

وتقول نهى: «على الجانب الآخر، أدت ممارسات مؤسسات إعلامية دولية، كانت تعد نماذج في المهنية، إلى زعزعة الثقة في استقلالية الإعلام»، مشيرة إلى أن «دور الإعلام في الحروب والصراعات هو الإخبار ونقل معاناة المدنيين بحيادية قدر المستطاع، لا أن يصبح جزءاً من الحرب وينحاز لأحد طرفيها».

نهى النحاس

وترفض نهى «الصحافة المرافقة للقوات العسكرية»، وتعدها «صحافة مطعوناً في صدقيتها»، موضحة أن «الصحافي أو الإعلامي المرافق للقوات ينظر للمعركة بعين القوات العسكرية التي يرافقها؛ ما يعني أنه منحاز لأحد طرفَي الصراع». وتقول: «عندما ينخرط الصحافي مع جبهة من الجبهات لا يعود قادراً على نقل الحقائق».

وضعت الحروب الأخيرة الصحافيين في غرف الأخبار «أمام واقع جديد جعل أصواتهم غير مسموعة في مؤسساتهم، في بعض الأحيان»، وتوضح نهى ضاربة المثل بالرسالة المفتوحة التي وقّعها عدد من الصحافيين في صحيفة «لوس أنجليس تايمز» الأميركية ضد تغطية حرب غزة وتجاهل قتل عدد كبير من الصحافيين، والتي أدت في النهاية إلى إيقافهم عن تغطية حرب غزة.

زعزعت الانحيازات الإعلامية في التغطية، الثقة في استقلالية الإعلام، وأفقدت مؤسسات إعلامية كبرى مصداقيتها، بعد أن كانت حتى وقت قريب نماذج للالتزام بالمعايير المهنية. ورغم ما فقدته مؤسسات الإعلام الدولية من رصيد لدى الجمهور، لا تتوقع نهى أن «تقدم على تغيير سياستها؛ لأن ما حدث ليس مجرد خطأ مهني، بل أمر مرتبط بتشابك مصالح معقد في التمويل والملكية». ولفتت إلى أن «الحروب عطّلت مشروعات التطوير في غرف الأخبار، وأرهقت الصحافيين نفسياً ومهنياً».

وترى أن تراجع الثقة في نماذج الإعلام الدولية، يستدعي العمل على بناء مدارس إعلامية محلية تعكس الواقع في المجتمعات العربية، مشيرة إلى وجود مدارس صحافية مميزة في مصر ولبنان ودول الخليج لا بد من العمل على تطويرها وترسيخها بعيداً عن الاعتماد على استلهام الأفكار من نماذج غربية.

بناء تلك المدارس الإعلامية ليس بالأمر السهل؛ فهو بحسب نهى «يحتاج إلى نقاش وجهد كبير في التعليم وبناء الكوادر وترسيخ الإيمان بالإعلام المستقل». وهنا تؤكد أن «استقلالية الإعلام لا تعني بالضرورة تمويله من جهات مستقلة، بل أن تكون إدارته التحريرية مستقلة عن التمويل قدر الإمكان»، مشددة على أن «التمويل العام لوسائل الإعلام مهم ومرحّب به، لا سيما في لحظات الاستقطاب السياسي؛ حتى لا يلعب المال السياسي دوراً في تخريب مصداقية المؤسسة».

غيّرت الحروب غرف الأخبار وألقت بظلالها على طريقة عملها، لتعيد النقاشات الإعلامية إلى «الأسس والمعايير والأخلاقيات»، تزامناً مع تطورات تكنولوجية متسارعة، ترى نهى أنها «ضرورية لكن كأدوات لإيصال الرسالة الإعلامية بفاعلية».

من هذا المنطلق، ترفض نهى التوسع في مناقشة قضايا الذكاء الاصطناعي على حساب القضايا المهنية، وتقول: «نحتاج إلى إعادة تثبيت وترسيخ القواعد المهنية، ومن ثم الاهتمام بالأدوات التي تسهل وتطور الأداء، ومن بينها الذكاء الاصطناعي الذي لا يمكن إنكار أهميته».

وتضيف: «إذا كان الأساس به خلل، فإن الأداة لن تعالجه؛ لذلك لا بد من مناقشات في غرف الأخبار حول الأسس المهنية لاستعادة الجمهور الذي انصرف عن الأخبار».

وبالفعل، تشير دراسات عدة إلى تراجع الاهتمام بالأخبار بشكل مطرد، تزامناً مع تراجع الثقة في الإعلام منذ جائحة «كوفيد-19»، وتزايد ذلك مع الحرب الروسية - الأوكرانية. ووفقاً لمعهد «رويترز لدراسات الصحافة»، فإن «نحو 39 في المائة من الجمهور أصبحوا يتجنبون الأخبار».

وهنا تقول نهى إن «الثقة تتراجع في الإعلام بشكل مطرد؛ لأن الجمهور يشعر أن صوته لم يعد مسموعاً، إضافة إلى تشبع نسبة كبيرة من الجمهور بأخبار الحرب، إلى حد مطالبة البعض بنشر أخبار إيجابية». وتضيف أن «هذا التراجع امتزج مع صعود منصات التواصل التي أصبحت يُخلط بينها وبين الإعلام المؤسسي، لا سيما مع ما قدمته من متابعات للحروب والصراعات الأخيرة».

وتشير رئيسة «منتدى مصر للإعلام» إلى أن «الحروب الأخيرة في أوكرانيا وغزة وضعت أعباء مالية، وفرضت محتوى مختلفاً على المؤسسات الإعلامية أدى إلى زيادة تجنب الجمهور للأخبار»، بحسب ما جاء في دراسة نشرها معهد «رويترز لدراسات الصحافة»؛ ما يستلزم البحث عن وسائل لإعادة جذبه، أو لـ«غرفة أخبار ثالثة» كما فعلت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، مستهدفة «جذب مزيد من القراء وزيادة الموارد».

وتستهدف «غرفة الأخبار الثالثة» إنشاء محتوى خاص لمنصات التواصل الاجتماعي، ومقاطع فيديو قصيرة تتناول موضوعات متنوعة لجذب الأجيال المرتبطة بالهواتف الذكية.

ويعد التدريب واحداً من أدوار المنتديات الإعلامية، ومن بينها «منتدى مصر للإعلام». وأوضحت نهى، في هذا المجال، أن «المنتديات الإعلامية هي تعبير عن الواقع الإعلامي لدولةٍ أو منطقةٍ ما، ونقطة تلاقٍ لمناقشة قضايا ومعارف مهنية، وملاحقة التطورات التكنولوجية».

وكان من المقرر عقد النسخة الثالثة من «منتدى مصر للإعلام» نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لكن تم تأجيلها «بسبب الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في المنطقة والتي كانت ستؤثر على حضور بعض ضيوف (المنتدى)»، بحسب نهى التي تشير إلى أنه «سيتم عقد النسخة الثالثة من (المنتدى) منتصف 2025».

وتوضح أنه «يجري حالياً مراجعة أجندة (المنتدى) وتحديثها وتغييرها استعداداً للإعلان عنها في الربع الأول من العام المقبل»، مشيرة إلى أنه لم يتم الاستقرار بعدُ على عنوان النسخة الثالثة، وإن كان هناك احتمال للإبقاء على عنوان النسخة المؤجلة «يمين قليلاً... يسار قليلاً!».

وتقول نهى إن «منتدى مصر للإعلام» سيركز كعادته على المناقشات المهنية والتدريبات العملية، لا سيما «منصة سنة أولى صحافة» المخصصة لتقديم ورش تدريبية لطلاب الإعلام تتناول الأساسيات والمعايير المهنية.

وتختتم حديثها بالتأكيد على أن الالتزام بالمعايير المهنية هو الأساس لبقاء الإعلام المؤسسي، مجددة الدعوة لفتح نقاشات جادة بشأن مأسسة نماذج إعلام محلية في المنطقة العربية.