الشاعر الألماني سارتوريوس لـ {الشرق الأوسط}: نتعلم المشاعر العظيمة من الشعر العربي

يقول إن الشعر كونيّ بطبيعته.. وإذا بقينا منطوين على أنفسنا فلا يمكن تحقيق كونيته وإنسانيته

يواخيم سارتوريوس
يواخيم سارتوريوس
TT

الشاعر الألماني سارتوريوس لـ {الشرق الأوسط}: نتعلم المشاعر العظيمة من الشعر العربي

يواخيم سارتوريوس
يواخيم سارتوريوس

يواخيم سارتوريوس (1946) من أبرز شعراء ألمانيا ومدير مهرجانات برلين، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون، لكنه بدأ حياته المهنية كدبلوماسي على غرار أبيه. أقام في تونس ونيويورك وإسطنبول ونيقوسيا، وعمل لفترة مديرا لمعهد غوتة. نشر أربع مجموعات شعرية، كما ترجم الشعر الأميركي والفرنسي، وله دراسات في الشعر، منها «أطلس الشعر الجديد»، كما لعب دورا في مد الجسور بين الثقافتين الألمانية والعربية، سواء من موقعه كمدير لمهرجانات برلين، أو عبر مساهمة مجلة «ديوان». ومن أبرز كتب سارتوريوس «الإسكندرية سراب» الذي صدرت ترجمته العربية بتوقيع فارس يواكيم، ومختارات شعرية عن «دار توبقال» المغربية بعنوان «ما الذي يرى المرء حين يرى؟» ترجمة مصطفى السليمان، ومجموعة «فندق الغرباء» عن مشروع «كلمة» للترجمة في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، من ترجمة مصطفى السليمان أيضا.
التقينا بالشاعر والكاتب يواخيم ساتوريوس أثناء معرض أبوظبي الدولي للكتاب، وطرحنا عليه مجموعة من الأسئلة:
* من المعروف أنك من المهتمين بآداب العالم الثالث، وقد استضفت عددا من الشعراء الأفارقة في مهرجان برلين الذي ترأسته أعواما طويلة، كيف تنظر إلى هذا الأدب؟
- طرحت محورا حيويا في مهرجان برلين في عام 1988، وهو أوروبا كما يراها الكتاب من الخارج. واستضفنا لذلك عددا من الشعراء الأفارقة أمثال: شينوا آشيبي من نيجيريا، وجان ماري أديافي من ساحل العاج، ونيغوغي وا ثينغو من غينيا، وغيرهم من الشعراء والأدباء. وطرحوا عددا من الموضوعات الساخنة في قصائدهم وتناولوا أمورا تخص: الفساد والعنف ومرض الإيدز وتدمير الطبيعة وتاريخ أفريقيا ومواجهة السردية ولغة الثقافات في أفريقيا. وقد أنار هؤلاء الشعراء تلك الموضوعات بشتى أنواع الرؤى، مما زاد من معرفتنا بهذا العالم الذي نبقى، نحن الأوروبيين، نجهله، كما ألقوا بدورهم نظراتهم الخاصة بعالمنا الأوروبي، وهكذا حصل نوع من التبادل الثقافي والمعرفي، وهو أحد أهداف مهرجان برلين الذي سعى لأعوام طويلة لتقريب الرؤى بعضها من بعض.
* أنت شاعر ولكنك مترجم أيضا، كيف تنظر إلى الترجمة باعتبارك ترجمت من اللغتين الإيطالية والإنجليزية؟
- تتمتع كل لغة بكم هائل من الرموز والمعاني، لذلك من الصعوبة القيام بالترجمة.. وهناك من يدعي معرفة لغات كثيرة: كالفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية، إنما تلك خدعة كبيرة، لأن اللغة ليست عارية وحدها، بل تحمل من الأساطير والحكايات والألغاز ما لا يتمكن شخص واحد من فك أسرارها وأنفاقها التي لا تنتهي. هناك نظريات كثيرة حول الترجمة، ولعل أفضل من يترجم الشعر هم الشعراء، ولكن من الصعوبة بمكان ترجمة شعراء موتى لأنك لا تستطيع أن تسألهم عن المعاني العصية والغامضة في شعرهم، بينما يمكنك ذلك مع الشعراء الأحياء، كما أن الموسيقى ضرورية للغاية في عملية الترجمة، يجب أن ننتبه لموسيقى اللغة الأخرى، ومن دونها لا يمكن القيام بالترجمة. ولا بد من توفر الأسباب الكافية لدى المترجم لكي يترجم عملا ما، أي الدافع الذاتي الحسي والمعرفي في آن واحد. على سبيل المثال، قمت بترجمة الشاعر الإيطالي جياكومو ليوباردي كانتي، الذي لم يكن معروفا في اللغة الألمانية، لأنني أعجبت بما قاله عن سعادة الإنسان، التي يؤمن بأنها تكمن في الأوهام، وهي فكرة سحرتني ودفعتني لترجمته، وهناك سبب آخر لأنه عاصر شاعرنا هولدرلن.
* كيف تختار الشعراء الذين تترجم لهم؟
- ترجمت لمجموعة كبيرة من الشعراء، وهم: جون آزبري، وإي. إي. كيمنغز، وولاس ستيفنز، وهو محرر وناشر أعمال مالكولم لاوري، ووليم كارلوس وليمز. ولكل شاعر مكانة في نفسي، وكما قلت قبل قليل، لا بد من خلق أسباب لترجمة هذا الشاعر أو ذاك، بمزيج من الظروف الموضوعية والذاتية.
* ما رأيك في ترجمة الشعراء لشعراء آخرين؟
- هذه مسألة في غاية التعقيد. قبل كل شيء، أعتقد أن الترجمة عمل مستحيل حقا، ولكنني حين أستعير كلمات الشاعر الفرنسي ميشال ديغي: كلما كانت القصيدة تعبر عن نفسها كانت ترجمتها ممكنة، واحتمالية عدم إمكانية ترجمة الشعر عارضها ألف مترجم ومترجم طوال سنوات، لذلك أقول إن الترجمة الناجحة يجب أن تعتمد على البعد الكوني الذي تحتويه كل قصيدة، من حيث المصطلح والإيقاع، وهي عبارة عن صورة لأشعة إكس للأصل كما يقول الشاعر ميشال ديغي. وبالنسبة لترجمة الشعراء للشعر، أقول هؤلاء يدمجون الأعمال المترجمة بحساسيتهم. وقد كتبت مطولا حول هذا الموضوع في كتابي «الكلمات الأجنبية» وتطرقت إلى المشكلات التي تنتج عن ذلك. يمكنني أن أذكر ترجمات انغيبورك باشمان لشعر مونتالي، وترجمات بول سيلان لشعر أوسيب ماندلستام، الذي ظهر بأنه يتكون من 50 في المائة من روحية وشعر ماندلستام و50 من روحية وشعر بول سيلان. ومن ناحية أخرى، يقول الشاعر تيد هيوز، الذي نشر ترجمات من سبع لغات: إن تقديم أي شيء من حقيبة دواء المترجم مسألة غير ممكنة. إنني أتعجب كيف استطاع أن يتجنب ذلك، أي أن لا يضفي من شعره على الشعر المترجم! ومن ثم يمكن أن نورد مثال الشاعر الأميركي والاس ستيفنسن، الذي يعتبر أصعب شاعر عملت على ترجمته، لأن هناك أربع مستويات في شعره، أولا: مستوى الفكرة، التفكير والفلسفة، وثانيا: الموسيقى، وثالثا: التنظيم والشكل واللغة، ورابعا: المحتوى الثقافي.. ويمكنني أن أورد مثال ترجمتي لشعر جون آشبي بالتعاون مع كريستا كوبر، وآشبي نفسه أصبح مترجما من اللغة الفرنسية. وهكذا.
* كنت مهتما بالعلاقات التركية الألمانية منذ كنت مديرا لمعهد غوته في برلين، هل يمكن أن تتحدث عن أهمية هذه العلاقات بالنسبة لألمانيا؟
- قبل كل شيء، كنت مديرا لمعهد غوته الذي يعنى أصلا بنشر اللغة والثقافة الألمانية في أنحاء العالم، من ناحية، ومن ناحية أخرى، عملت في المجال الدبلوماسي، الذي يهتم في جزء منه بالعلاقات بين البلدان وثقافاتها، فكنت في المكان الذي يمكنني أن أقوم بهذه المهمة. كما أن تركيا استطاعت أن تنهض بنفسها على الصعيد السياسي، وبالخصوص الصعيد الاقتصادي دون الحاجة إلى ألمانيا أو الاتحاد الأوروبي الذي سعت ولا تزال تسعى إلى الدخول فيه. وهكذا بدأت العلاقات الثقافية المتبادلة بين البلدين تأخذ أبعادا أوسع. وبطبيعة الحال، لا يمكن تصور ألمانيا، هذا البلد الواسع بثقافاته وعمقه، دون الجالية التركية المهاجرة، وهي قادرة على إنجاز ما نطلق عليه الاندماج في الثقافة الألمانية. لذلك كان من واجبنا أن ندعم المؤسسات التي تعمل على تشجيع التنوع الثقافي. ولعل سياسة تركيا الثقافية في التخلي عن تقاليد أتاتورك، وسقوط مفهوم الأمة الموحدة والانخراط في العلمانية، أديا إلى نهضتها المعاصرة، وعلى الخصوص عندما بدأ البلد يكتشف جذوره الإثنية المتعددة وفنانيه وثراء إسطنبول المتعددة الثقافات. وتتعدى العلاقات الألمانية التركية السياسة لكي تغطي قطاعا واسعا من الفنانين والموسيقيين والمعماريين والأكاديميين والمخرجين السينمائيين، وغيرهم. وعلى الرغم من العلاقات المتبادلة بين هذين البلدين، تبقى ألمانيا بحاجة ماسة إلى تأسيس سياستها الثقافية تجاه تركيا، وهي تمتلك الأدوات والوسائل الكافية لذلك.
* إذن أنتم تركزون على العلاقات الثقافية بين البلدين رغم التنوع الشديد بينهما؟
- ما يهمنا بالدرجة الأولى هو هذا التنوع الذي تتحدث عنه، هو إغناء بشكل أو بآخر، لا يوجد لدينا أهم من الثقافة في ترسيخ العلاقات العاطفية والمعرفية بين الشعوب. وكما لدينا قناة تلفزيونية مشتركة مع فرنسا تعمل وتبث برامجها باسم «آرتي»، نطمح إلى تأسيس مثل هذه القناة مع تركيا في المستقبل، وذلك نابع من أن وسائل التواصل الاجتماعي أخذت بالتنامي بدرجة كبيرة في العالم. هناك جيل جديد يتخاطب فيما بينه من خلال هذه الوسائل، بل ويتبادل من خلالها المعرفة. نحن لا نستطيع أن نقف في وجه الأساليب التقنية الجديدة التي تسلح بها الجيل الجديد، والتي تختلف عن أساليب التواصل التي اتبعها الجيل القديم.
* يعني يمكن أن نقول إنك شاعر منفتح على حضارات العالم وثقافاته المتنوعة؟
- بطبيعة الحال، الشعر كونيّ بطبيعته، وإذا بقينا منطوين على أنفسنا فلا يمكن تحقيق كونية الشعر وإنسانيته.
* ما المدن التي أدهشتك وأثارت فيك الكتابة؟
- لقد أدهشتني دمشق، فهي من المدن القلائل في العالم التي تحمل الكثير والكثير من الذكريات التي تعود إلى حضارات مختلفة ومتنوعة جدا. في دمشق تستطيع أن تمشي في طبقات مختلفة من الحضارات والثقافات، وكذلك الإسكندرية، فهي من المدن النادرة التي وجدتها مطابقة للصورة التي رسمتها في خيالي عنها من خلال قراءاتي. ولا ننسَ أن الإسكندرية كانت مركز العالم الغربي طيلة ثلاثة قرون، وهي أيضا بلد الأدباء الذين شيدوها في ذاكرتهم أمثال: لورنس داريل واونغاريتي وكفافي وفوستر وإدورد الخراط وأندريه أسيمان وغيرهم من العمالقة، ويكفي أن هذه المدينة عاشت مع رواد الحداثة في الشعر العالمي. إضافة إلى أن أسطورة هذه المدينة أدبية بالدرجة الأولى، ومكتبتها عبارة عن فردوس مفقود. ويمكن الحديث عنها إلى ما لا نهاية، ويكفي أنني ألفت كتابا عنها «الإسكندرية.. سراب». إن الإسكندرية مدينة الانفتاح والكوزموبوليتية، فالمجتمع الإسكندراني يتميز بتعدد الجنسيات والثقافات، وهو ما جعل منها مركز إشعاع حضاري متألقا، منذ تأسيس المدينة وحتى منتصف القرن العشرين. إنها من طراز المدن التي يخلدها الأدباء والكتاب والشعراء، وهي تولد على الدوام من رمادها.
* ماذا يمكن أن تقول عن الشعر العربي؟
- يمكنني القول إننا نتعلم المشاعر العظيمة من الشعر العربي، والحوار مع الحضارات والثقافات الأخرى. وهنا تكمن أهمية المهرجانات، تأتي من أنها لا تقتصر على الحضور وإلقاء القصيدة، ومن ثم الرحيل. فقد تولدت لدي أحاسيس جميلة من زياراتي لمهرجانات في كل من دمشق ودبي وغيرهما لأن التفاعل الحيوي بيننا جعلنا نعيش الآخر في صورته الحقيقية، وليس صورته النمطية التي ورثناها من الآخرين.
* ما مشاريعك الحديثة؟ حيث إنك تجمع بين كتابة الدراسات والشعر؟
- أهيأ لإصدار كتاب يتحدث عن السياسة والشعر في القرن العشرين، وهو عبارة عن دراسة كبيرة انتهيت منها قبل أشهر، وستصدر في الخريف المقبل في مدينة كولونيا.
* جئت إلى دبي في عام 2008 وشاركت في مهرجانها الذي انعقد لدورة واحدة، وأنت الآن في زيارة لمعرض أبوظبي للكتاب، كما ترجمت لك أعمال كثيرة إلى اللغة العربية، في كل من المغرب والإمارات. ما مدى اطلاعك على الأدب العربي؟
- إنني أطلع على الأدب العربي من خلال الترجمة، لأنني لا أجيد اللغة العربية، وهو أمر مؤسف لأن الشعر المترجم يفقد الكثير من جاذبيته وسحره أثناء الترجمة. قرأت لأدونيس وكتبت عنه، وقرأت بعض الروايات العربية لكل من نجيب محفوظ وعلاء الأسواني وإدوارد الخراط وجمال الغيطاني ونجم والي وفاضل العزاوي. وقد أمضيت أسبوعا في الإسكندرية مع الصديق الكاتب خالد الخميسي، وهو يعرف لغات كثيرة مما سهل عملية التخاطب والتفاهم بيننا. نحن الألمان كنا متابعين لأدب أميركا اللاتينية لسنوات طويلة، وقد أهملنا الأدب العربي كما يبدو.



قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».


رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
TT

رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان

غيّب الموت، مساء الأحد، الكاتب والروائي السعودي المقيم في باريس، أحمد أبو دهمان، عن 76 عاماً، وهو أول كاتب سعودي يؤلف رواية باللغة الفرنسية هي رواية «الحزام» الصادرة عام 2000 عن دار «غاليمار»، التي حققت شهرةً واسعةً وطُبعت 7 طبعات، وتُرجمت إلى 8 لغات، وتمّ نقلها إلى العربية ونشرتها دار «الساقي».

الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي يهدي وزيرة الثقافة الفرنسية رواية «الحزام» (أرشيف)

اعترافاً بقيمة هذه الرواية، أهدى الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي في شهر يونيو (حزيران) 2023، ريما عبد المالك، وزيرة الثقافة الفرنسية، رواية «الحزام» للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان.

ولد أحمد أبو دهمان في قرية آل خلف في محافظة سراة عبيدة في منطقة عسير، جنوب المملكة، وبعد أن أكمل دراسته الابتدائية في قريته، انتقل إلى أبها لإكمال المرحلة الثانوية، ثم التحق بمعهد تدريب المعلمين بالرياض، وعاد إلى قريته بعد تخرجه ليعمل معلماً مدة ثلاث سنوات. بعدها أكمل تعليمه الجامعي بجامعة الملك سعود بالرياض وتخرج من قسم اللغة العربية بدرجة ممتاز، ثم أصبح معيداً في الجامعة نفسها، وفي عام 1979 التحق بجامعة السوربون في فرنسا وحصل على درجة الماجستير.

غلاف رواية «الحزام»

كتب في الصحافة السعودية، وكان له عمود في صفحة الرأي بجريدة «الرياض» بعنوان «كلام الليل»، وشغل مدير مكتب مؤسسة «اليمامة» الصحافية في باريس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة «الحزام للاستشارات الإعلامية»، ومقرها في الرياض.

وفي ندوة أقيمت له، تحدث عن روايته «الحزام»، فقال إنها لا تمثل سيرةً ذاتيةً، «ولكني كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي».


سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.