الشاعر الألماني سارتوريوس لـ {الشرق الأوسط}: نتعلم المشاعر العظيمة من الشعر العربي

يقول إن الشعر كونيّ بطبيعته.. وإذا بقينا منطوين على أنفسنا فلا يمكن تحقيق كونيته وإنسانيته

يواخيم سارتوريوس
يواخيم سارتوريوس
TT

الشاعر الألماني سارتوريوس لـ {الشرق الأوسط}: نتعلم المشاعر العظيمة من الشعر العربي

يواخيم سارتوريوس
يواخيم سارتوريوس

يواخيم سارتوريوس (1946) من أبرز شعراء ألمانيا ومدير مهرجانات برلين، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون، لكنه بدأ حياته المهنية كدبلوماسي على غرار أبيه. أقام في تونس ونيويورك وإسطنبول ونيقوسيا، وعمل لفترة مديرا لمعهد غوتة. نشر أربع مجموعات شعرية، كما ترجم الشعر الأميركي والفرنسي، وله دراسات في الشعر، منها «أطلس الشعر الجديد»، كما لعب دورا في مد الجسور بين الثقافتين الألمانية والعربية، سواء من موقعه كمدير لمهرجانات برلين، أو عبر مساهمة مجلة «ديوان». ومن أبرز كتب سارتوريوس «الإسكندرية سراب» الذي صدرت ترجمته العربية بتوقيع فارس يواكيم، ومختارات شعرية عن «دار توبقال» المغربية بعنوان «ما الذي يرى المرء حين يرى؟» ترجمة مصطفى السليمان، ومجموعة «فندق الغرباء» عن مشروع «كلمة» للترجمة في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، من ترجمة مصطفى السليمان أيضا.
التقينا بالشاعر والكاتب يواخيم ساتوريوس أثناء معرض أبوظبي الدولي للكتاب، وطرحنا عليه مجموعة من الأسئلة:
* من المعروف أنك من المهتمين بآداب العالم الثالث، وقد استضفت عددا من الشعراء الأفارقة في مهرجان برلين الذي ترأسته أعواما طويلة، كيف تنظر إلى هذا الأدب؟
- طرحت محورا حيويا في مهرجان برلين في عام 1988، وهو أوروبا كما يراها الكتاب من الخارج. واستضفنا لذلك عددا من الشعراء الأفارقة أمثال: شينوا آشيبي من نيجيريا، وجان ماري أديافي من ساحل العاج، ونيغوغي وا ثينغو من غينيا، وغيرهم من الشعراء والأدباء. وطرحوا عددا من الموضوعات الساخنة في قصائدهم وتناولوا أمورا تخص: الفساد والعنف ومرض الإيدز وتدمير الطبيعة وتاريخ أفريقيا ومواجهة السردية ولغة الثقافات في أفريقيا. وقد أنار هؤلاء الشعراء تلك الموضوعات بشتى أنواع الرؤى، مما زاد من معرفتنا بهذا العالم الذي نبقى، نحن الأوروبيين، نجهله، كما ألقوا بدورهم نظراتهم الخاصة بعالمنا الأوروبي، وهكذا حصل نوع من التبادل الثقافي والمعرفي، وهو أحد أهداف مهرجان برلين الذي سعى لأعوام طويلة لتقريب الرؤى بعضها من بعض.
* أنت شاعر ولكنك مترجم أيضا، كيف تنظر إلى الترجمة باعتبارك ترجمت من اللغتين الإيطالية والإنجليزية؟
- تتمتع كل لغة بكم هائل من الرموز والمعاني، لذلك من الصعوبة القيام بالترجمة.. وهناك من يدعي معرفة لغات كثيرة: كالفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية، إنما تلك خدعة كبيرة، لأن اللغة ليست عارية وحدها، بل تحمل من الأساطير والحكايات والألغاز ما لا يتمكن شخص واحد من فك أسرارها وأنفاقها التي لا تنتهي. هناك نظريات كثيرة حول الترجمة، ولعل أفضل من يترجم الشعر هم الشعراء، ولكن من الصعوبة بمكان ترجمة شعراء موتى لأنك لا تستطيع أن تسألهم عن المعاني العصية والغامضة في شعرهم، بينما يمكنك ذلك مع الشعراء الأحياء، كما أن الموسيقى ضرورية للغاية في عملية الترجمة، يجب أن ننتبه لموسيقى اللغة الأخرى، ومن دونها لا يمكن القيام بالترجمة. ولا بد من توفر الأسباب الكافية لدى المترجم لكي يترجم عملا ما، أي الدافع الذاتي الحسي والمعرفي في آن واحد. على سبيل المثال، قمت بترجمة الشاعر الإيطالي جياكومو ليوباردي كانتي، الذي لم يكن معروفا في اللغة الألمانية، لأنني أعجبت بما قاله عن سعادة الإنسان، التي يؤمن بأنها تكمن في الأوهام، وهي فكرة سحرتني ودفعتني لترجمته، وهناك سبب آخر لأنه عاصر شاعرنا هولدرلن.
* كيف تختار الشعراء الذين تترجم لهم؟
- ترجمت لمجموعة كبيرة من الشعراء، وهم: جون آزبري، وإي. إي. كيمنغز، وولاس ستيفنز، وهو محرر وناشر أعمال مالكولم لاوري، ووليم كارلوس وليمز. ولكل شاعر مكانة في نفسي، وكما قلت قبل قليل، لا بد من خلق أسباب لترجمة هذا الشاعر أو ذاك، بمزيج من الظروف الموضوعية والذاتية.
* ما رأيك في ترجمة الشعراء لشعراء آخرين؟
- هذه مسألة في غاية التعقيد. قبل كل شيء، أعتقد أن الترجمة عمل مستحيل حقا، ولكنني حين أستعير كلمات الشاعر الفرنسي ميشال ديغي: كلما كانت القصيدة تعبر عن نفسها كانت ترجمتها ممكنة، واحتمالية عدم إمكانية ترجمة الشعر عارضها ألف مترجم ومترجم طوال سنوات، لذلك أقول إن الترجمة الناجحة يجب أن تعتمد على البعد الكوني الذي تحتويه كل قصيدة، من حيث المصطلح والإيقاع، وهي عبارة عن صورة لأشعة إكس للأصل كما يقول الشاعر ميشال ديغي. وبالنسبة لترجمة الشعراء للشعر، أقول هؤلاء يدمجون الأعمال المترجمة بحساسيتهم. وقد كتبت مطولا حول هذا الموضوع في كتابي «الكلمات الأجنبية» وتطرقت إلى المشكلات التي تنتج عن ذلك. يمكنني أن أذكر ترجمات انغيبورك باشمان لشعر مونتالي، وترجمات بول سيلان لشعر أوسيب ماندلستام، الذي ظهر بأنه يتكون من 50 في المائة من روحية وشعر ماندلستام و50 من روحية وشعر بول سيلان. ومن ناحية أخرى، يقول الشاعر تيد هيوز، الذي نشر ترجمات من سبع لغات: إن تقديم أي شيء من حقيبة دواء المترجم مسألة غير ممكنة. إنني أتعجب كيف استطاع أن يتجنب ذلك، أي أن لا يضفي من شعره على الشعر المترجم! ومن ثم يمكن أن نورد مثال الشاعر الأميركي والاس ستيفنسن، الذي يعتبر أصعب شاعر عملت على ترجمته، لأن هناك أربع مستويات في شعره، أولا: مستوى الفكرة، التفكير والفلسفة، وثانيا: الموسيقى، وثالثا: التنظيم والشكل واللغة، ورابعا: المحتوى الثقافي.. ويمكنني أن أورد مثال ترجمتي لشعر جون آشبي بالتعاون مع كريستا كوبر، وآشبي نفسه أصبح مترجما من اللغة الفرنسية. وهكذا.
* كنت مهتما بالعلاقات التركية الألمانية منذ كنت مديرا لمعهد غوته في برلين، هل يمكن أن تتحدث عن أهمية هذه العلاقات بالنسبة لألمانيا؟
- قبل كل شيء، كنت مديرا لمعهد غوته الذي يعنى أصلا بنشر اللغة والثقافة الألمانية في أنحاء العالم، من ناحية، ومن ناحية أخرى، عملت في المجال الدبلوماسي، الذي يهتم في جزء منه بالعلاقات بين البلدان وثقافاتها، فكنت في المكان الذي يمكنني أن أقوم بهذه المهمة. كما أن تركيا استطاعت أن تنهض بنفسها على الصعيد السياسي، وبالخصوص الصعيد الاقتصادي دون الحاجة إلى ألمانيا أو الاتحاد الأوروبي الذي سعت ولا تزال تسعى إلى الدخول فيه. وهكذا بدأت العلاقات الثقافية المتبادلة بين البلدين تأخذ أبعادا أوسع. وبطبيعة الحال، لا يمكن تصور ألمانيا، هذا البلد الواسع بثقافاته وعمقه، دون الجالية التركية المهاجرة، وهي قادرة على إنجاز ما نطلق عليه الاندماج في الثقافة الألمانية. لذلك كان من واجبنا أن ندعم المؤسسات التي تعمل على تشجيع التنوع الثقافي. ولعل سياسة تركيا الثقافية في التخلي عن تقاليد أتاتورك، وسقوط مفهوم الأمة الموحدة والانخراط في العلمانية، أديا إلى نهضتها المعاصرة، وعلى الخصوص عندما بدأ البلد يكتشف جذوره الإثنية المتعددة وفنانيه وثراء إسطنبول المتعددة الثقافات. وتتعدى العلاقات الألمانية التركية السياسة لكي تغطي قطاعا واسعا من الفنانين والموسيقيين والمعماريين والأكاديميين والمخرجين السينمائيين، وغيرهم. وعلى الرغم من العلاقات المتبادلة بين هذين البلدين، تبقى ألمانيا بحاجة ماسة إلى تأسيس سياستها الثقافية تجاه تركيا، وهي تمتلك الأدوات والوسائل الكافية لذلك.
* إذن أنتم تركزون على العلاقات الثقافية بين البلدين رغم التنوع الشديد بينهما؟
- ما يهمنا بالدرجة الأولى هو هذا التنوع الذي تتحدث عنه، هو إغناء بشكل أو بآخر، لا يوجد لدينا أهم من الثقافة في ترسيخ العلاقات العاطفية والمعرفية بين الشعوب. وكما لدينا قناة تلفزيونية مشتركة مع فرنسا تعمل وتبث برامجها باسم «آرتي»، نطمح إلى تأسيس مثل هذه القناة مع تركيا في المستقبل، وذلك نابع من أن وسائل التواصل الاجتماعي أخذت بالتنامي بدرجة كبيرة في العالم. هناك جيل جديد يتخاطب فيما بينه من خلال هذه الوسائل، بل ويتبادل من خلالها المعرفة. نحن لا نستطيع أن نقف في وجه الأساليب التقنية الجديدة التي تسلح بها الجيل الجديد، والتي تختلف عن أساليب التواصل التي اتبعها الجيل القديم.
* يعني يمكن أن نقول إنك شاعر منفتح على حضارات العالم وثقافاته المتنوعة؟
- بطبيعة الحال، الشعر كونيّ بطبيعته، وإذا بقينا منطوين على أنفسنا فلا يمكن تحقيق كونية الشعر وإنسانيته.
* ما المدن التي أدهشتك وأثارت فيك الكتابة؟
- لقد أدهشتني دمشق، فهي من المدن القلائل في العالم التي تحمل الكثير والكثير من الذكريات التي تعود إلى حضارات مختلفة ومتنوعة جدا. في دمشق تستطيع أن تمشي في طبقات مختلفة من الحضارات والثقافات، وكذلك الإسكندرية، فهي من المدن النادرة التي وجدتها مطابقة للصورة التي رسمتها في خيالي عنها من خلال قراءاتي. ولا ننسَ أن الإسكندرية كانت مركز العالم الغربي طيلة ثلاثة قرون، وهي أيضا بلد الأدباء الذين شيدوها في ذاكرتهم أمثال: لورنس داريل واونغاريتي وكفافي وفوستر وإدورد الخراط وأندريه أسيمان وغيرهم من العمالقة، ويكفي أن هذه المدينة عاشت مع رواد الحداثة في الشعر العالمي. إضافة إلى أن أسطورة هذه المدينة أدبية بالدرجة الأولى، ومكتبتها عبارة عن فردوس مفقود. ويمكن الحديث عنها إلى ما لا نهاية، ويكفي أنني ألفت كتابا عنها «الإسكندرية.. سراب». إن الإسكندرية مدينة الانفتاح والكوزموبوليتية، فالمجتمع الإسكندراني يتميز بتعدد الجنسيات والثقافات، وهو ما جعل منها مركز إشعاع حضاري متألقا، منذ تأسيس المدينة وحتى منتصف القرن العشرين. إنها من طراز المدن التي يخلدها الأدباء والكتاب والشعراء، وهي تولد على الدوام من رمادها.
* ماذا يمكن أن تقول عن الشعر العربي؟
- يمكنني القول إننا نتعلم المشاعر العظيمة من الشعر العربي، والحوار مع الحضارات والثقافات الأخرى. وهنا تكمن أهمية المهرجانات، تأتي من أنها لا تقتصر على الحضور وإلقاء القصيدة، ومن ثم الرحيل. فقد تولدت لدي أحاسيس جميلة من زياراتي لمهرجانات في كل من دمشق ودبي وغيرهما لأن التفاعل الحيوي بيننا جعلنا نعيش الآخر في صورته الحقيقية، وليس صورته النمطية التي ورثناها من الآخرين.
* ما مشاريعك الحديثة؟ حيث إنك تجمع بين كتابة الدراسات والشعر؟
- أهيأ لإصدار كتاب يتحدث عن السياسة والشعر في القرن العشرين، وهو عبارة عن دراسة كبيرة انتهيت منها قبل أشهر، وستصدر في الخريف المقبل في مدينة كولونيا.
* جئت إلى دبي في عام 2008 وشاركت في مهرجانها الذي انعقد لدورة واحدة، وأنت الآن في زيارة لمعرض أبوظبي للكتاب، كما ترجمت لك أعمال كثيرة إلى اللغة العربية، في كل من المغرب والإمارات. ما مدى اطلاعك على الأدب العربي؟
- إنني أطلع على الأدب العربي من خلال الترجمة، لأنني لا أجيد اللغة العربية، وهو أمر مؤسف لأن الشعر المترجم يفقد الكثير من جاذبيته وسحره أثناء الترجمة. قرأت لأدونيس وكتبت عنه، وقرأت بعض الروايات العربية لكل من نجيب محفوظ وعلاء الأسواني وإدوارد الخراط وجمال الغيطاني ونجم والي وفاضل العزاوي. وقد أمضيت أسبوعا في الإسكندرية مع الصديق الكاتب خالد الخميسي، وهو يعرف لغات كثيرة مما سهل عملية التخاطب والتفاهم بيننا. نحن الألمان كنا متابعين لأدب أميركا اللاتينية لسنوات طويلة، وقد أهملنا الأدب العربي كما يبدو.



متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»


قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».