لَبنة السلام في جدة... السعودية تقطع طريق «الأجندات» في القرن الأفريقي

أشد ما يخشاه العرب خصوصاً في الدول التي تحاول منازعة الخلافات والأوضاع الاقتصادية؛ أن تكون عرضة للابتزاز أو أن تكون ممراً للتأزيم لمواقع أخرى، هكذا هي حالة من حالات الدول العربية في القرن الأفريقي، حيث الروح الجديدة بالإصلاحيين من السياسيين وربما الرغبات الشعبية، مع تبلور الوعي الكامل بالأجندات التي تستهدف أمنها ومحيطها وتأزيم علاقاتها مع الجيران.
وللمقاربة، على طرف بعيد من أفريقيا، الولايات المتحدة الأميركية، تطوي خلافات العقود مع كوريا الشمالية، البعيدة عنها جغرافياً، القريبة من حلفائها، كل ذلك تم لأن هناك الرغبة وإن كانت لا تزال حتى اليوم في طور الصعود والهبوط. لكن الحالة العربية تثق بما لدى السعودية، وما توده وتسعى إليه.
أحداث من نوع ما يعرف بطي الخلافات، والتعامل مع الأسباب قبل النتائج، هي المنهج السياسي الأسلم، المصالحات عنوان وعي، ولا يمكن لها أن تتحقق من رعاة يسقون بذور حسن النيات لتنمو في محيطها وتجعل الحدائق في المحيط الجغرافي أكثر بهاءً.
إذن طي الخلافات، وإحلال السلام؛ هو المسار الأكثر قوة، وأيضاً -وهو الأهم- كسر عزلة الدول في قرن أفريقيا، فكان من المحللين من يرى أن حضور السعودية في المشهد الأفريقي، آخذ في النشاط.
ولتكن هناك التفاتة للتاريخ: أكثر فترات الاستقرار في أفريقيا كانت تلك العائدة إلى العلاقات العربية- الأفريقية، ما قبل الإسلام وبعده، وحتى في مراحل أولية من نيل عدد من الدول الأفريقية استقلالها من قوى الاستعمار، وتمخضت عن نموذج يُعد مثالياً مقارنةً بما كانت عليه بالأمس، في نواحي الاقتصاد والتكامل الأمني المشترك.
التقارب مع أفريقيا ظل خجولاً في عقود سبقت 2015، عدا فترة التقارب الأولى التي قادتها السعودية بقيادة الملك فيصل رحمه الله، وزياراته لدول أفريقية عدة في عام 1966، وتمخض بعدها إعلان إنشاء منظمة التعاون الإسلامي، وتبعتها زيارات أشمل في عام 1972، في إدراكٍ سعودي أصيل بأهمية التقارب مع الدول الأفريقية، التي تدين غالبيتها بالإسلام، وتتوق إلى مراحل التعاون الشامل.
بل وزاد من ذلك، تشكيل تعاون عربي أفريقي، شهدت فيه القاهرة أول قمة عربية أفريقية في عام 1977، نتج عنها برامج عمل متنوعة، وحدد الأساس القانوني والسياسي للتعاون العربي الأفريقي والمبادئ التي يستند إليها هذا التعاون فضلاً عن الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها من الأمن والاقتصاد والتقارب بين الشعوب، لكن البرامج تلك ظلّت في أوراق عربية شتى لم ترقَ إلى التنفيذ.
هكذا التاريخ يثبت أنه حين تحضر السعودية ومعها أصحاب النيات الصادقة، تتسم الحياة بأكثر من مثالية مقارنةً باليوم، لكن العودة لهذا المسار استغرقت وقتاً، وإعادة دور الرياض للحاضر؛ فخلال عام واحد (مارس (آذار) 2015 - مارس 2016)، التقى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، أكثر من أربعة عشر زعيماً أفريقياً، حطّت رحالهم في السعودية، حملت زيارات بعضهم توقيع اتفاقيات عدة لمشروعات بين البلدين، بغية تحقيق التكامل وبناء تحالفات على أوجه متنوعة، من الغابون إلى النيجر ومن ثم موريتانيا ونيجيريا، وحتى دول القرن الأفريقي إثيوبيا وجيبوتي وإريتريا والصومال ووصولاً إلى السودان، وكذا جمهورية جزر القمر.
يضاف إلى ذلك، تنقلات ورحلات عادل الجبير وزير الخارجية السعودي، بين دول في أفريقيا، كانت توحي بأشياء ستتحقق في القريب، خصوصاً في زيارات تكررت بين إثيوبيا وإرتيريا، البلدين اللذين أنهكتهما الحرب الساخنة وكذا الباردة.
أمس، حلت الدولتان في جدة، حيث وضعتا اللبنة الأولى للسلام بعد عشرين عاماً من إعلانات الحرب المتبادلة بينهما وعامين من حرب ساخنة، ليتغير المشهد للأعمق. السعودية ومعها الإمارات كذلك تؤسسان لمستقبل أكثر تنمية، قاطعتين الطرق على المكايدات التي حاولت استغلال الممرات البحرية ومحيط السعودية والخليج والأمن العربي.
يقول عثمان عبد الرب ماهين، الباحث في الشؤون الأفريقية والجماعات الإرهابية، إن أفريقيا شهدت ولا تزال توسعاً لأعمال العنف المرتبطة بالجماعات المتطرفة المؤمنة بأفكار تنظيم القاعدة، وأضاف أن إيران تحاول إيجاد موطئ قدم لها في الشمال الأفريقي حالياً، بعد أن كسرت السعودية وحلفاؤها شوكة الخلافات بين دول المضيق (باب المندب)، ومع تأكيد دول إسلامية إغلاق مقرات ثقافية كانت تدعمها طهران ودول حليفة لها في إطار نشر المذهبية والأدلجة التي تُصنف إرهابياً.
وأشار ماهين الذي تحدث مع «الشرق الأوسط» من جنوب أفريقيا، إلى أن «التراجع العربي ساهم في أن تستغل إيران نتيجة تراكم السنوات في محاور أفريقية، ومعها قطر التي تلعب على ورقة الدين من خلال اتحاد العلماء المسلمين (مصنّف إرهابياً في دول منها السعودية والإمارات) للبحث عن بدائل بعد فشل السيطرة الجيوسياسية واختطاف القرار بعد فشل مشروع الربيع العربي». وأكد أن دول المحور المناهض للاستقرار تسعى اليوم إلى غربلة أي نهضة أو استقرار من خلال ضخ مزيد من النار في زيت الخلافات أو الحاجات الاقتصادية، ويشهد قلب أفريقيا مزيداً من ذلك هذه الأيام.
السعودية ومعها دولة الإمارات، كان هذا العام لهما موعد تحقيق وتنفيذ الاستراتيجية الهادئة لحماية الأمن القومي الخليجي بالالتفاتة إلى ما يجري في دول القرن الأفريقي، وهو ما يعزز الحماية بطوق التأمين من اليمن حتى ما وراء باب المندب. ويرى ماهين أن السعوديين يسعون إلى «بناء إطارين بالأمن والتنمية لأن هذين ما تحتاج إليهما أفريقيا، ولأن السعودية لها التأثير الروحي هناك».
فيما يرى الدكتور عبد العزيز بن صقر، رئيس «مركز الخليج للأبحاث»، أن استضافة السعودية «اتفاقية جدة للسلام بين إثيوبيا وإريتريا» تنسجم مع سياسة المملكة ومواقفها الثابتة والمعلنة التي ترتكز على دعم السلام والاستقرار الإقليمي والدولي مع عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
وأضاف بن صقر لـ«الشرق الأوسط» أن السعودية «تتبنى وتدعم مبادرات المصالحات الإقليمية والدولية؛ وهي كثيرة؛ سواء بين الدول العربية أو الإقليمية»، مشيرا إلى أن توقيع اتفاق السلام الإثيوبي - الإريتري، يأتي تتويجا لجهود خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ودليلا على ثقل السعودية ومصداقيتها.
وبين بن صقر أن السعودية تعمل دائماً على إخلاء حوض البحر الأحمر من الصراعات والاستقطاب وتمدد النفوذ الأجنبي من الدول التي تستغل الخلافات بين دول الإقليم للتغلغل وتهديد الاستقرار الإقليمي.
إلى ذلك، شدد الدكتور زهير الحارثي، رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشورى، على أن استقرار إريتريا وإثيوبيا «له انعكاسات إيجابية على منطقة القرن الأفريقي، ناهيك بتعزيز أمن البحر الأحمر الذي يعاني من القرصنة وغيرها».
ولم يعد الدور السعودي يتوقف على جوانب المساعدات والأعمال الاجتماعية في أفريقيا، بل بشراكات اقتصادية وعلاقات سياسية أمنية متعمقة. وفي الأشهر الأخيرة كانت هناك توجهات جديدة لدى القيادة السعودية، أكثر إدراكاً لمصالحها ودوائرها المتسعة، إذ تتمتع الرياض برصيد كبير لدى دول القرن الأفريقي نظراً إلى أبعاد مختلفة ثقافية واجتماعية ودينية تجعلها نقطة ارتكاز يمكن الاعتماد والبناء عليها.
وعن الحاضر والمستقبل، هناك 19 دولة أفريقية من أصل 34 دولة إسلامية شاركت في التحالف العسكري الإسلامي لمحاربة الإرهاب، الذي أعلن قيامه الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد وزير الدفاع، وأتت تلك الجهود بثمرة التحالف التاريخي الكبير، بعد نجاح السعودية ودول التحالف العربي في عملية «عاصفة الحزم» في اليمن دعماً للشرعية فيها.
المستقبل يعطي الدلالة على أن الفترة المقبلة سيبدأ عصر جديد ستكون عليه أفريقيا خصوصاً غربها. تداعيات الاستقرار ستؤسس لما سيكون على المدى البعيد، وإن حفلت دول مثل: جيبوتي، والصومال، وإريتريا وإثيوبيا وجزر القمر، بحالة من خصوصية الموقع والداخل؛ إلا أنها تتفق على أن الأمن وقود التنمية، والخليجيون هم الأكثر حسناً في النيات.