الثري الصيني جاك ما يترك المليارات ليعود إلى مهنة التدريس والأعمال الخيرية

حَلُم بتعلم الإنجليزية وحاز درجات دكتوراه عدة وجوائز عالمية... وحقق 420 مليار دولار لمجموعة «علي بابا»

الثري الصيني جاك ما يترك المليارات ليعود إلى مهنة التدريس والأعمال الخيرية
TT

الثري الصيني جاك ما يترك المليارات ليعود إلى مهنة التدريس والأعمال الخيرية

الثري الصيني جاك ما يترك المليارات ليعود إلى مهنة التدريس والأعمال الخيرية

أعلن «جاك ما» Jack Ma الصيني، مؤسس مجموعة «علي بابا» للتجارة الإلكترونية، عن خطته للانسحاب التدريجي من الشركة بحلول العام 2020. ولقد نجح «جاك» – وهذا هو التحوير لاسمه الأصلي باللغة الصينية – بتطوير الموقع ليصبح من أكبر المواقع في التجارة الإلكترونية عبر الإنترنت، حيث إنه يخدم حاليا أكثر من 79 مليون مستخدم من حول العالم، يخدمهم 66 ألف موظف يعملون بدوام كامل في الشركة التي تبلغ قيمتها السوقية نحو 420.8 مليار دولار. وللعلم، تقدّم مجموعة «علي بابا» خدمات تقنية متنوعة على مستوى العالم، في حين قدّرت ثروة جاك ما نحو 38.6 مليار دولار أميركي في شهر أغسطس (آب) الماضي، ما يجعله أحد أغنى أغنياء العالم.

قرّر جاك ما، الملياردير الصيني ومؤسس مجموعة «علي بابا» للتجارة الإلكترونية، في وقت سابق من سبتمبر (أيلول) الحالي التفرغ للعمل الخيري في المجال التعليمي كونه معلماً سابقاً وشغوفاً في هذا الجانب. ووضع خطة للانسحاب التدريجي من الشركة تاركاً المجال للرئيس التنفيذي الحالي دانييل زانغ لخلافته عبر انتقال قيادة المجموعة خلال الفترة المقبلة. ومن جهة ثانية، شدّد جاك على أنه سيبقى جزءاً من الشركة خلال هذه الفترة، بيد أنه سيقلص دوره ومسؤولياته بشكل تدريجي إلى حين إتمام عملية الانتقال الإداري، وفي حينه سيتخلى عن منصب رئيس مجلس الإدارة في 10 سبتمبر 2019. وسيكمل فترته الحالية في مجلس إدارة «علي بابا» لغاية موعد الاجتماع السنوي العام للشركة في العام 2020. ثم إنه لم يترك قيادة المجموعة لأبنائه، كما هو مألوف في الشركات الصينية العائلية، بل فضل تركها للشخص المناسب من حيث المؤهلات وليس الوراثة، ليعكس منهجية الحوكمة والشفافية.
يذكر أن جاك كان قد تخلّى عن منصب الرئيسي التنفيذي للشركة عام 2013. ويأتي قراره الأخير اللافت مع مرور 19 سنة على تأسيس مجموعة «علي بابا» القابضة. ويرى رغم الأعمال اللامع أن من واجبه السماح للجيل الأصغر سناً والأكثر موهبة بتولي أدوار قيادية لإكمال رسالته المتمثلة بتسهيل أداء الأعمال في أي مكان. وأكد أن المعلم داخله يشعر بالفخر الشديد بفريق المجموعة وثقافتهم الغنية، رغبة منه بتجاوز الطالب للمعلم. وبذا يسير جاك ما على خطى بيل غيتس، مؤسس شركة «مايكروسوفت»، الذي ودّع إمبراطوريته التقنية بالتدريج بدءا من العام 2006 إلى العام 2014. من أجل التركيز على الأعمال الخيرية العالمية.

نشأته وحياته

جاك ما من مواليد 16 أكتوبر (تشرين الأول) 1964 – أي يبلغ عمره الآن 54 سنة – في مدينة هانغتشو في مقاطعة جيجيانيغ بشرق الصين. ومنذ طفولته أظهر رغبة جامحة في تعلم اللغة الإنجليزية، إذ كان يركب دراجته كل صباح لمدة 45 دقيقة باتجاه فندق لإرشاد السياح الأجانب حول المنطقة. ومن ثم، تعلم اللغة الإنجليزية واستخدمها معهم لمدة 9 سنوات، وصار صديقاً بالمراسلة لأحد السياح الذي أطلق عليه اسم «جاك» بسبب صعوبة نطق اسمه الصيني الأصلي.
درس «جاك» التربية والتعليم في جامعة هانغتشو لإعداد المعلمين، وتخرج فيها في العام 1988 حاصلاً على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية، بعد فشله مرتين في تجاوز امتحانات القبول فيها. ومن ثم، عمل محاضراً في اللغة الإنجليزية والتجارة الدولية في جامعة هانغتشو ديانزي، ومن ثم انضم إلى جامعة تشونغ كونغ لدراسات الأعمال، وتخرّج فيها عام 2006 بدرجة ماجستير في إدارة الأعمال.
بعد ذلك تقدم جاك لأكثر من 30 وظيفة مختلفة لكنه ووجه بالرفض في كل منها. وكان بين الوظائف التي تقدم لها قسم الشرطة حيث تم قبول 4 متقدمين من أصل 5، وشركة «كي إف سي» KFC لبيع الدجاج المقلي التي تقدم للعمل بها 24 شخصاً وكان الوحيد الذي رفض طلبه أيضاً. وتقدم كذلك إلى كلية الأعمال بجامعة هارفارد الأميركية 10 مرات ولكن طلبه رفض في كل مرة. بل حتى عندما تقدم مع ابن عمه لوظيفة نادل في فندق، وانتظر تحت أشعة الشمس الحارقة لنحو الساعتين، حصل ابن عمه على الوظيفة رغم حصوله على تقييم أقل من تقييم جاك في امتحان القبول!
من كل هذه التجارب تعلمّ جاك درساً مهماً في حياته، وهو أن عليه ألا يستسلم أبدا للفشل، بل يجب التعلم منه. وانتهى مشوار خيبات الأمل، عندما عمل أخيراً في جامعة محلية كمدرس للغة الإنجليزية لقاء 12 دولاراً في الشهر.

محطة الإنترنت المفصلية

عام 1994 سمع جاك عن الإنترنت، وسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية مع مجموعة من الأصدقاء الذين ساعدوه في التعرف عليها. وهناك فوجئ بأنه عثر على الكثير من المعلومات في الإنترنت، ولكن ليس من شركات صينية. وهكذا، قرّر جاك مع مجموعة من الأصدقاء تأسيس موقع يسمح لمصدّري المنتجات وضعها في الإنترنت لتمكين المشترين من اختيارها مباشرة من دون الحاجة إلى وسيط. وحقاً، أطلق الموقع في الساعة التاسعة و40 دقيقة صباحا، لتبدأ رسائل البريد الإلكتروني من المستثمرين الصينيين بالوصول في حدود الساعة 12 ونصف ظهرا. وكانت تلك هي اللحظة التي خبِر فيها جاك ما، فعلاً، القدرات الهائلة الكامنة للإنترنت. من هذه المحطة، بدأ له أن مشواره العملي سيكون كفاحاً شاقاً من أجل النجاح، تماماً مثل مشواره التعليمي، وحقاً، كان من أوائل من فكروا بتأسيس شركة إنترنت من الصين، التي كانت تتأهب في حينه لدخول العصر الرقمي.

انطلاق «علي بابا»

وبعد سنة، عام 1995، جمع جاك مع زوجته وصديق له مبلغ 20 ألف دولار لتأسيس أول شركة لهم، وهي شركة متخصصة بإيجاد موقع للشركات الصينية سماها «صفحات الصين». وفي غضون 3 سنوات فقط، حصلت الشركة على عوائد بقيمة 5 ملايين يوان صيني، أي ما يعادل 800 ألف دولار أميركي في ذلك الوقت. ثم ترأس جاك شركة تقنية المعلومات التابعة لمركز الصين الدولي للتجارة الإلكترونية التابع لقسم وزارة التجارة والتعاون الاقتصادي بين العامين 1998 و1999.
وبعد ذلك أسّس موقع «علي بابا» بصحبة 18 صديقاً، وشغل منصب الرئيس التنفيذي للمجموعة التي تشمل موقع «علي بابا»، وموقع «إي تاو»، وخدمات «علي بابا» للحوسبة السحابية، وموقع «تي مول»، وموقع «جوهواسوان»، وموقع «1688 دوت كوم» وموقع «علي إكسبريس» المتخصص ببيع المنتجات بأسعار الجملة للأفراد والتجار حول العالم، وخدمة «علي بابا» للدفع المسماة «علي باي» AliPay. كذلك أسس موقع «تاو باو» الذي عرض موقع «إي باي» eBay أن يشتريه، لكن جاك ما رفض ذلك وحصل على استثمار مالي من الشريك المؤسس لـ«ياهو» بقيمة مليار دولار.
اختار جاك اسم «علي بابا» للموقع معتمداً على رواية «علي بابا والأربعون لصاً» من منطلق استخدام شخصية «علي بابا» ككلمة سر تفتح أبواباً لكنوز تفوق الوصف، وفي ذلك تعبير واضح عن قدرة شركته على فتح أبواب الثراء للشركات الصغيرة والمتوسطة حول العالم.
ومن ثم، حصلت مجموعة «علي بابا» على تمويل أجنبي بقيمة 25 مليار دولار في نهاية العام 1999 وبداية العام 2000، من أجل تطوير التجارة الإلكترونية المحلية وإيجاد منصة تجارة إلكترونية متقدّمة للشركات الصينية الصغيرة والمتوسطة. واستطاعت المجموعة دخول سوق الأسهم في بورصة نيويورك بنهاية العام 2014 وجنت أكثر من 25 مليار دولار في الاكتتاب، وهي أكبر قيمة اكتتاب في تاريخ سوق الأسهم الأميركي. وفي العام 2012، تجاوز حجم التعاملات التجارية في موقع «علي بابا» تريليون يوان صيني (نحو 146 مليار دولار أميركي).
في ضوء هذا النجاح المبهر، تحدث جاك ما مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في بداية العام 2017 حول كيفية إيجاد مليون وظيفة جديدة في الولايات المتحدة خلال 5 سنوات، مع أنه في الوقت نفسه يعارض سياسات ترمب التجارية، ويعتقد أنه إذا توقفت التجارة... ستبدأ الحرب. وهنا نشير إلى أن جاك ما كان قد أعلن في العام 2010 عن قراره تخصيص 0.3 في المائة من العوائد السنوية لمجموعة «علي بابا» لصالح مشاريع حماية البيئة في مجالي تطوير نقاء المياه والهواء، وذلك بهدف مساعدة المزيد من الناس على جني المال بصحة أفضل، وأن يكون المال مفيداً لأولئك الأشخاص وللمجتمع ككل. ونبع هذا الاهتمام بعد مرض أحد أفراد عائلة زوجته بسبب التلوث البيئي.
وفي هذا السياق العائلي، نذكر أن جاك أبٌ لـ3 أولاد من زوجته كاثي جانغ ينغ، وله أخ أكبر منه وأخت أصغر منه. ومن اهتماماته أنه استثمر في محمية طبيعية في الصين تبلغ مساحتها 27 ألف فدان. وبلغ عدد ساعات الطيران التي أمضاها في الجو 800 ساعة خلال العام 2016. وازدادت إلى 840 ساعة في العام 2017. ويتوقع أن يمضي أكثر من 1000 ساعة في الجو هذا العام للترويج لمزايا التجارة الحرة والعولمة.

جوائز وتكريم

يعتبر جاك ما أول شخصية من الصين تتصدّر غلاف مجلة فوربس» الأميركية. ولقد حصل على جوائز كثيرة، وجرى تكريمه في الكثير من المناسبات، كإضافته إلى قائمة «أكبر 10 شخصيات اقتصادية» للعام 2004 من قبل التلفزيون المركزي الصيني، واختيار المنتدى الاقتصادي العالمي إياه في العام 2005 كقائد عالمي شاب، واختيار مجلة «فورتشن» إياه ليكون من ضمن «أكبر 25 شخصية أعمال مؤثرة في آسيا» عن العام 2005، ووقوع مجلة «بيزنز ويك» عليه كـ«شخصية الأعمال» للعام 2007، واختياره من قبل «بارونز» ضمن قائمة «أفضل 30 رئيساً تنفيذياً في العالم»، وإدراج اسمه في مجلة «تايم» كواحد من أكثر 100 شخصية مؤثرة، وذلك بعد تجاوز مزاد «تاوباو» الإلكتروني في الصين انتشار مزاد «إي باي»، ثم أعادت المجلة اختياره ليكون في هذه القائمة مرة أخرى في العام 2014.
أيضاً اختارت مجلة «بيزنز ويك» جاك ما واحداً من «أكثر الناس قوة في الصين»، وفي العام 2005 اختارته مجلة «فوربس الصين» واحداً من «أكثر 10 رواد الأعمال احتراماً في الصين». كذلك حصل على جائزة «شخصية العام الاقتصادية» و«قيادي العقد» من التلفزيون المركزي الصيني، كما اختير في العام 2010 واحداً من أبطال آسيا في الأعمال الخيرية بسبب مساهماته الكثيرة في جهود إغاثة الأزمات والفقر.
وراهناً، جاك عضوا في مجلس إدارة مصرف «سوفت بانك» الياباني للاستثمار، وشركة «الإخوة هواييه» للإعلام، ويعمل قيّماً لبرنامج الطبيعة في الصين في العام 2009. ولقد انضم في العام 2020 إلى مجلس الإدارة العالمي للبرنامج، وأصبح رئيس مجلس إدارة البرنامج في العام 2013. ثم إنه حصل في العام نفسه على المرتبة 30 بين أقوى شخصيات العالم وفق تقييم «فوربس» السنوي، وحصل على «جائزة ريادي الأعمال للعام على المستوى الآسيوي» في 2013. وحقق المرتبة الثانية في قائمة «فورتشن» لأعظم 50 شخصية قيادية في العام 2017.
وبالنسبة للشهادات الأكاديمية الفخرية، منح جاك دكتوراه فخرية من جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا في العام 2013، تلتها دكتوراه فخرية أخرى في العلوم والريادة التقنية من جامعة دي لا سال في الفلبين، ودكتوراه فخرية ثالثة في العلوم الاجتماعية بسبب مساهماته في قطاعي التقنية والمجتمع من جامعة هونغ كونغ، وأخيراً، دكتوراه فخرية من جامعة تل أبيب في فلسطين المحتلة.

دروس «المعلم» جاك

ختاماً، من قصة حياة جاك ما، وعمله، درس أول للأجيال الشابة فحواه أن أي شيء ممكن مع الإرادة، ذلك أنه بدأ من الصفر وأصبح مليارديراً، بغياب عائلة غنية من حوله تدعمه أو تعليم من أفضل الجامعات، أو حتى سيارة تنقله من مكان لآخر. وثمة درس ثان هو أنه يمكن بناء إمبراطورية في مرحلة الشباب إذ أن جاك انطلق في عالم النجاح عندما كان في الثلاثينات من عمره، وحصل على الكثير من الجوائز عندما كان في الأربعينات. وأما الدرس الثالث فهو أن وجود الموارد المسبقة ليس عنصراً أساسيا عندما يكون للمرء حلم كبير جداً ولديه الرغبة الأكيدة بتحقيقه... وطرق جميع الأبواب للبدء بتنفيذه.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».