هل نحن أمام «حرب اقتصادية» نهائية بين أميركا والصين؟

قراءة في تعاطي «واشنطن ترمب» مع واقع التحدّي التجاري العالمي الكبير

هل نحن أمام «حرب اقتصادية» نهائية بين أميركا والصين؟
TT

هل نحن أمام «حرب اقتصادية» نهائية بين أميركا والصين؟

هل نحن أمام «حرب اقتصادية» نهائية بين أميركا والصين؟

منذ تولى دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية وضع الصين نصب عينيه، كيف لا وهو الذي لم تخلُ حملة من حملاته الانتخابية من إثارته موضوع التبادل التجاري بين دولته والصين، الذي يرى فيه ظلماً جائراً للولايات المتحدة.
إلا أنه بعيد دخول ترمب المكتب البيضاوي، لاح للبعض وكأن حماسة الرئيس الجديد للتصدّي للشأن التجاري مع الصين قد فترت. ذلك أنه إبان زيارة الرئيس الصيني بعد ذلك بثلاثة أشهر بدا اللقاء ودياً، خاصة عند ظهور الرئيسين وقد علت شفتيهما ابتسامتان عريضتان، وتبودلت التصريحات الودية، وكانت المحصلة النهائية للقاء الرئاسي إعادة تقييم العلاقات الأميركية الصينية في مدة تزيد على ثلاثة أشهر بقليل.
في حينه ازداد الظن أن ترمب استغل قضية العجز التجاري مع الصين للترويج لحملته الانتخابية، دون نية فعلية للعمل على موازنة هذا العجز بما يتناسب مع مصلحة الاقتصاد الأميركي. ولكن لم تمض سنة واحدة على ذلك اللقاء حتى انفجر ترمب على القوى الاقتصادية العالمية بما اتضح أنه بوادر حرب اقتصادية، فزاد الرسوم الجمركية على الواردات الأميركية من الحديد والألومنيوم والألواح الشمسية ومنتجات كثيرة أخرى، استهدف من خلالها الصين تحديداً، وإن لم يستثن دول الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية.
ومن ثم، يوماً تلو الآخر، أخذ الناس يشعرون أن العالم مقبل فعلاً على «حرب اقتصادية» يقودها الرئيس الأميركي... حرب اختفى فيها صوت التعقل ليعلو عليه صوت المصلحة. وكلما فرض الرئيس الأميركي رسوماً على منتجات يستهدف فيها قوة اقتصادية منافسة، ردّت هذه القوة برسوم انتقامية، ليردّ هو الآخر بزيادة هذه الرسوم، وتكرّر هذا الموقف بين الولايات المتحدة من جهة، والصين والاتحاد الأوروبي ودول أميركا الشمالية من جهة أخرى.
ومنذ بداية مارس (آذار) الماضي وحتى الآن، لم تزدد هذه الحرب إلا اشتعالاً، على الرغم من انعقاد «قمة الدول السبع» في يونيو (حزيران) الماضي. ذلك أن «القمة» لم تكن مثمرة لجهة إيجاد حلول فعلية للأزمة، ورغم توالي الاجتماعات الثنائية بين الدول للتفاوض، فإن الوفود عادت كل مرة من هذه الاجتماعات خالية الوفاض من الحلول لأزمة قد تغيّر الخريطة الاقتصادية في العالم.

يبدو العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين وكأنه السبب الأساسي في اندلاع الحرب الاقتصادية بين البلدين، وهذا السبب يبدو واضحا في جلّ تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي كثيراً ما كرّر أن دولة مثل دولته لا تقبل بوجود هذا العجز الذي تعدّى 370 مليار دولار أميركي في العام الماضي. غير أن الأسباب لا تقف عند نقطة عجز الميزان التجاري وحدها. ذلك أن الحرب الاقتصادية، من وجهة نظر أميركية، تتمحور حول نقطتين رئيسيتين:
النقطة الأولى، هي الدعم الحكومي الصيني للمصانع الصينية. إذ إن الكثير من المصانع الصينية تعود إلى ملكية حكومية، وبناءً عليه، فهي تتمتّع بدعم حكومي يقلّل تكلفة الإنتاج الإجمالية... وهو واقع يمنح التفوّق لمنتجات هذه المصانع مقابل مثيلاتها في الدول الأخرى. وقد تكون مصانع الحديد الصينية أكثر الأمثلة دقة على هذه الحالة، فالرئيس الأميركي طالما تذمّر من دعم الحكومة الصينية لهذه المصانع، ما جعل الحديد الصيني الأدنى ثمناً على المستوى العالمي. وفي ضوء غزارة الإنتاج الصيني ورخص ثمنه، بات من الصعب على بقية دول العالم منافسة الصين. وبالتالي، اضطرت بعض المناجم والمصانع في الولايات المتحدة للإغلاق لعجزها عن المنافسة. وحقاً، سبق للرئيس ترمب أن اتهم الصين أكثر من مرة بإغراق السوق بالحديد الرخيص الثمن بهدف السيطرة على الحصص السوقية العالمية، ويقاس على الحديد منتجات صينية أخرى.

منطق واشنطن للرسوم

في المقابل، ترى الولايات المتحدة بفرضها الرسوم الجمركية وغيرها، أنها تدعم منتجاتها الوطنية برفع أسعار المنتجات المستوردة. وهذا المنطق يبدو معقولاً إذا تعلق الأمر ببعض المنتجات، فالمستهلك قد يُحجِم عن شراء المنتج المستورد إذا ما كان المنتج المحلي أقل سعراً، وبالأخص، إذا تقارب مستوى الجودة. إلا أن بعض المنتجات لا تخضع لهذا المنطق، لا سيما المواد الخام والأساسية المستوردة من الصين، مثل الحديد والمكوّنات الداخلية للأجهزة الإلكترونية. هنا زيادة أسعار المواد تؤدي إلى زيادة أسعار المنتجات النهائية التي يصدّر بعضها إلى الخارج ويباع بعضها الآخر في الولايات المتحدة.
ومن ثم، فإن في زيادة أسعار هذه المنتجات إلحاق ضرر أكيد بالمصانع الأميركية التي قد تنخفض مبيعاتها، وبالنتيجة ستلجأ إلى تسريح الموظفين لتقليل التكلفة التشغيلية. وعليه، سيصبح القرار الذي استهدف خلق وظائف جديدة في قطاع التعدين الأميركي من خلال زيادة الرسوم على الحديد الصيني قد أدى إلى عكس الغرض منه، إذ تسبب في فقدان وظائف في قطاعات صناعية أخرى، مثل صناعة السيارات.

نقل التقنية

المحور الثاني لهذه الحرب - بحسب وجهة النظر الأميركية - هو النقل القسري للتقنية. ذلك أن الولايات المتحدة تتهم الصين بـ«سرقة» التقنية و«توطينها» في الصين بشكل غير مشروع، وذلك من خلال الاستحواذ على الشركات التقنية الأميركية، وتسريب هذه التقنية بعد ذلك إلى الصين.
ويرى الأميركيون أن الصين استغلت الأزمة المالية العالمية خلال العقد الماضي لتشتري شركات أميركية، حتى إنه بين عامي 2005 و2016 وصل عدد الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة وحدها إلى 202 استثمار. ومع أن عدد الاستثمارات التقنية منها لم يتعدّ 16 استثماراً، فإن قيمتها زادت على 21 مليار دولار. بل، وحتى مع كون هذه الاستثمارات قليلة نسبياً، سواءً من ناحية العدد أو القيمة، فإن الأميركيين يدركون أن المستقبل لمَن يملك التقنية. وبالتالي، فهم يتخوفون من أن تتفوق الصين على بلدهم بمجهودات الشركات والعقول الأميركية. ولذا أصدر البيت الأبيض قرارا منع فيه الشركات الصينية من الاستحواذ على شركات تقنية أميركية في السنوات السبع المقبلة.
وهنا، لا بد من القول، أن ما لا تعترف به الإدارة الأميركية، هو الدور الصيني في تعافي الولايات المتحدة من الأزمة المالية العالمية المشار إليها. إذ أسهمت الاستثمارات الصينية في القطاع العقاري خلال العقد المنصرم إسهاماً كبيراً في استقرار أسعار العقارات الأميركية، كما كان لضخّ الأموال الصينية في قطاع التقنية الأميركي دور هو الآخر في تحفيز قطاع تشتد فيه المنافسة على مصادر التمويل. مع هذا، الولايات المتحدة ليست وحدها مَن يتهم الصين بـ«سرقة حقوق الملكية الفكرية»، ذلك أن اليابان وبعض دول الاتحاد الأوروبي أيضا توجه إلى الصين التهمة ذاتها، مما قد يبرّر القرارات الأميركية إلى حد ما.

وجهة النظر الصينية

حتى الآن، تعاملت الصين مع ما يمكن وصف بـ«الحرب الاقتصادية» بشكل حذر، ولم تبادر بأي إجراء فيها، بل اكتفت بردات فعل مماثلة لتلكم الأميركية. والسبب أن الصين لم تحسن النية في غاية الولايات المتحدة من الحرب الاقتصادية منذ أن تولى ترمب الحكم. إذ الصين ترى أن الولايات المتحدة تطمح لتحجيمها اقتصاديا، تماماً، كما فعلت في الماضي مع اليابان ومع الاتحاد السوفياتي السابق. ومن ثم، تخشى الصين أن تنجح أميركا كما نجحت من قبل، وعلى الرغم من أن الصين متمرسة في المفاوضات والمواجهات الاقتصادية، فهي الآن تواجه خصماً عنيفاً ذا مطالب مستحيلة التنفيذ.
وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي يركز إعلامياً على مقدار العجز الاقتصادي ومعادلة الميزان التجاري، فإن مطالبه تحمل في طياتها تغييرات جذرية للصين. فالصين دولة شيوعية، والتغييرات التي يطالب بها ترمب تعني أن تتخلى الدولة عن مصانعها الحكومية، وأن تغير سياساتها الصناعية، بل وأن تغير سياساتها المالية برفع عملتها «اليوان» التي طالما تذمّر منها رؤساء الولايات المتحدة السابقون.
هذه التغيرات، بطبيعة الحال، شبه مستحيلة على الحزب الشيوعي الصيني الحاكم لأنها تمسّ قناعات الحزب ومعتقداته الجوهرية. وحتى بعض الأوروبيين واليابانيين المختلفين مع سياسات الصين التجارية، يعتبرون أن مطالب الرئيس ترمب الحالية تفتقر إلى الواقعية.
الحكومة الصينية تبدو مقتنعة أن الرئيس ترمب لا يهدف في الحقيقة إلى الوصول إلى اتفاق تجاري أو إلى موازنة العجز التجاري، بل يسعى إلى فرض دائم للرسوم الجمركية على السلع الصينية بهدف تغيير خريطة سلسلة التوريد في العالم. وحقاً، يندر أن يُصنع جهاز إلكتروني في الوقت الحالي من دون اللجوء إلى مكوّنات داخلية صينية مهما كان بلد منشأ هذا الجهاز، وقد لا تخلو أي مركبة من قطع صينية فيها، وكذلك الحال، في غالبية الصناعات الأخرى، من الملابس وحتى مصانع الأغذية. ولذلك فإن الصين تحمل أهمية استراتيجية عالمية في سلاسل التوريد لغالبية الصناعات في العالم. وهذا ما لا ترضاه الولايات المتحدة التي ترى أنها «ملكة العالم الجديد» وصانعة القرار الأولى. وعليه فإن المسؤولين الصينيين يكادون يجزمون أن ما يرمي إليه ترمب هو تغيير موازين القوى الاقتصادية في العالم، وبالذات، سحب البساط من تحت الصينيين، من منطلق أن بلاده لا تريد أن يكون لها أي غريم أو منافس اقتصادي في العالم. وكما لم ترض واشنطن في الماضي أن يكون الاتحاد السوفياتي غريماً عسكرياً منافساً لها، فهي تسعى حاليا إلى احتواء الصين بشكل استراتيجي من خلال الحرب الاقتصادية. وهذا، خاصة، بعد ظهور طموحات بكين المستمرة من خلال تمدّد علاقات الصين التجارية مع دول العالم، وسعيها الحثيث لإكمال «طريق الحرير الجديد» الذي يسهل على السلع الصينية الوصول لأوروبا بأكملها على طريق البر. ولعل ما يزيد الصينيين اقتناعاً بهذه النظرية، هو الثمن الذي سيدفعه الاقتصاد الأميركي جرّاء هذه الحرب، والذي على الرغم من فداحته لا يظهر أنه يمنع الولايات المتحدة من المضي قدماً في خوض هذه الحرب، وكأنها لا تمانع في دفع هذا الثمن في العصر الحالي، كي لا تغدو الصين منافساً اقتصادياً يستحيل التصدي له في المستقبل.

القوى الاقتصادية والمخاوف الصينية

اتفاق القوى الاقتصادية العالمية الثلاث على الصين هو هاجس سلطات بكين الأول في الوقت الراهن. فالولايات المتحدة تقود هذه الحرب الاقتصادية، والاتحاد الأوروبي - وإن عانى من تبعات هذه الحرب على المستوى الأوروبي - يرى بدوره أن على الصين تغيير سياساتها التجارية التي تلحِق الضرر بباقي دول العالم، ولا سيما، بعدما فرض الاتحاد الأوروبي مسبقاً رسوما إضافية على الحديد الصيني. أما اليابان، «ثالث» القوى الاقتصادية الثلاث، فقد عانت كثيرا من الصين على المستويين الثقافي والاقتصادي، وقد تجد الآن في هذا التحالف فرصة لفرض مطالبها الاقتصادية على «جارتها الآسيوية العملاقة.
لقد شعرت الصين بالارتياح سابقاً، بعد أن هاجم ترمب قوى اقتصادية عدة مثل الاتحاد الأوروبي واليابان ودول أميركا الشمالية الأخرى (كندا والمكسيك)، إلا أن واشنطن بدأت مفاوضاتها مع هذه الأطراف، سواءً مع الاتحاد الأوروبي، أو من خلال اتفاقية «نافتا» لدول أميركا الشمالية مع المكسيكيين والكنديين. وهذا ما جعل الصين تتودّد لـ«جارتها» الآسيوية اليابان، ما دفع مسؤولاً يابانياً للقول إن الصين «اكتسبت بعض الدبلوماسية بعد موقف الولايات المتحدة معها».
هذا الالتفاف الاقتصادي حول أميركا قد يقض مضاجع المسؤولين الصينيين في الوقت الحالي، ولكنه أقرب إلى ألا يحدث منه إلى الحدوث. فبالنسبة لأميركا الشمالية، لم تتوصل سوى المكسيك إلى حل في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة بينما تعثرت حتى اللحظة المفاوضات مع كندا. والاتحاد الأوروبي ما زال في الدوامة نفسها، بل إن دول الاتحاد الأوروبي تبدو جاهزة هي الأخرى للرد على خطوات واشنطن برد انتقامي اقتصادي مماثل على الرسوم الأميركية. والواقع، أنه لم يستغرق الاتحاد الأوروبي أكثر من يوم واحد لإصدار قائمة تشتمل على 100 منتج أميركي معرّض لرسوم جمركية إضافية في رد عنيف على فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية على واردات الحديد والألمنيوم من دول الاتحاد. وحين صرح الرئيس الأميركي أن الولايات المتحدة قد تزيد التعرفة الجمركية على السيارات الأوروبية، جاء الرد الأوروبي حازماً وسريعاً مؤداه أن الاتحاد الأوروبي سيرد على هذه الرسوم - إن فُرضت - بالمثل.
ولكن الرئيس الأميركي - إن وصف بشيء فيه - فهو رجل لا يمكن التنبؤ بأفعاله. ولو قيل لشخص ما قبل سنوات قليلة إن رئيس أقوى دولة في العالم سيلقي هذه التصريحات النارية في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لعد ذلك ضرباً من الخيال. فعديد المواقف من الرئيس الأميركي تدل على أن مواقفه المستقبلية غير مضمونة بأي حال، فكيف إذا كان الحال لدولة وضعها هدفاً من أهداف فترته الرئاسية... مثل الصين.

تبِعات الحرب الاقتصادية

الحرب الاقتصادية ليست محض خيال غير مرئي. ونتائج هذه الحرب ملموسة للمستهلك، تماماً، كما هي مؤثرة على اقتصادات الدول. ثم إن دائرة المتأثرين منها لا ولن تقتصر على الصينيين والأميركيين وحدهم، بل تتسع لتشمل غالبية دول العالم، ولعل أقرب مثال على ذلك تغريدة الرئيس ترمب قبيل مؤتمر شركة آبل الأميركية التي جاء فيها قوله إن أسعار هواتف «الآيفون» قد ترتفع هذه السنة بعد فرض الضرائب على المنتجات الصينية. وعلى الرغم من أن ترمب أراد بهذه التغريدة الإعلان عن سياسته بإعفاء بعض المصانع الأميركية من الضرائب لتعويضها عن الرسوم المرتفعة، فإن تغريدته لا تخلو من صحة في مجملها. والحقيقة، أن غالبية مستهلكي المنتجات الأميركية سيتضرّرون حول العالم، حيث حجم الصادرات الأميركية للعالم يزيد على 2.3 تريليون دولار، وتشكل الواردات الصينية مواد أساسية لنسبة لا بأس فيها. وبالتالي، فزيادة أسعار هذه الصادرات نتيجة حتمية، وهي زيادة سيتحملها المستهلك النهائي، تماماً كما هو الحال مع «الآيفون». لذا، من المتوقع أن يتأثر المستهلكان الأميركي والصيني بشكل مباشر، ولكن التأثير غير المباشر على بقية المستهلكين حول العالم سيكون ملحوظاً أيضاً وغير مستغرب.
على المستوى الدولي، هذه الحرب قد تغير خريطة العالم الاقتصادية، إذ إن وضع اقتصاد الصين مؤثر على غالبية دول العالم، سواءً كانت الدول التي تربطها علاقات تبادل تجاري، أو الأخرى التي تربطها بالصين استثمارات طويلة المدى. واستهداف الولايات المتحدة للاقتصاد الصيني قد لا ينتهي بكساد اقتصادي صيني فحسب، بل قد يمتد إلى دول كثيرة مجاورة بتأثير أشبه ما يوصف بـ«تأثير الدومينو». فدول مثل كوريا الجنوبية والهند وفيتنام تعتمد بشكل مكثف على الحركة التجارية مع الصين. وعليه، فتأثر الاقتصاد الصيني يعني تأثر هذه الدول معها في حرب قد تمس بشكل مباشر ربع سكان العالم، وتمس البقية الباقية بشكل غير مباشر.
كلمة أخيرة. لعل الأمل مُعلق الآن على «قمة العشرين» المقرّر انعقادها في الأرجنتين، عند نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، للعمل على حل هذه الحرب قبل أن تخرج عن السيطرة.

* باحث سعودي متخصص
في الإدارة المالية والاقتصاد

 



«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
TT

«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)

«لقد انتصرت روسيا اليوم في جورجيا... علينا أن نعترف بذلك»... بهذه الكلمات لخّص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تخوض بلاده حرباً مفتوحة مع روسيا منذ 33 شهراً، المشهد في جمهورية جورجيا السوفياتية السابقة. وبالفعل، عكست عبارته البُعد الأوسع للصراع الانتخابي في البلد القوقازي الصغير، الذي تحدى منذ سنوات قيود الكرملين وانفتح على توسيع علاقات تحالف مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، فدفع أثماناً باهظة. ولا شك أن الانتخابات النيابية الأكثر سخونة في تاريخ جورجيا، شكّلت علامة فارقة في مسار تطور هذا البلد، الذي شهد كثيراً من التقلبات وخاض صراعات عدة، أسفرت في وقت سابق عن اقتطاع أجزاء منه. هذا الوضع أدّى إلى استفحال معركة سياسية داخلية حادة بين طرفين، يدين أحدهما بالولاء لـ«الحلم الأوروبي» التي ظل على مدى سنوات هاجساً لطموحات كثيرين رأوا أن تبليسي العاصمة يمكن أن تتحول إلى «باريس قوقازية» إذا نعمت بالأمن والاستقرار، وفقاً لمقولة رئيسة البلاد سالومي زورابيشفيلي. وفي المقابل، ثمة طرف آخر حظي بدعم كامل من جانب الكرملين، يؤكد على ضرورة المحافظة على علاقات وثيقة مع روسيا، رافعاً شعار «الحلم الجورجي» بديلاً عن الأحلام الطامحة لتحالفات مع أوروبا و«الناتو».

فاز «الحلم الجورجي» في الانتخابات العامة بجورجيا، التي أثير حولها كثير من الشكوك، بعد اتهامات واسعة بوقوع عمليات تزوير وحشو صناديق، وتأثير دعائي وتدخّل مالي واسع من جانب مؤسّس «الحلم» رجل الأعمال الملياردير بيدزينا إيفانيشفيلي. وهو شخصية مقرّبة من الكرملين، ويطلق عليه الجورجيون لقب «سيد جورجيا» كونه يدير فعلياً - من وراء ستار التمويل والدعم الواسع - الحكومة التي تدير شؤون البلاد منذ عام 2012.

وفق نتائج فرز الأصوات، حصل حزب «الحلم الجورجي» الحاكم على نحو 54 في المائة من الأصوات، مقابل أقل بقليل من 38 في المائة لتحالف المعارضة، الذي يحظى بدعم رئيسة البلاد، سالومي زورابيشفيلي، في الجمهورية التي يقوم الحكم فيها على نظام شبه رئاسي.

عندها، سارعت المعارضة، التي كانت توقّعات سابقة رشّحتها للفوز بأكثر من 52 في المائة من الأصوات، إلى رفض النتائج، وأعلنت أنها لن تشارك في جلسات البرلمان المنتخب على أساسها. ومع اشتعال مظاهر الاحتجاج في الشارع، بدا أن معركة دستورية وقانونية قد انطلقت للتوّ، إذ رفضت «لجنة الانتخابات» التشكيك بنتائج عملها، واستندت إلى دعم واسع من جانب الحكومة، التي حرّكت بدورها النيابة العامة لمواجهة تحالف المعارضة. بل شكّل استدعاء رئيسة البلاد للمثول أمام النيابة العامة من أجل تقديم أدلتها على اتهامات التزوير، تطوراً جديداً ولافتاً قد يمهد للإطاحة بها، وتقويض سلطات الفريق الذي يدعم «الحلم الأوروبي» نهائياً.

«تحدّي» الأدلة الواضحةباختصار، إذا لم تنجح زورابيشفيلي في تقديم أدلة واضحة ومقنعة على وقوع انتهاكات، فإنها ستواجه اتهامات قضائية بالخداع وتضليل الجورجيين وإطلاق اتهامات غير مُثبتة ضد أركان الدولة، بما فيها الحكومة والجهاز الانتخابي.

هنا يقول أنصار الرئيسة إن الهدف هو القضاء نهائياً على هذا التيار. وفي المقابل، تحذّر الحكومة من أن «المهزومين في المعركة الانتخابية يعدون لانقلاب دستوري كامل من خلال مقاطعة البرلمان وشلّ حكومة البلاد وتعيين حكومة تصريف أعمال تقنية».

وهكذا، اشتعلت الآن المعركة الداخلية، والشارع لا يكاد يهدأ، والمخاوف تعاظمت من مواجهات قد تسفر عن صراع داخلي دامٍ يعيد إلى الأذهان الأوضاع المعقدة التي خاضتها جورجيا خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال.

امتداد معركة أوكرانيا

الرئيسة زورابيشفيلي (تاس)

كان من الطبيعي أن تشكّل التطورات الساخنة في جورجيا حلقة متجددة في الصراع المحتدم بين روسيا والغرب. وطوال سنوات كان ينظر لجورجيا ومولدوفا (مولدافيا) المجاورة على أنهما ستكونان «ساحتي» المواجهة المقبلة بعد «إنجاز» مهمة الكرملين في أوكرانيا.

ومع أن الحكومة الجورجية نجحت في النأي بنفسها حتى الآن عن الصراع الدامي في أوكرانيا، ورفضت الانخراط في تنفيذ رزم العقوبات المفروضة على موسكو التزاماً بموقفها الداعي إلى التقارب مع الكرملين. وتحسباً لوصول نيران الحرب إلى الداخل الجورجي، وصل الانقسام الحاد في المجتمع الجورجي إلى «لحظة الحقيقة»، كما يقول ساسة جورجيون. ويبدو أن نتائج الانتخابات والتداعيات المنتظرة مع احتدام المواجهة الداخلية ستدفع أكثر إلى تعاظم التأثير الخارجي على البلاد، من طرفي روسيا والغرب.

لقد ظهرت أولى تلك التداعيات مباشرة بعد ظهور النتائج، إذ تلاحقت ردود الفعل الغربية الداعية إلى التحقيق في «الانتهاكات» مقابل تزايد الشعور بالنصر في روسيا، التي طغت فيها مقولات تؤكد هزيمة التيار الموالي للغرب في جورجيا، وأن الجورجيين اختاروا «الطريق الروسي».

يبدو أن نتائج الانتخابات ستدفع أكثر نحو تعاظم التأثير الخارجي على جورجيا من روسيا والغرب

وفي هذه الظروف، برزت تحركات رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، الذي يوصف بأنه «رجل بوتين في الاتحاد الأوروبي»، لتظهر مستوى امتداد المواجهة الروسية الغربية إلى جورجيا حالياً. فقد سارع أوربان إلى تهنئة الحزب الحاكم بـ«الفوز المقنع»، وتوجّه فوراً إلى تبليسي ليظهر دعمه الكامل. وبعكسه، دخل زيلينسكي على خط التوقعات المتشائمة بعد الانتخابات، فوجّه رسالة تحذيرية للغرب بأن خسارة جورجيا تعني «الهزيمة أمام الكرملين». إذ كتب الرئيس الأوكراني: «علينا أن نعترف بأن روسيا انتصرت اليوم في جورجيا. في البداية، استولوا على جورجيا، ثم غيّروا سياستها، وغيّروا الحكومة. والآن هناك حكومة مؤيدة لروسيا، وخيارها هو عدم الذهاب إلى الاتحاد الأوروبي. لقد غيّروا موقفهم. لقد فازت روسيا اليوم. سلبوا حرية جورجيا».

مولدوفا... المحطة التاليةفي حال لم تكن جورجيا كافية للغرب، يحذّر زيلينسكي من أن مولدوفا ستكون الاستحواذ التالي لروسيا، محذراً: «سترى أن روسيا تسير في الاتجاه ذاته. إنهم يريدون أن يفعلوا الشيء نفسه، وسيفعلونه إذا لم يوقفهم احد (...) الغرب يواصل التلويح بالخطوط الحمراء، لكنه لا يفعل شيئاً، وإذا استمر هذا الخطاب، فسيخسر مولدوفا خلال سنة أو سنتين».

ولكن، تعليقاً على هذه الكلمات، كتب المعلّق السياسي في وكالة أنباء «نوفوستي» أن «هذا يعني أن كييف تخيف الغرب الآن، ليس بالدبابات الروسية فقط في وارسو وبوخارست، بل بخسارة جورجيا ومولدوفا أيضاً». ويرى المحلل أن «روسيا لم تنتصر في جورجيا، ولم تُخضعها، بل انتصرت المصالح الوطنية والحسابات الرصينة في جورجيا. وبطبيعة الحال، ساعد الضعف العام للاتحاد الأوروبي والغرب كله، في الولايات المتحدة وأوروبا، إذ كانوا يرغبون في تغيير السلطة في تبليسي».

هذا السجال يظهر واقع الحال في ساحة المواجهة الجديدة بين روسيا والغرب، وسط توقعات بأن تكون الانتخابات البرلمانية الحالية حاسمة بالفعل لمستقبل جورجيا المنقسمة بين معارضة مؤيدة لأوروبا، وحزب حاكم موالٍ لروسيا... ومتهم بالانحراف نحو السلطوية. هذا، بينما تمارس موسكو تأثيراً على الناخبين والنتائج.

رأي تقرير أميركيعلى صعيد متصل، رأى تقرير لـ«معهد دراسة الحرب» في واشنطن، أن الكرملين ركّز جهوده للتأثير على الانتخابات لمساعدة حزب «الحلم» الحاكم على الفوز، وبالتالي إعادة تأسيس النفوذ الروسي على جورجيا بشكل كامل.

ويشير التقرير، في هذا السياق، إلى مخاوف حقيقية من تحوّل مؤسس حزب «الحلم» ورئيسه بيدزينا إيفانيشفيلي، إلى «لوكاشينكو جديد»، في إشارة إلى الرئيس البيلاروسي وحليف موسكو الأوثق ألكسندر لوكاشينكو.

ومن ثم، يلفت التقرير إلى أن موسكو استخدمت على مدى سنوات مجموعة من الوسائل للوصول على هذه النتيجة، أبرزها العمل العسكري المباشر من خلال احتلال أراضي أبخازيا وأوسيتيا الجورجيتين منذ عام 2008. كذلك، يدعي التقرير أن الكرملين استخدم وسائل الضغط الاقتصادي كرسوم الاستيراد المرتفعة والجمارك حتى العقوبات المباشرة على جيرانه الجورجيين لثنيهم عن مساعيهم بالانضمام للاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ما سبق ذكره، عمد الكرملين - وفقاً للتقرير - منذ شهور إلى إطلاق حملات إعلامية مباشرة في جورجيا، تصوّر روسيا على أنها قوة استقرار، وتروّج لفكرة أن الحكومة الجورجية المؤيدة لروسيا هي الخيار الأفضل لمستقبل جورجيا.

طبيعة جورجيا الجميلة (غيتي)

 

حقائق

جورجيا: استقلال مخضّب بالثورات والدماء

جورجيا كانت بجبالها الشاهقة وسواحلها على البحر الأسود تعد «لؤلؤة» الدولة السوفياتية في زمان مضى. وكانت منتجعاتها الساحرة تعد على مرّ العصور محطّ الأنظار، ومقرات الراحة والضيافة للقياصرة والزعماء، الذين تعاقبوا على مقعد الحكم في الكرملين.

نجحت هذه الجمهورية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في أن تخطو سريعاً، مثل جمهوريات حوض البلطيق، نحو بناء حكم جديد قضى على الفساد المستشري المزمن، وكرّس مبادئ تداول السلطة وبناء دولة حديثة. إلا أنها، رغم ذلك، ظلت حبيسة أقدار التاريخ والجغرافيا. ولم تصلح مظاهر السيادة والعلم والنشيد الوطني ومشاعر سكان الجبال التواقة إلى الاستقلال، في تجاوز حقيقة أن هذا البلد الصغير يشكل امتداداً طبيعياً لمنطقة النفوذ الروسي في جنوب القوقاز.

التطورات التي شهدتها جورجيا خلال تاريخ قصير من «الاستقلال» أظهرت صعوبة تخلص بلد صغير ومحدود الموارد من هيمنة «الأخ الأكبر». فالبلد الذي أعلن انفصاله عن الاتحاد السوفياتي قبل أشهر معدودة من إعلان الوفاة الرسمية للدولة العظمى في السابق، سرعان ما خاض حرباً أهلية دامية، قادت بعد سنوات إلى انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بدعم روسي. وتم تكريس أمر واقع جديد، عزّز وجود القوات الروسية في الإقليمين. ولم تمر سنوات قليلة بعد ذلك حتى جاءت «ثورة الزهور» التي أطاحت الرئيس الجورجي الأول، إوارد شيفارنادزه، ووضعت خططاً للتقارب مع الغرب.

هذه الأحداث، إلى جانب اتهامات بتورّط جورجيا في «حرب الشيشان الثانية»، أدت إلى تدهور حاد في العلاقات مع روسيا. وغذّى هذا النزاع أيضاً دعم ومساعدة روسيا المفتوحة لانفصال الإقليمين. ولم تنجح الاتفاقات التي أبرمها الطرفان في ظروف معقدة للغاية في تخفيف حدة التوتر، برغم التزام موسكو بتنفيذ بنود حول سحب القواعد العسكرية الروسية (التي يعود تاريخها إلى العهد السوفياتي) من محيط مدينتي باتومي وأخالكالاكي. إذ جاءت الحرب الروسية الجورجية صيف عام 2008 لتكرس اقتطاع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية نهائياً بعدما وصلت الدبابات الروسية إلى العاصمة تبليسي في غضون 3 أيام من المعارك الضارية، التي أجبرت الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي على الاستسلام بوساطة أوروبية، قضت بالقبول بالأمر الواقع الجديد من دون الاعتراف رسمياً باستقلال الإقليمين، اعترفت بهما روسيا وعدد محدود من حلفائها، في مقابل انسحاب القوات الروسية من الأراضي الجورجية.

هذه الخلفية مهّدت للمواقف الجورجية لاحقاً، لجهة دعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا. لكن في الوقت ذاته، برز تيار واسع داخل جورجيا حظي بدعم الكرملين، وطالب بالانكفاء عن «الحلم الأوروبي» وتعزيز الروابط مع الجارة الكبرى روسيا. وردّد أصحاب هذا التيار مقولة تعكس تنامي القلق من أن تلاقي جورجيا مصيراً مماثلاً لأوكرانيا في حال واصلت عنادها وتحديها لواقع الجغرافيا ودروس التاريخ.