صراع الذكاء الصناعي والذكاء البشري

عالم فرنسي يؤكد أهمية تكاملهما في العملية التعليمية

صراع الذكاء الصناعي والذكاء البشري
TT

صراع الذكاء الصناعي والذكاء البشري

صراع الذكاء الصناعي والذكاء البشري

بعد نشر مقاله الأول عام 2011 تحت عنوان «موت الموت... كيف يمكن للتقنية الدوائية إحداث ثورة في حياة البشرية» بدأ نجم ألكسندر لورون (Laurent Alexandre) في الظهور كأحد أهم الرواد والمحللين التكنولوجيين، لا سيما بعد تأكيده على إمكانية تجاوز الذكاء الصناعي القدرات البشرية، وكيف يمكن للعملية التعليمية مجابهة هذه الثورة الهائلة، الأمر الذي دفع لورون لأن يقتحم عالم الذكاء الصناعي والتحولات الكبرى المصاحبة له، التي تنعكس انعكاساً مباشراً على حياتنا اليومية، خصوصاً فيما يتعلق بمفهومنا وإدراكنا للعملية التعليمية.
يشير لورون إلى أن الذكاء الصناعي يتقدم بوتيرة أسرع من كل الخيارات المتقدمة، إذ إن سرعة تعلمه تتضاعف مائة مرة سنوياً، بينما تستغرق عملية تأهيل المهندس أو الطبيب 30 عاماً، فيما لا يستغرق الأمر سوى بضعة ساعات فقط للتدريب على الموضوعات نفسها من خلال الذكاء الصناعي. ومن وجهة نظر أخرى، فإن المدرسة التي لم يطرأ عليها أي تقدم منذ 250 عاماً على سبيل المثال، وتكتفي فقط بتعليم مهن محددة خلال فصل الشتاء، لا يمكن لها أن تشهد أي تطور حتمي، لأنه كان يجب عليها أن تتواكب مع عملية التقدم والتطور تماشياً مع الثورة الحتمية التي أحدثها الذكاء الصناعي في العملية التعليمية، ومن ثم في سوق العمل.
يوضح لورون كلَّ هذا في كتابه «حرب الذكاء الصناعي والذكاء البشري» الصادر مؤخراً عن دار النشر الفرنسية «جي سي لات» (JC Lattès).
ويكتسب الكتاب أهمية خاصة لأسباب عديدة، أبرزها يكمن في مدى أهمية الذكاء الصناعي في الحياة اليومية للفرد، وكذلك السبل والتدابير التي يجب أن نتخذها حتى تتمكن عقولنا البيولوجية من مجابهة ثورة الذكاء الصناعي، وكيف يمكن كذلك للتربية، غير الدارونية، (نسبة إلى دارون عالم الوراثة) أن تجد لها مكانة إلى جانب عقول أو أدمغة السليكون المنتشرة في الولايات المتحدة والصين.
إضافة إلى ذلك، يُشار إلى أن ألكسندر لورون جراح شهير، تخرج في واحدة من أعرق المدارس الفرنسية الطبية المتخصصة، وأنشأ شركات عديدة تعمل في مجال التكنولوجيا الطبية، كما يشغل اليوم منصب رئيس أحد أهم الكيانات الأوروبية في علم الوراثة. ويكتسب هذا الكتاب أيضاً بعداً آخر مهماً، نظراً لأن مؤلفه تعرض للسيناريوهات التي يجب على الإنسانية الاختيار فيما بينها، وهو اختيار صعب للغاية يكمن في «هل نقبل بالتطور الجيني الذي يُحدث انقلاباً وثورة في حياتنا اليومية؟ أم نظل مرتبطين بوضعنا الراهن ونحافظ على بشريتنا، ما يعني ضمنياً: هل نتقبل حظر ومنع الذكاء الصناعي العنيف الذي يفرض نفسه علينا بقوة أم لا»، الأمر الذي يمثل جوهر ولب الفكرة التي يسوقها لنا المؤلف عبر صفحات كتابه البالغة 250 صفحة من القطع المتوسط.
يرى المؤلف أن مرحلة الذكاء الصناعي قد بدأت بالفعل. ولذلك فإن البشرية أمام تحدٍ كبير، إما أن تقبل بهذا التحدي وتسير في ركبه وتتعامل معه، أو أن تتخلف عن ركب الثورة العلمية وتطوراتها المتلاحقة في هذا المجال الذي يشهد تطوراً مشهوداً على مدار الساعة. وكان علم الذكاء الصناعي، على مدى 15 عاماً، مُقتصراً على دائرة ضيقة من المتخصصين والباحثين فقط. ولم يكن هذا العلم يمثل للعوام سوى أنه ضرب من ضروب الخيال العلمي، حيث تدخل بعض الآلات في صراع وتنافس مع الإنسان البشري من وقت لآخر، ولكن لم يكن لأحد أن يتخيل أن الذكاء الصناعي يمكن أن يصبح فيما بعد علماً معاصراً، بعدما كان مقصوراً من ذي قبل على أفلام الخيال العلمي.
وكانت علوم البحث في الذكاء الصناعي قد بدأت على أرض الواقع، وبشكل رسمي، في صيف عام 1956 بعد مؤتمر «دارتموت كولدج» بالولايات المتحدة الأميركية، إذ اقتنع الباحثون والعلماء آنذاك بأن الوصول إلى عقول إلكترونية مساوية لعقول البشر قد أضحى وشيكاً، خصوصاً في ظل قناعة الكثيرين من العلماء بأن بعض الآلاف من خطوط الأكواد المعلوماتية قد سمحت بعد عشرين عاماً من العمل بالوصول إلى خلايا اصطناعية مساوية للخلايا المخية البشرية، أي ما يُشبه الكومبيوتر البسيط، الأمر الذي رفضه الكثيرون إلى أن ظهر الكومبيوتر البدائي عام 1975، وكان يمثل العقل البشري المعقد لدرجة أن الكثيرين لم يكونوا يتصورونه.
ثم توصل الباحثون عام 1970 إلى أن برنامج الذكاء الصناعي بحاجة ماسة إلى «ميكروبروسسور» دقيق للغاية وأكثر فاعلية مما لدينا، ليدخل العلماء بذلك في سباق محموم من الوعود غير الواقعية، بما في ذلك الرعاة الذين يتولونهم مالياً، سواء كانوا يمثلون القطاع العام أو الخاص، إلا أن الأمر انتهى بإقناعهم بأهمية التعاطي مع هذا التطور الجديد.
وفي البداية واجه الملف البحثي في مجال الذكاء الصناعي بعض الإشكاليات، خصوصاً فيما يتعلق بالشق التمويلي، ولكن بعد فترة من شتاء قارص جاء الربيع، فبداية من عام 1995، عادت أموال الرعاة والممولين تتدفق بشكل ملحوظ. وفي عام 1997 هزم الكومبيوتر بطل العالم في الشطرنج جاري كاس باروف، وفي عام 2011 هزم كذلك نظام الـ«IBM» المسمى بـ«واتسون» العنصر البشري في لعبة «جيباردي».
وبداية من عام 2015، أضحى بمقدور الذكاء الصناعي تحقيق تحليلات في أمراض السرطان في بضع دقائق فقط، وهي التحليلات التي كانت تأخذ في السابق حقباً زمنية عديدة.
لكن رغم هذا التطور، إلا أن البرامج المعلوماتية لم تكتسب الصفات الدقيقة للمخ، فأقوى وأفضل جهاز كومبيوتر لم يتمكن من الدخول في منافسة بسيطة مع الذكاء البشري، فالمخ هو الكومبيوتر البشري، ولكنه يتسم بالتعقيد الشديد، وله طبيعة مختلفة في دوائره المتنوعة، لأن العقل البشري له خصوصيته لما به من ملايين الأعصاب، فهو قادر على فهم المواقف غير المعلومة، وكذلك اختراع رد الفعل، والتصرف غير المتوقع، وأيضاً التأقلم مع المواقف المختلفة.
على ضوء ذلك، يوضح الكتاب أن الأمر يتطلب اختراع أو ابتكار طريقة تسمح للذكاء الصناعي بتسجيل خطى جديدة في اتجاه الذكاء البشري.


مقالات ذات صلة

ممداني... نسخة نيويوركية من بطل رواية الفرنسي ويلبيك؟

ثقافة وفنون ممداني... نسخة نيويوركية من بطل رواية الفرنسي ويلبيك؟

ممداني... نسخة نيويوركية من بطل رواية الفرنسي ويلبيك؟

لا أعلم إن كان عمدة مدينة نيويورك المنتخب حديثاً، زهران ممداني، قد قرأ رواية ميشيل ويلبيك «استسلام».

نجم والي
ثقافة وفنون البحث عن «عوليس» مجدداً

البحث عن «عوليس» مجدداً

في كتابه «لم يُعثر عليه» يترك الكاتب المصري محمد فرج لدى قارئه انطباعاً مبكراً بمصير رحلته البحثية مع بطله، حيث يأتي عنوانه مُشبعاً باليأس.

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب غاري إف. ماركوس

عصر «الفاشية التقنية» بدأ... لكنه لم ينتصر بعد

في عام 1922، عندما صعد موسوليني إلى السلطة في إيطاليا، كانت الفاشية تبدو لأوّل وهلة مشروعاً لاستعادة النظام بعد فوضى الحرب العالمية الأولى.

لطفية الدليمي
كتب القواميس... بنك اللغة وجسر تواصل الشعوب

القواميس... بنك اللغة وجسر تواصل الشعوب

صدر أخيراً كتاب «القاموسية: النشأة والتطور» للكاتبة المغربية الدكتورة ربيعة العربي، عن «مركز أبوظبي للغة العربية».

«الشرق الأوسط» (الدمام)
ثقافة وفنون «البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

فاز الروائي الفرنسي لوران موفينييه بجائزة الغونكور إحدى أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا عن روايته «البيت الفارغ» (دار نشر مينوي).

أنيسة مخالدي (باريس)

عصر «الفاشية التقنية» بدأ... لكنه لم ينتصر بعد

غاري إف. ماركوس
غاري إف. ماركوس
TT

عصر «الفاشية التقنية» بدأ... لكنه لم ينتصر بعد

غاري إف. ماركوس
غاري إف. ماركوس

في عام 1922، عندما صعد موسوليني إلى السلطة في إيطاليا، كانت الفاشية تبدو لأوّل وهلة مشروعاً لاستعادة النظام بعد فوضى الحرب العالمية الأولى؛ لكنها سرعان ما كشفت عن وجهها الحقيقي: سيطرة مطلقة باسم المصلحة العامة. اليوم، وبعد قرنٍ كامل، يعود السؤال ذاته بثوب جديد: هل نحن على أعتاب فاشية أخرى؛ «فاشية رقمية» تتغذّى من الخوارزميات والذكاء الاصطناعي؟

قد يبدو السؤال مبالغاً فيه؛ لكنّ نظرة واحدة إلى ما يحدث في «وادي السيليكون» تكفي لتولّد أعلى أشكال القلق. الشركات العملاقة، التي كانت تُبشّرُ بحرية الوصول إلى المعرفة إلى حدود تنشأ معها مشاعية معرفية مجانية، باتت هي ذاتها تتحكم في المعرفة؛ صناعةً ومناقلةً وترويجاً لما يرادُ وما لا يرادُ، والمنصّات التي رفعت شعار «تمكين الأفراد معرفياً» أصبحت تحدّدُ ما نقرأه، وما نعرفه؛ بل وحتى ما نعتقده.

في كتابه الأخير «ترويض وادي السيليكون (Taming Silicon Valley)»، المنشور أواخر عام 2024، يحذّر الباحث الأميركي غاري إف. ماركوس (Gary F. Marcus)، (وهو مختصٌّ في علم النفس واللغويات والذكاء الاصطناعي، ويعمل أستاذاً في جامعة نيويورك، وله كثير من الكتب المهمّة في هذه المجالات) من تبعات هذا الانجراف الهادئ نحو شكل جديد من السلطة... ليست سلطة عسكرية ولا آيديولوجية؛ بل «سلطة رقمية» تُمارَسُ من وراء الشاشات. يعتقدُ ماركوس أنّ الذكاء الاصطناعي - كما يُمارَسُ اليوم - لم يعُدْ محض علم أو أداة أو ثورة تقنية جديدة؛ بل صار نظاماً اجتماعياً واقتصادياً متكاملاً يصوغ سلوك البشر ويعيد تشكيل المؤسسات والمجتمعات. إنّه عصر نهضة جديدة بكلّ المقاييس والاعتبارات.

يؤكّدُ ماركوس في كتابه أنّنا نشهدُ اليوم انتقالة جذرية من «الفاشية الكلاسيكية» إلى «الفاشية التقنية (Techno-Fascism)». «الفاشية القديمة» كانت تعتمد على السيطرة المادية: الشرطة، والجيوش، والإعلام الموجّه، والخطابة. أما «الفاشية التقنية» فتعمل بطريقة أعلى أناقةً، وأشد خبثاً في الوقت ذاته. إنها لا تفرض عليك ما تفعل؛ بل تدفعك إلى فعله دون أن تدري.

حين تقترح عليك الخوارزمية ما «قد يعجبك»، فإنها في الحقيقة لا «تقترح»، بل توجّهك، وحين تجمع البيانات عنك لـ«تخصيص تجربتك»، فإنّها في الواقع تكتب سيرتك النفسية بدقةٍ تفوق ما تعرفه أنت عن نفسك. نحنُ نعيش لحظة مفارقة: لم يَعُد الإنسان يواجه الاستبداد في الشوارع؛ بل في جيبه: في هاتفه، في ساعته الذكية، وفي كومبيوتره اللوحي أو المحمول. الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرّد أداة للراحة أو الكفاءة؛ بل تحول إلى جهازٍ سياسي بامتياز: كلّما زادت قدرته على التنبؤ، زادت قدرة مالكيه على التحكّم فينا.

ماركوس يسمّي هذا الوضع «اختطاف المستقبل»؛ إذ يرى أنّ حفنة من الشركات - بقيادة أباطرة التقنية الرقمية: «غوغل»، و«ميتا»، و«مايكروسوفت»، و«أوبن إيه آي (Open AI)» - تمسك اليوم بالمفاتيح الجوهرية للمستقبل البشري على مستويات اللغة، والمعرفة، والقرار. هذه الشركات لا تمثّلُ «السوق الحرة» كما تدّعي؛ بل تمثلُ نوعاً من «الاحتكار العقلي العالمي». يصف ماركوس «الأباطرة الرقميين» بأنّهم «الفاشيون الجدد»: «نخبة الخوارزميات». ويمضي في الإيضاح بقوله إنّ «الفاشي القديم» كان يرفع شعارات القوة والوحدة القومية؛ أما «الفاشي الجديد» فهو يرتدي قميصاً رمادياً ويحمل بطاقة موظف في «وادي السيليكون»... إنه مبرمِج، أو مدير منتج، أو مستثمر مغامر؛ لكنّه في كلّ أشكاله الوظيفية يعتقد أنّه يصنع المستقبل؛ غير أنّه في الواقع يعيد صياغة الحاضر على صورته الخاصة.

يصف ماركوس «الأباطرة التقنيين» بأنّهم «الكهنة الجُدُد» الذين يملكون أسرار «الكود (Code)» والمعرفة التقنية... هم مَنْ يقرّرون شكل الذكاء الاصطناعي، والقيود المفروضة عليه، وما إذا كان يجب أن يخضع للرقابة أم لا. بهذا المعنى نحن أمام طبقة جديدة؛ طبقة من «الفاشيين التقنيين» الذين لا يحتاجون إلى رفع شعارات أو استعراض عضلات، يكفيهم أن يملكوا البنية التحتية الرقمية للعالم. يصف ماركوس الأمر بطريقة درامية مثيرة حينما يوردُ في كتابه أنّ «وادي السيليكون» استحال إلى ما يشبه «الفاتيكان الجديد للتقنية»: يملك العقيدة (الذكاء الاصطناعي)، والطقوس (الكود)، والمؤمنين (المُسْتَخْدِمين)، والقدّيسين الجُدُد (روّاد الأعمال)... لكنْ بخلاف الفاتيكان؛ لا يخضع أحدٌ فيه للمساءلة الأخلاقية.

ماركوس يرى أن هذه «اللامساءلة» هي جوهر الخطر؛ فحين تصبح الخوارزميات أذكى من البشر، ويُرفَعُ شعار «الثقة بالتقنية»، فمن ذا الذي بمستطاعه تقديم ضمانة مؤكّدة أو مقبولة بأنّ التقنية نفسها لا تنزلق إلى «فاشية خفية»؟

تعمل «الفاشية التقنية» بواسطة الوسائل التقنية الناعمة والأنيقة... ما يميّزُ «الفاشية التقنية» هو أنها لا تأتي بالبنادق، بل عبر «الواجهات الحاسوبية».

هي لا تمنعك من الكلام، بل تغرقك بالضجيج حتى لا تعود تعرف ما تقول.

هي فاشية لا تحتاج إلى الرعب، بل إلى الإدمان.

في هذا العالم تُصبح البيانات بديلاً للدم، والخوارزميات بديلاً للقوانين.

حين يقرر الذكاء الاصطناعي من يُوظَّفُ، ومن يُقصى، ومن يُراقَبُ، فإننا نعيش بالفعل شكلاً من أشكال «الحكم التقني (Technocracy)» الذي قد يتحول بسهولة إلى «فاشية» حين تُرفَعُ عنه الضوابط الأخلاقية والقانونية.

لعلّ من أهمّ ما ورد في كتاب ماركوس أنّه يقدّمُ قائمة من «12 خطراً فورياً» لـ«الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI)»: من نشرِ المعلومات المضلّلة، إلى فقدان السيطرة على المحتوى، ومن تشويه الحقيقة إلى الترويج لأنساق آيديولوجية مشخّصة دون سواها؛ لكن خلف هذه المخاطر التقنية يكمن خطر أعمق: تحويل «الإنسان» نفسه إلى «بيانات قابلة للمعالجة».

حين يُختزَلُ الوعيُ إلى خوارزمية، والمشاعرُ أنماطاً، والعلاقاتُ إلى إشعارات، نكون قد دخلنا فعلاً «عصر ما بعد الإنسان»؛ العصر الذي تكتب فيه الآلة ميثاق الإنسانية من جديد.

«الفاشية القديمة» كانت تعتمد على السيطرة المادية: الشرطة والجيوش والإعلام الموجّه والخطابة... أما «الفاشية التقنية» فتعمل بطريقة أعلى أناقةً وأشد خبثاً

> عنوان كتاب ماركوس «ترويض وادي السيليكون» يبدو أقرب إلى صيحة استغاثة، منه إلى اقتراح أكاديمي. إنه يدعو إلى استعادة السلطة الأخلاقية من أيدي الشركات التقنية عبر سياسات واضحة للشفافية والمساءلة وحقوق البيانات. الأهمّ من ذلك أنه يدعو إلى وعي جماعي؛ فالتقنية لا تُروَّضُ بالقوانين وحدها، بل بوعي الناس الذين يستخدمونها. المسألة ليست حرباً بين البشر والآلات؛ بل بين مجتمعات بشرية تؤمن بالإنسان، ونُخب تقنية تؤمن بالفائقية التقنية حدّ جعلها الآيديولوجيا الحاكمة للعصر المقبل. ماركوس يذكّرُنا بأنّ السؤال لم يَعُدْ: «هل يمكننا تطوير ذكاء يفوق البشر؟»، بل: «هل يمكننا تطويرُ ذكاء يخدم البشر؟». «الفاشية التقنية» تبدأ حين نخلط بين الذكاء والسلطة، وبين الكفاءة والعدالة، وبين المعلومة والحقيقة.

> نحن عند خطّ الشروع فقط، ولم نشهد تغوّل عصر «الفاشية التقنية» بعدُ. يؤكّدُ ماركوس أنّ الذين يظنون أننا في منتصف الطريق يخطئون التقدير: نحن في البداية فقط. «الفاشية التقنية» ليست مشروعاً معلناً، بل تحوّل زاحف يحدث بصمت. كل تحديث جديد؛ كل تطبيقٍ «مجاني»، كل ميزة «مخصصة لك»، إنّما هي خطوة صغيرة في طريق بناء نظام شامل من المراقبة والضبط الناعم في «إمبراطورية الفاشية التقنية».

> لكنّ هذا المستقبل ليس قدَراً محتوماً لا مفرّ من مواجهته... يكتب ماركوس في خاتمة كتابه: «لم يزلْ لدينا خيار. يمكننا أن نعيد رسم العلاقة بين التقنية والمجتمع، شريطة أن نعترف أولاً بأننا فقدنا السيطرة». ترويض «وادي السيليكون» لا يعني كراهية التقنية، بل تحريرها من عبادة السوق، وألا تتحول القيم إلى كُود، وألا يتحول الإنسان إلى متغيرٍ في معادلة إحصائية.

> «الخوارزميات الحاسوبية» في عصرنا هذا هي التي تُسيّر العقول. نعم، قد لا نسمع خطاباً فاشياً صاخباً؛ لكننا نعيش ضمن نظامٍ يحدّد ما نراه وما نفكّرُ فيه وما نرغب به. «الفاشية التقنية» ليست ضجيجاً، بل صمتٌ منظمٌّ ومبرمَج. مقاومة هذا الشكل الجديد من السيطرة لا تكون بالهروب من التقنية، بل بفهمها، وتملكها، ومساءلتها. علينا أن نتذكّر أنّ كل خوارزمية كتبها إنسانٌ يمكن تغييرها. لكن أول خطوة في المقاومة هي الاعتراف بالحقيقة: «عصر الفاشية التقنية» قد بدأ؛ لكنه لم ينتصر بعد.


القواميس... بنك اللغة وجسر تواصل الشعوب

القواميس... بنك اللغة وجسر تواصل الشعوب
TT

القواميس... بنك اللغة وجسر تواصل الشعوب

القواميس... بنك اللغة وجسر تواصل الشعوب

صدر أخيراً كتاب «القاموسية: النشأة والتطور» للكاتبة المغربية الدكتورة ربيعة العربي، عن «مركز أبوظبي للغة العربية».

ويتناول الكتاب الفارق بين «القاموس» و«المعجم» ودور وأهمية كلٍّ منهما، والاستفادة من القواميس القديمة للحضارات والأمم المختلفة، في عملية الصناعة القاموسية، التي تُعد مورداً مهماً من موارد اللغة والثقافة، وتحافظ على هوية الشعوب من خلال توثيق مفردات اللغة واللهجات وطرق النطق، ودلالة المفردات، كما تُعد وسيلة للتواصل بين الشعوب.

يقع الكتاب في أربعة فصول، يحمل الفصل الأول عنوان «أوليات منهجية»، وتستعرض فيه الكاتبة تعريف القاموسية، والفرق بين القاموسية التطبيقية والنظرية، وبين القاموس والمعجم، وعلاقة القاموسية ببعض العلوم الأخرى.

أما الفصل الثاني فيأتي بعنوان «القاموسية في الحضارات القديمة»، تتبع من خلاله المؤلفة مسار الصناعة القاموسية في الحضارات القديمة.

وجاء الفصل الثالث بعنوان «القاموسية العربية والعبرية»، وتعرض فيه الكاتبة لتاريخ القواميس العربية والعبرية وأشهر القواميس.

وفي الفصل الرابع بعنوان «القاموسية الغربية»، تذكر الباحثة أن الصناعة القاموسية الغربية، تجاوزت الدور التقليدي المنوط بها، والمتمثل في جمع الثروة اللغوية وتصنيفها وفق قواعد معيارية، إلى الإسهام في توسيع النطاق الجغرافي للغات، وذلك بالتركيز على الجانب التعليمي الذي استهدفت به أساساً المتعلم الأجنبي.

مسار تاريخي

ويسرد الكتاب التطورات والتغيرات النوعية، سواء في التصور أو المنهج، التي واكب مسارها التاريخي ظهور مجموعة من القواميس التي اختلفت خواصها وطرائق جمعها للمادة وتبويبها، والمعايير التي ارتكزت عليها، وذلك باختلاف مقاصدها ووظائفها.

ووجدت الصناعة القاموسية - على اختلاف مقاصدها والدواعي التي بلورتها وحددت مساراتها - بداياتها في قوائم محدودة من الكلمات، وكانت هذه القوائم البذرة الأولى لتشكُّل القواميس. وهذا المعطى المحدد نجده متواتراً في مختلف الحضارات وعند مختلف الأمم والشعوب، وهو ما يدعو إلى استنتاج أن البدايات التأسيسية واحدة، وإن اختلف الزمان والمكان. ولئن كانت البدايات واحدة، فإن الغايات قد تعددت وتفرعت ما بين غاية دينية، وغاية فلسفية، وغاية أدبية. غير أن المؤطر لكل هذه الغايات أن جميع الحضارات قد صرفت اهتمامها إلى جمع ألفاظها باعتماد معيارين محددين نراهما يحضران بنسب متفاوتة في القواميس كلها. هذان المعياران هما: معيار الكم، ومعيار الكيف. وإذا كان الدافع وراء تبني المعيار الأول هو الإلمام باللغة، وحشد جميع ألفاظها، فإن الدافع وراء المعيار الثاني هو تنقية اللغة من الشوائب، وحصر الألفاظ الفصيحة والراقية، وترك المهمل منها والمستهجن.

وتأسست «المعجمية» قديماً بوصفها فرعاً من اللسانيات، وهي تعني علم الكلمة، وتفسير كل ما يتعلق بمعرفة الكلمات، وتهتم بالمادة والقيمة والأصل، ويعرفها البعض بأنها «فرع من فروع علم اللغة يقوم بدراسة وتحليل مفردات أي لغة بالإضافة إلى دراسة معناها أو دلالتها المعجمية بوجهٍ خاص وتصنيف هذه الألفاظ استعداداً لعمل المعجم، وهو علم نظري يدرس المعنى المعجمي وما يتصل به من قضايا دلالية».

وحسب الكتاب، تنقسم المعجمية إلى قسمين: «المعجمية العامة»، التي تهتم بدراسة المفردات بصرف النظر عن المظاهر الخاصة لأي لغة من اللغات. و«المعجمية الخاصة»، التي تهتم بلغة خاصة، وذلك بدراسة مفرداتها ووحداتها، وطبيعة المفردات في مرحلة زمنية محددة، وأصل المفردات وما يطرأ عليها من تغيرات، فهي تعد معجمية تاريخية ومعجمية مقارنة.

القواميس الصينية

حسب الباحثة المغربية، عرف الصينيون القواميس منذ 200 ق.م، ويُعد «إريا» أقدم قاموس، وقد شكل النواة المركزية للصناعة القاموسية الصينية، وبعده ظهرت عدة قواميس منها: قاموس شوفان عام 150 ق.م، وقاموس شيزو عام 9 ق.م، وقاموس يوبيان عام 530م.

وقد أسهم انتشار المسيحية خلال القرن السادس عشر في انتشار الثقافة الصينية، وخاصة في البلدان المجاورة مثل كوريا واليابان وفيتنام، مما أدى إلى انتشار القواميس الصينية الثنائية اللغة (القواميس الصينية الحديثة)، فظهرت قواميس تجمع بين الصينية والإنجليزية، والصينية واللاتينية، والصينية والهندية. وقد تميزت القواميس في تلك المرحلة بالتركيز على اللغة المنطوقة والعناية بالكلمات المعجمية، وظهور قواميس منظمة وفقاً للترتيب الألفبائي، مما أدى إلى ارتفاع عدد القواميس الصينية بشكل كبير، والاعتراف بالقواميس بوصفها مجالاً أكاديمياً، وتأسيس الجمعية الصينية للكتابة المعجمية. وتعددت أنماطها.

القواميس الهندية

تعود القواميس الهندية لأكثر من ألفي سنة، غير أن أقدم ما وصل إلينا من القواميس الهندية يعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وكان المحرك الأساسي لها هو الباعث الديني؛ إذ نشطت الحركة القاموسية عند الهنود حول الكتاب المقدس «الفيدا»، وقد اتخذت في بدايتها شكل قوائم تضم الألفاظ الصعبة الواردة في «الفيدا» مع إيراد شروحات لها.

واستندت القواميس إلى ترتيب الكلمات وفق معانيها وليس إلى الترتيب الألفبائي، وكانت تراعي في ترتيب الكلمات الحقول المعرفية التي تنتمي إليها كعلم الفلك والرياضيات والطب وغيرها.

القواميس الفارسية

يعتبر أهم قاموس فارسي وصل إلينا هو قاموس لغة الفرس، الذي ألفه أبو منصور السعدي، ورتبت فيه المداخل تبعاً للحرف الأخير لمساعدة الشعراء في إيجاد القافية المناسبة، وقدمت مرفقة بأبيات شعرية، وبه أبواب كتبت باللغة العربية مثل باب الألف والباء والتاء، واستمرت صناعة القاموسية الفارسية، ومن أهمها قاموس «برهان القاطع» الذي ألفه محمد حسن التبريزي عام 1724م.

ومرت مرحلة الصناعة القاموسية الفارسية بعدة مراحل منها: مرحلة ما قبل العهد المغولي، حيث اتسمت القواميس في تلك المرحلة بتركيزها على الشعر الفارسي، وذلك بعد تحول اللغة الفارسية إلى لغة البلاط والأدب. ومرحلة العهد المغولي، ومنها قاموس مجمع اللغات لأبي الفضل العلامي، واتجه هذا النوع من القواميس إلى جمع المفردات أو التعابير الصعبة الواردة في شعر شاعر أو كاتب معين. ومرحلة العهد الجديد، وظهرت القواميس الثنائية التي تجمع اللغة الفارسية واللغة العربية.

القاموسية العربية

تذكر الباحثة في الفصل الثالث أن الاهتمام بالصناعة القاموسية العربية بدأ في القرن الأول الهجري، وكانت الغاية الدينية هي المحددة لنشأتها، وشكل الاهتمام بغريب القرآن البذرة الأولى التي قادت السعي إلى جمع الألفاظ الغريبة الواردة فيه، وتدقيق دلالاتها إلى جانب الاستشهاد لها بالشعر الجاهلي، للتدليل على أنها من كلام العرب، ويرجح أن أول كتاب صنف في غريب القرآن كان من تأليف عبد الله بن عباس عام 68 هجرياً، والبعض يرجح أنه أبو سعد أبان بن تغلب عام 141 هجرياً.

وقد مرت الصناعة القاموسية العربية بثلاث مراحل هي: جمع الكلمات في شكل مسارد أي في قوائم دون ترتيب، ثم جمع الكلمات تبعاً للموضوعات، ومرحلة جمع الكلمات تبعاً لترتيب مخصوص، وكانت تهدف لجمع ألفاظ اللغة العربية وتبويبها. وقد ظهرت القواميس الحديثة في القرن الثامن عشر، مثل المعجم الوسيط، وقاموس «الغني الزاهر» لعبد الغني أبو العزم.

القواميس العبرية

تأثرت القواميس العبرية بالقواميس العربية، فسارت على منحاها من حيث طرائق الترتيب وصيغ التناول، وتعود أصولها إلى العصور الوسطى، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأصول القاموسية العربية، لدرجة أنه لا يمكن فصلها عنها. فقد كان الإسلام في تلك العصور في أوج ذروته، ومكن من الانفتاح الثقافي والعلمي في كل الاتجاهات؛ لذلك كان من الطبيعي أن يجعل اليهود من اللغة العربية وسيلة للمحافظة على تراثهم، حيث كتبت قواميسهم بلغة عربية وبحروف عبرية مع الاستشهاد بالشعر العربي وأقوال النحاة والفلاسفة العرب، بل إنهم ذهبوا إلى حد الاستشهاد بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.


فوز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بجائزة بوكر عن روايته «فلِش»

الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)
الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)
TT

فوز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بجائزة بوكر عن روايته «فلِش»

الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)
الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي بعيد نيله جائزة بوكر البريطانية (أ.ب)

فاز الكاتب البريطاني المجري ديفيد سالوي الاثنين بجائزة بوكر البريطانية المرموقة التي تكافئ الأعمال الروائية المكتوبة باللغة الإنكليزية، عن روايته «فلِش».

وتفوق سالوي (52 عاما) على الروائية الهندية كيران ديساي التي فازت بالجائزة عام 2006 والبريطاني أندرو ميلر، ليحصل على الجائزة البالغة قيمتها 50 ألف جنيه استرليني (65500 دولار) والتي أعلنت في حفلة بلندن. ومن بين الروائيين الستة الذين تأهلوا الروائية الأميركية وراقصة الباليه السابقة كاتي كيتامورا وبن ماركوفيتس وسوزان تشوي.

وكان سالوي رشِح سابقا للقائمة القصيرة للجائزة عام 2016 عن عمله «آل ذات مان إز». وتدور رواية «فلِش»، وهي السادسة لسالوي، حول رجل مجري من الطبقة العاملة ينتقل من الخدمة العسكرية في وطنه إلى العمل مع أثرى الأثرياء في لندن. وتشمل حياته المعذبة علاقاته بنساء أكبر منه سنا والقتال في العراق.

وتضمنت لجنة التحكيم رئيسها والفائز السابق بالجائزة رودي دويل والممثلة سارة جيسيكا باركر بطلة مسلسل «سكس أند ذي سيتي».