{ليلة المعاطف الرئاسية}... رواية {كابوسية» مطعّمة بالسخرية السوداء

الخطف والقتل والترويع في عراق ما بعد 2003 برواية أولى للأخرس

{ليلة المعاطف الرئاسية}... رواية {كابوسية» مطعّمة بالسخرية السوداء
TT

{ليلة المعاطف الرئاسية}... رواية {كابوسية» مطعّمة بالسخرية السوداء

{ليلة المعاطف الرئاسية}... رواية {كابوسية» مطعّمة بالسخرية السوداء

صدرت عن «دار الحكمة» بلندن رواية «ليلة المعاطف الرئاسية» للكاتب محمد غازي الأخرس، وهي باكورة أعماله الروائية التي تتمحور ثيمتها الرئيسية حول الخطف والقتل والترويع غبّ سقوط النظام الديكتاتوري السابق ومجيء السلطة الجديدة التي أذكت الصراعات والفتن الطائفية وهيّجت رواسب الماضي السحيق، ودفعت بعض العراقيين إلى حافة التوحش، فلا غرابة أن يطلق بعض النقّاد توصيف «الأدب الوحشي» أو «الكابوسي» أو «السوداوي» على كثير من الروايات المعاصرة مثل «مَشْرحة بغداد» لبرهان شاوي، و«قَتَلة» لضياء الخالدي، و«فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي... وسواها من الروايات العراقية التي رصدت العنف الطائفي منذ 2003 وحتى الوقت الحاضر.
ولا تشذ «ليلة المعاطف الرئاسية» عن التوصيفات الثلاثة أعلاه، لكنها تنفرد بالقسوة المضاعفة، والأجواء الغريبة الناجمة عن تماهي الواقع الدموي المُفجع، بالخيال الفانتازي المُجنّح.
تقوم الرواية برمتها على حدثين متوازيين؛ الأول يستدرج فيه الجنرال «كوكز» ضحيته التي يسمّيها الروائي أولاً «القارئ» ثم «القارئ - الكاتب» لاحقاً، ويصطحبه معه، رغم اعتراض زوجته، في دبّابته برحلة ليلية طويلة تبدأ من شارع «القناة» وتنتهي بمعسكر أميركي في شارع «المطار». فيما يبدأ الحدث الثاني عندما يذهب المدير «عوّاد»، في رابع أيام عيد الأضحى لاستعادة أبنائه الثلاثة المُختطَفين، ويموت، من الخوف ربما، إثر مناوشة بين جنود أميركيين وجماعة مسلّحة، ثم نكتشف تباعاً أن أولاده الثلاثة قد قُتلوا بدمٍ بارد وكدّسهم السائق في المقعد الخلفي، بينما ينحشر الضحية الخامسة «حيدوري» في صندوق السيارة التي يقودها أحد تلامذة المدير السابقين. وفي السياق ذاته؛ يتم اختطاف زوج «زينب»، ابنة المدير «عوّاد»، لكنه يتدارك نفسه بدفع فدية كبيرة ويهاجر إلى الدنمارك مباشرة على أمل لمّ شمل العائلة لاحقاً.
لا يستغرق الحدثان الروائيان أكثر من ليلة ونصف نهار قادم، لكن زمنهما الواقعي يمتد إلى ثمانينات القرن الماضي واندلاع الحرب العراقية - الإيرانية وما خلّفته من آثار وخيمة على طبيعة المجتمع العراقي الذي أنجب في خاتمة المطاف شخصيات معطوبة ذهنياً كتلك التي نراها تتحرك على مدار النص الروائي الذي تفوح منه رائحة الدم والموت والخراب. أما الشخصيات فهي كثيرة ولا تقتصر على أبطال الحدَثين المُشار إليهما سلفاً، فهناك شخصيات تتوالد ضمن النسقين السرديين للرواية، لكنها سرعان ما تتلاشى أو تكتفي بأدوار هامشية تساهم في تأثيث المتن السردي، مثل «سالم نعيم»، و«خلدون سامي الشمّاع»، و«شلومو إسحاق»، و«حجي دنيّن»، و«العريف المظلي» الذي نُقل إلى الملحقية العسكرية في نيودلهي وتعرّف إلى فتاة هندوسية ثم هرب معها إلى كشمير ليصبح أثراً بعد عين.
يكشف الحدث الأول عن خلفية عائلة «عوّاد عبد اللطيف الموحان»، مدير «مدرسة البواسل الابتدائية»، وأولاده الثلاثة «صباح» و«صبري» و«ليث» الذين لقوا مصرعهم على أيدي الخاطفين، كما نتعرف على زوجته «رباب» وابنته «زينب» التي كانت تتواصل مع أبيها عبر الهاتف الجوال قبل أن يفارق الحياة في تلك الليلة المشؤومة. أما البنات الأربع فكنّ مجرد رقم ضمن السياق السردي للرواية.
في حين يعرّي الحدث الثاني شخصيات أخرى أكثر أهمية في تفعيل الجانب الدرامي للنص الروائي؛ أبرزها الجنرال كوكز، و«القارئ - الكاتب»، والشاعرة والباحثة السوسيوكولوجية علياء مطر، المُلقبة «الخاتون» التي تكتب عن الخوف الإنساني وفقاً لمفاتيح ألفريد أدلر وفرضية الشعور بالنقص، وقد أنجزت أطروحة الدكتوراه المعنونة «المقاييس السوسيوكولوجية الثابتة لنمط الشخصية العراقية الشجاعة» ونالت عنها درجة الامتياز، وحظيت باهتمام «الرئيس» الذي قلّدها وساماً رفيعاً، وأغدق عليها لقب «أدلر العراقية».
أشرنا إلى أن ثيمات هذه الرواية متعددة؛ كالخطف، والقتل، والاحتراب الطائفي، لكن الثيمة الأبرز التي تهيمن على النسق السردي هي ثيمة «الخوف» التي تستدعي دراسة الشخصية الجبانة، والوقوف على أسباب ذعرها وهلعها من الموت. فالفكرة التي قدَحها «العريف المظلي» في القوات الخاصة بتشكيل «فوج الانتصار على الخوف» ستتفرع إلى هيئات، وفرق طبية خاصة بفحص جثث الجبناء والمتخاذلين لاستخلاص المعادلات التشريحية، والتوصل إلى آخر مستجدات نظرية الجينوم البشري التي هرّب أبحاثها طالب ألباني إلى روسيا لكن المخابرات الأميركية سرقت نتائجها، ثم وصلت إلى أيدي الصرب والأتراك قبل أن تقع في أيدي المخابرات العراقية الناشطة في أوروبا لتجد طريقها مباشرة إلى مكتب الرئيس. لم تُضمّن «الخاتون» أطروحتها نتائج البحث التي توصلت إليها، لذلك ظلت المعادلة لُغزاً سرّبته الشاعرة إلى القصائد، والقصائد موجودة في ديوان، والديوان مخبأ في خِزانة مُقفلة لا يمكن فتحها إلاّ بشفرة سرّية مؤلفة من عشرين رقماً. وعلى «القارئ - الكاتب» الذي خطفه الجنرال أن يؤول هذه القصائد ويكتشف المعادلة التشريحية.
تبدو شخصية «القارئ - الكاتب» غامضة ومثيرة في الوقت ذاته، فقد ورث الخوف عن جده «ساطع مدهوش»، لكنه تفوّق في دراسته الجامعية، وحصل على امتياز عن أطروحة دراسته العليا التي تناولت «أثر الخوف في استمرار الحرب في العراق... دراسة سوسيوكولوجية» والتي أشرفت عليها الدكتورة «علياء مطر»، لكنه وقع في حبها فخفّف قليلاً من فضاء الرواية الكابوسية التي يتداركها المؤلف بين آونة وأخرى بالسخرية السوداء، والمواقف الطريفة، والمفاجآت المدروسة التي تكسر الإيقاع السوداوي القاتم. لم يكن «القارئ - الكاتب» جباناً كما أُشيع عنه، فقد انتقم لمقتل والده الذي أعدمه الرائد «حمدان خالد شلش» في الخط الخلفي لجبهة العزير.
تحتاج خاتمة الرواية إلى فكّ الاشتباك، ففي ظهيرة اليوم الثاني يجد «الكاتب» مخطوطة سميكة ذات غلاف أزرق عنوانها: «ليلة المعاطف الرئاسية» لكنها تخلو من اسم المؤلف، وفيها ظرف مفتوح يضم نحو عشرين قصيدة مكتوبة بحروف واضحة ورشيقة بخلاف الرواية المكتوبة بخط مرتبك وضعيف. وحينما استفسر عنها من الخيّاط الستيني أجابه من فوره بأنه عثر عليها في جيب معطف كان يتدثر به أحد القتلى، وحينما دلّه على قبر القتيل قرأ الشاهدة المكتوب بقلم «الماجك»: «هنا يرقد القارئ... هنا يرقد الكاتب»! عاد «الكاتب» بالمخطوطة فوجد الجنرال متأهباً في دبابته وهو يذكّر ضحيته قائلاً: «كما وعدتك لم تستغرق المهمة سوى ساعات... هيّا بنا».
لا شك في أن أحداث الرواية أوسع من هذه الدراسة النقدية المُقتضَبة التي اقتصرت على البنية المتوازية للحدثين اللذّين انطلقا في ليلة واحدة وانتهيا عند «المعسكر - المقبرة» في ظهيرة اليوم التالي من دون أن نتوقف عند «العلاسين»، والمخطوفين الآخرين، والمعدومين أمام عوائلهم وذويهم، أو القتلى الذين تحوّلوا إلى كائنات عجائبية «لا هي إنسيّة ولا جنية، لا وحشيّة ولا أليفة»، موضوعات كثيرة استمد بعضها من التاريخ القريب، مثل قصة «كوكز راهي شنّون» الذي سُمّي باسم الضابط البريطاني «كوكس» الذي كان يغنّي مع «فضيلة» فضربه «عون» بمحراث التنّور وظنوا أنه مات فدفنوه، لكن «فضيلة» أنقذته ولم يعد إليهم أبداً.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.