صراع الصلاحيات يفتح الجدل مجدداً على «الطائف»

TT

صراع الصلاحيات يفتح الجدل مجدداً على «الطائف»

جنحت النقاشات والسجالات السياسية في لبنان والتي كانت تتمحور حول عملية تشكيل الحكومة المتعثرة منذ أكثر من مائة يوم، باتجاه صراع على صلاحيات رئاستي الجمهورية والحكومة، ما دفع تلقائيا الفرقاء لوضع اتفاق «الطائف» مجددا على طاولة البحث، من خلال حث قسم منهم على وجوب الالتزام بما ورد به حرفيا وبالتحديد بما يتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية بعملية تأليف الحكومة، وتنبيه قسم آخر من أن القفز فوقه قد يؤدي لإعادة النظر بالنظام السياسي القائم ككل وبالتالي بمبدأ المناصفة ما بين المسلمين والمسيحيين.
وإن كانت كل القوى السياسية تؤكد، أقله بالعلن، تمسكها بهذا الاتفاق، يعود النقاش بإمكانية تعديله أو صياغة نظام جديد عند كل أزمة سياسية تمر بها البلاد، وآخرها الشغور الرئاسي الذي استمر عامين ونصف، وحاليا الأزمة الحكومية. وارتفعت بعض الأصوات مؤخرا التي تنبه من السعي للعودة إلى «زمن المارونية السياسية» بإشارة إلى مرحلة ما قبل «الطائف» حين كانت السلطات الإجرائية بين يدي رئيس الجمهورية، وهو ما أشار إليه مؤخرا وزير الدولة لشؤون النازحين في حكومة تصريف الأعمال معين المرعبي، معتبرا أن «التيار الوطني الحر» ورئيسه وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل ومن خلفه رئيس الجمهورية ميشال عون، «يحاولان إعادتنا إلى زمن المارونية السياسية»، ذاهبا أبعد من ذلك بالدعوة إلى إلغاء المناصفة (بين المسلمين والمسيحيين في السلطة) وتطبيق الديمقراطية العددية.
وبدا موقف المرعبي الذي أكد أنه يعبر عن رأيه الشخصي وليس عن موقف تيار «المستقبل» قريبا مما أدلى القيادي في التيار الذي يرأسه رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، مصطفى علوش، الذي نبه مؤخرا من أن «إصرار التيار الوطني الحر على الثلث المعطل وبالتالي على حكومة لا تخدم سوى سياسته ومشاريعه وتطلعاته، سيؤدي حكما إلى تصاعد الأصوات المطالبة بإعادة النظر بالنظام اللبناني ومن ضمنه مسألة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين».
وقبل «اتفاق الطائف» الذي تم توقيعه في العام 1989 ووضع حدا للحرب الأهلية، كان رئيس الجمهورية وبحسب الدستور اللبناني، هو الذي يعين الوزراء ويسمي من بينهم رئيسا للحكومة، لكن التعديلات التي أقرت في العام 1989 قلصت صلاحياته ووضعت السلطات الإجرائية بين يدي مجلس الوزراء مجتمعا، كما جعلت رئيس البلاد شريكا للرئيس المكلف في عملية تشكيل الحكومة، لا مقررا، إذ نصت المادة 53 من الدستور على أن «يُصدر رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة المكلف مرسوم تشكيل الحكومة بعد أن يكون الأخير قدم تشكيلة حكومية، يحق لرئيس الجمهورية رفضها أو قبولها، على أن يصدر مرسوم أي حكومة مذيلا بتوقيعي الرئيسين».
ويعتبر الوزير السابق البروفسور إبراهيم نجار أن «من يتابع مسار ومواقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون منذ «اتفاق الطائف» حتى اليوم، يُدرك بأنه سعى دوما للتميز من خلال رفضه الرضوخ للتعديلات الجوهرية التي أتت بالاتفاق»، لافتا في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الرئيس عون «يحاول اليوم أن يستعيد صلاحيات مفقودة من خلال استخدام ما تبقى له من صلاحيات بطريقة تؤدي للاستفادة منها بعملية تشكيل الحكومة».
ولا يوافق رئيس منظمة «جوستيسيا» الحقوقية الدكتور بول مرقص، على ما ذهب إليه البروفسور نجار، إذ يشدد على أن ما يقوم به رئيس الجمهورية اليوم هو «ممارسة صلاحياته المقلصة بعد الطائف كاملة، وهو ما لم يقم به ربما من سبقوه إلى سدة الرئاسة بعد «الطائف»، فقلصوا ممارسة الصلاحيات المقلصة أصلا». ويعتبر مرقص في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه «ليس بين يدي الرئيس حاليا أسلحة دستورية بوجه الرئيس المكلف إلا الضغط السياسي والمعنوي لتقديم صيغ حكومية جديدة»، لافتا إلى أن «رؤساء الجمهورية قبل الطائف لم يكونوا أصلا يطبقون صلاحياتهم الموسعة بشكل كامل وتام، لأنهم كانوا يراعون إلى حد بعيد التوازنات الوطنية وبشكل خاص تمثيل الطائفة السنية».
ويتفق نجار ومرقص على أن إعادة النظر بـ«اتفاق الطائف» غير ممكنة، فيعتبر الأول أن هذا الاتفاق «تاريخي»، «وقد لحظ الديمقراطية التعددية بديلا عن الديمقراطية العددية، لكن ذلك لا يعني سعي البعض لـ«تغطية السماوات بالقبوات»، فرغم إصرارنا وتمسكنا بالمناصفة إلا أن ذلك لا يتوجب أن يتحول إلى ما يشبه استفزاز الآخر». أما الثاني فينبه من أن «البحث بنظام سياسي جديد سيفتح شهية أكثر من طرف للدفع باتجاه إقرار تعديلات دستورية تحلو له، أضف أننا قد نفتح هذا الباب لكننا على الأرجح لن نكون قادرين على إغلاقه، مع التذكير بأن كل حرف من اتفاق «الطائف» كلف قطرات كثيرة من الدم والحروب والمآسي». ويضيف مرقص: «المشكلة أصلا ليست بالنصوص إنما في النفوس، وهو ما يحصل حين يتناوب بعض الفرقاء على اتخاذ الدستور رهينة من خلال لعبة التعطيل لفرض مكاسب سياسية معينة».



الحوثيون يكثفون انتهاكاتهم بحق الأكاديميين في الجامعات

فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)
فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)
TT

الحوثيون يكثفون انتهاكاتهم بحق الأكاديميين في الجامعات

فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)
فعالية حوثية داخل جامعة صنعاء تضامناً مع «حزب الله» (إعلام حوثي)

كثّفت الجماعة الحوثية استهدافها مدرسي الجامعات والأكاديميين المقيمين في مناطق سيطرتها بحملات جديدة، وألزمتهم بحضور دورات تعبوية وزيارات أضرحة القتلى من قادتها، والمشاركة في وقفات تنظمها ضد الغرب وإسرائيل، بالتزامن مع الكشف عن انتهاكات خطيرة طالتهم خلال فترة الانقلاب والحرب، ومساعٍ حثيثة لكثير منهم إلى الهجرة.

وذكرت مصادر أكاديمية في العاصمة اليمنية المختطفة صنعاء لـ«الشرق الأوسط» أن مدرسي الجامعات العامة والخاصة والموظفين في تلك الجامعات يخضعون خلال الأسابيع الماضية لممارسات متنوعة؛ يُجبرون خلالها على المشاركة في أنشطة خاصة بالجماعة على حساب مهامهم الأكاديمية والتدريس، وتحت مبرر مواجهة ما تسميه «العدوان الغربي والإسرائيلي»، ومناصرة فلسطينيي غزة.

وتُلوّح الجماعة بمعاقبة مَن يتهرّب أو يتخلّف من الأكاديميين في الجامعات العمومية، عن المشاركة في تلك الفعاليات بالفصل من وظائفهم، وإيقاف مستحقاتهم المالية، في حين يتم تهديد الجامعات الخاصة بإجراءات عقابية مختلفة، منها الغرامات والإغلاق، في حال عدم مشاركة مدرسيها وموظفيها في تلك الفعاليات.

أكاديميون في جامعة صنعاء يشاركون في تدريبات عسكرية أخضعهم لها الحوثيون (إعلام حوثي)

وتأتي هذه الإجراءات متزامنة مع إجراءات شبيهة يتعرّض لها الطلاب الذين يجبرون على حضور دورات تدريبية قتالية، والمشاركة في عروض عسكرية ضمن مساعي الجماعة لاستغلال الحرب الإسرائيلية على غزة لتجنيد مقاتلين تابعين لها.

انتهاكات مروّعة

وكان تقرير حقوقي قد كشف عن «انتهاكات خطيرة» طالت عشرات الأكاديميين والمعلمين اليمنيين خلال الأعوام العشرة الماضية.

وأوضح التقرير الذي أصدرته «بوابة التقاضي الاستراتيجي»، التابعة للمجلس العربي، بالتعاون مع الهيئة الوطنية للأسرى والمختطفين، قبل أسبوع تقريباً، وغطّي الفترة من مايو (أيار) 2015، وحتى أغسطس (آب) الماضي، أن 1304 وقائع انتهاك طالت الأكاديميين والمعلمين في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية التي اتهمها باختطافهم وتعقبهم، ضمن ما سمّاها بـ«سياسة تستهدف القضاء على الفئات المؤثرة في المجتمع اليمني وتعطيل العملية التعليمية».

أنشطة الجماعة الحوثية في الجامعات طغت على الأنشطة الأكاديمية والعلمية (إكس)

ووثّق التقرير حالتي وفاة تحت التعذيب في سجون الجماعة، وأكثر من 20 حالة إخفاء قسري، منوهاً بأن من بين المستهدفين وزراء ومستشارين حكوميين ونقابيين ورؤساء جامعات، ومرجعيات علمية وثقافية ذات تأثير كبير في المجتمع اليمني.

وتضمن التقرير تحليلاً قانونياً لمجموعة من الوثائق، بما في ذلك تفاصيل جلسات التحقيق ووقائع التعذيب.

ووفق تصنيف التقرير للانتهاكات، فإن الجماعة الحوثية نفّذت 1046 حالة اختطاف بحق مؤثرين، وعرضت 124 منهم للتعذيب، وأخضعت اثنين من الأكاديميين و26 من المعلمين لمحاكمات سياسية.

وتشمل الانتهاكات التي رصدها التقرير، الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب الجسدي والنفسي والمحاكمات الصورية وأحكام الإعدام.

عشرات الأكاديميين لجأوا إلى طلب الهجرة بسبب سياسات الإقصاء الحوثية وقطع الرواتب (إكس)

وسبق أن كشف تقرير تحليلي لأوضاع الأكاديميين اليمنيين عن زيادة في طلبات العلماء والباحثين الجامعيين للهجرة خارج البلاد، بعد تدهور الظروف المعيشية، واستمرار توقف رواتبهم، والانتهاكات التي تطال الحرية الأكاديمية.

وطبقاً للتقرير الصادر عن معهد التعليم الدولي، ارتفعت أعداد الطلبات المقدمة من باحثين وأكاديميين يمنيين لصندوق إنقاذ العلماء، في حين تجري محاولات لاستكشاف الطرق التي يمكن لقطاع التعليم الدولي من خلالها مساعدة وتغيير حياة من تبقى منهم في البلاد إلى الأفضل.

إقبال على الهجرة

يؤكد المعهد الدولي أن اليمن كان مصدر غالبية الطلبات التي تلقّاها صندوق إنقاذ العلماء في السنوات الخمس الماضية، وتم دعم أكثر من ثلثي العلماء اليمنيين داخل المنطقة العربية وفي الدول المجاورة، بمنحة قدرها 25 ألف دولار لتسهيل وظائف مؤقتة.

قادة حوثيون يتجولون في جامعة صنعاء (إعلام حوثي)

لكن تحديات التنقل المتعلقة بالتأشيرات وتكلفة المعيشة والاختلافات اللغوية الأكاديمية والثقافية تحد من منح الفرص للأكاديميين اليمنيين في أميركا الشمالية وأوروبا، مقابل توفر هذه الفرص في مصر والأردن وشمال العراق، وهو ما يفضله كثير منهم؛ لأن ذلك يسمح لهم بالبقاء قريباً من عائلاتهم وأقاربهم.

وخلص التقرير إلى أن العمل الأكاديمي والبحثي داخل البلاد «يواجه عراقيل سياسية وتقييداً للحريات ونقصاً في الوصول إلى الإنترنت، ما يجعلهم يعيشون فيما يُشبه العزلة».

وأبدى أكاديمي في جامعة صنعاء رغبته في البحث عن منافذ أخرى قائمة ومستمرة، خصوصاً مع انقطاع الرواتب وضآلة ما يتلقاه الأستاذ الجامعي من مبالغ، منها أجور ساعات تدريس محاضرات لا تفي بالاحتياجات الأساسية، فضلاً عن ارتفاع الإيجارات.

إجبار الأكاديميين اليمنيين على المشاركة في الأنشطة الحوثية تسبب في تراجع العملية التعليمية (إكس)

وقال الأكاديمي الذي طلب من «الشرق الأوسط» التحفظ على بياناته خوفاً على سلامته، إن الهجرة ليست غاية بقدر ما هي بحث عن وظيفة أكاديمية بديلة للوضع المأساوي المعاش.

ويقدر الأكاديمي أن تأثير هذه الأوضاع أدّى إلى تدهور العملية التعليمية في الجامعات اليمنية بنسبة تتجاوز نصف الأداء في بعض الأقسام العلمية، وثلثه في أقسام أخرى، ما أتاح المجال لإحلال كوادر غير مؤهلة تأهيلاً عالياً، وتتبع الجماعة الحوثية التي لم تتوقف مساعيها الحثيثة للهيمنة على الجامعات ومصادرة قرارها، وصياغة محتوى مناهجها وفقاً لرؤية أحادية، خصوصاً في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

وفي حين فقدت جامعة صنعاء -على سبيل المثال- دورها التنويري في المجتمع، ومكانتها بصفتها مؤسسة تعليمية، تُشجع على النقد والتفكير العقلاني، تحسّر الأكاديمي اليمني لغياب مساعي المنظمات الدولية في تبني حلول لأعضاء هيئة التدريس، سواء في استيعابهم في مجالات أو مشروعات علمية، متمنياً ألا يكون تخصيص المساعدات لمواجهة المتطلبات الحياتية للأكاديميين غير مشروط أو مجاني، وبما لا يمس كرامتهم.