خمسون عاماً من احتجاجات الرياضيين

قبل انفجار قنبلتي كتاب روبرت وودورد «خوف» ومقالة الرأي في صحيفة «نيويورك تايمز» اللتين وصفتا البيت الأبيض «ببلدة الجنون» وأشارتا إلى وجود «مقاومة» بين كبار الموظفين في الإدارة الأميركية تحبط قرارات الرئيس دونالد ترمب، كان لاعب كرة القدم الأميركية كولن كيبرنك في عين عاصفة سياسية أعادت التذكير بعمق المشكلات التي تواجهها الولايات المتحدة والتي تشكل سلسلة من حلقات متداخلة ومتماسكة.
ملخص مسألة كيبرنك أنه أطلق قبل عامين تفاعلا متسلسلا انتقل من الملاعب إلى وسائل الإعلام فالأوساط السياسية والثقافية عندما ظل في أغسطس (آب) 2016 على مقعده أثناء عزف النشيد الوطني الأميركي. في المرة الأولى قيل إن اللاعب يعاني من إصابة تحد من حركته، لكن في المرات التالية عندما انتقل إلى صفوف اللاعبين المشاركين في المباريات، ركع كيبرنك على ركبة واحدة أثناء عزف النشيد ثم قال إنه فعل ذلك لاعتراضه على التمييز الذي يعاني منه الأميركيون الأفارقة وعلى انتشار جثث هؤلاء في الشوارع فيما يحصل قتلتهم من رجال الشرطة على إجازات مدفوعة. كانت أحداث بلدة فرغسون ما زالت طازجة والغضب من ممارسات عناصر الشرطة ضد المواطنين السود في ذروته.
على هذا الدرب سار بعض من أشهر رياضيي اللعبة الأكثر شعبية في الولايات المتحدة مما جعل الأمر يتخذ بُعداً سياسياً صريحاً وسط عشرات التقارير التلفزيونية ومقالات الرأي في الصحف. وزاد من حدة الاستقطاب بين مؤيد لسلوك الرياضيين وبين مندد به باعتباره إظهاراً لعدم الاحترام للعلم والنشيد والوطن، تدخل الرئيس ترمب بعدد من التغريدات النارية الداعية إلى طرد اللاعبين الذين لا يقفون للنشيد من فرقهم.
المشكلة تحولت إلى فضيحة وطنية، في نظر المحافظين، عندما قررت شركة الملابس والأدوات الرياضية «نايكي» التي ترعى كيبرنك منذ 2011، جعله رمز حملتها الدعائية في الذكرى الثلاثين لتأسيسها (أو بالأحرى لإعادة إطلاقها)، متبنية شعارا يشدد على «الإيمان بأمر ما، حتى لو أدى ذلك إلى خسارة كل شيء» بحسب ما يقول ملصق الدعاية التي تبرز وجه اللاعب الشهير محدقا في العدسة، ما رأى فيه اليمين الأميركي انتهاكا للقيم التي يجب أن تجمع المواطنين، في حين أبدى عدد من أسر قتلى القوات المسلحة استياء وصل إلى حد إحراق منتجات الشركة احتجاجا على استفزاز مشاعرهم.
كيبرنك كان قد حصل في أبريل (نيسان) الماضي على جائزة «سفير الضمير» الرفيعة من منظمة «العفو الدولية» (آمنستي إنترناشيونال) لينتقل الانقسام حول اللاعب وما قام به هو ونظراؤه الرياضيون إلى مستوى أعلى من التوتر. ولم تغفل وسائل الإعلام عن ربط ظاهرة الركوع على ركبة واحدة بما كان قد حصل في أولمبياد المكسيك في 1968 عندما رفع لاعبان أفريقيان أميركيان قضيتهما عاليا أثناء عزف نشيد بلدهما أثناء تقليدهما ميداليتين لفوزهما في مباراة في الركض.
اشتعلت الولايات المتحدة غضبا يومها واتهم اللاعبان بتأييد «القوة السوداء» ومنظمة «الفهود السود» فيما كانت البلاد تشهد موجة من الاضطرابات على خلفية قمع حركة الحقوق المدنية للسود واغتيال القس مارتن لوثر كينغ. شيء مشابه حصل بعد فترة وجيزة عندما امتنع الملاكم محمد علي كلاي عن أداء خدمته العسكرية في فيتنام مما أدى إلى تجريده من ألقابه وسحب جواز سفره منه.
هذا هو الجانب الأميركي، إذا جاز التعبير، من قضية لاعب كرة القدم الأميركية كولن كيبرنك التي تبدو وشائجها ممتدة في الماضي إلى خمسين عاما، من ملاعب أولمبياد المكسيك وصولا إلى حملة «نايكي» الدعائية حيث يظهر التداخل بين ما يجري على الملاعب وبين الانقسامات السياسية والإثنية في الوقت الذي لا يغيب عن المشهد من يسعى إلى جني الأرباح من كل ذلك بدعوى مساندة الحق في التعبير والاعتراض على التمييز العنصري. خمسون عاما هي المدة التي كان فيها نضال الأميركيين الأفارقة يحظى باهتمام عام وهو ما لا يزيد عن رأس جبل الجليد من كفاح مرير في سبيل المساواة والكرامة.
ثمة جانب آخر يتناول دور الشركات الكبرى في الاستفادة من الجدالات السياسية والاجتماعية والسعي الدائم إلى تقديم نفسها كمساندة للقيم العليا حتى وإن بدا أنها لا تتفق مع جزء وازن من المزاج العام. لكن الدفاع عن هذه القيم يتوقف عند فتح ملفات تشغيل الأطفال واستغلالهم لجني الأرباح من العمالة الرخيصة وغير المحمية.