«أُنشودة حُب»... رواية رومانسية بحُلّة تاريخية

لندن: عدنان حسين أحمد
لندن: عدنان حسين أحمد
TT

«أُنشودة حُب»... رواية رومانسية بحُلّة تاريخية

لندن: عدنان حسين أحمد
لندن: عدنان حسين أحمد

بدلاً من أن تبقى الروائية خولة الرومي في الحاضر أو تذهب إلى المستقبل، عادت بنا إلى الماضي البعيد في روايتها الجديدة «أُنشودة حُب» الصادرة عن دار الحكمة بلندن، وهي الرواية الرابعة في رصيدها السردي بعد «رقصة الرمال»، «الصمت حين يلهو» و«آدم عبرَ الأزمان». وحين تعود الكاتبة أكثر من اثني عشر قرناً إلى الوراء فلا بد أن تنطوي هذه العودة على رسالة ما تريد إيصالها إلى القارئ المعاصر، خصوصا أن التاريخ يعيد نفسه بأشكال وتمظهرات جديدة. تُرى، ما الرسالة التي تنطوي عليها هذه الرواية الرومانسية في مظهرها، والتاريخية في جوهرها؟ هل أن الروائية معنية بالحُب، والقصص العاطفية فقط، أم أنها تذهب أبعد من ذلك لتحذِّرنا من البرامكة الجُدد، وتلفت انتباهنا إلى الدسائس الماكرة، والمكائد الخبيثة التي يدبِّرونها في ليل؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذه الدراسة النقدية التي تفحص الرواية لغة وبناءً وشخصيات.
تقوم هذه الرواية على ثلاث قصص حُب رئيسية، ومكيدة سياسية واحدة تُجهض في مهدها. وبما أنّ الخونة والأتباع الأذلاء يتناسلون أيضاً فإن المخاطر تظل مُحدقة بالوطنيين الأحرار الذين يحبون أوطانهم، ويضحون بالغالي والنفيس من أجلها كما فعل نور بن غسّان الأفضل الهاشمي الذي طُعنَ بيدٍ فارسية غيلة لكنه ظل حياً فينا ولن يموت إلى الأبد.
لا تتأخر خولة الرومي في زجّ القارئ بقلب الحدث وهو خطوبة هِبة بنت محمود العدناني، قاضي البصرة إلى نور بن غسان الأفضل الهاشمي، صاحب خَراج الخليفة هارون الرشيد، غير أن هذه الزيجة كانت صفقة تجارية لإنقاذ والده من الإفلاس. ومما زاد الطين بلّة أنّ نوراً كان مرتبطاً بقريبته ياسمين لكن هذا الارتباط لم يكن حُباً حقيقياً، وإنما هو شهوة جنسية عابرة. ومع ذلك فقد شكّلت الرومي مثلث الزوج والزوجة والعشيقة. فالزوجة تريد الحفاظ على زوجها، فيما تحاول العشيقة الإيقاع بينهما بواسطة المكائد والتهم الباطلة التي تتكشّف تباعاً وتقودها إلى محاولة انتحار فاشلة حيث تلقي بنفسها من السفينة إلى نهر دجلة لكن نوراً ينقذها من غرق مُحقق. وإذا كانت مكيدة ياسمين الأولى قد أوصلتهما إلى الشِجار والزعل فإن المكيدة الثانية قد أوصلتهما إلى الطلاق الفعلي وعودة هبة إلى أهلها في البصرة.
أما القصة الثانية فهي بين ريم، شقيقة هبة وعمّار الذي يحمل وزر أبيه سنان، التاجر البخيل والجشع الذي استغل حاجة أحد التجار وطلب منه أن يزوِّجه ابنته الصغيرة ذات العشر سنوات مقابل إسقاط الديون التي لم يستطع سدادها، وحينما دخل على الطفلة ماتت تحت وطأة جسده الثقيل.
رغم كثرة الأخطاء اللغوية والإملائية التي ترتكبها خولة الرومي إلاّ أنها تنجح في تأثيث النص الروائي بعناصره الأساسية المتمثلة بالثيمة الرئيسية، وبناء الشخصيات، وحبكة الرواية ضمن هندسة معمارية تشي بأن الكاتبة تخطط لكل شيء قبل الشروع فيه، وأن الأمور لا تجري على عواهنها، وأن الشيء الوحيد الذي ينقصها هو أن تعرض مخطوطة الرواية إلى مصحح لغوي يقوّم الأخطاء التي تربك القارئ وتؤرقه.
وبما أن القصة الثالثة تحدث في بلاد فارس فسوف نؤجلها قليلاً كي نتتبع السياق السردي للأحداث التي تقع بوتيرة متصاعدة تنقلنا هذه المرة إلى قصر الخلافة فنتعرّف أكثر على هارون الرشيد، وزوجته السيدة زبيدة، وبعض وزرائه المقرّبين وخاصة جعفر البرمكي الذي كان يشجع رؤساء الأقاليم على الانفصال من دولة الخلافة الإسلامية التي كانت تعيش عصرها الذهبي آنذاك.
وكعادته، كان هارون الرشيد يستأنس بآراء مستشاريه، ولا يُسلّم مُتآمراً إلى الجلاد قبل أن يقطع الشك باليقين، ولهذا وقع اختياره على نور بن غسان لأنه ذكي جداً، وسريع البديهة، ويعرف اللغة الفارسية وبإمكانه أن يتيقّن من المكيدة التي تُحاك في خراسان ورؤوسها في بغداد. وقد اصطحب معه العبد سعيد الذي يجيد هو الآخر اللغة الفارسية. حينما غادر نور إلى بلاد فارس كان يختبر مشاعره تجاه خطيبته هبة التي يعتقد أنها على علاقة بشخص آخر لأنها خرجت متنكرة، هي وشقيقتها، إلى السوق بزي الغلمان بينما كان هدفها الرئيسي هو لقاء مريم بحبيبها عمّار.
طوال طريقه من بغداد إلى أصفهان مرّ نور بمواقف كثيرة أبرزها لقاؤه بالفرسان الثلاثة إبراهيم وكَوران وهرمز الذين ادعوا بأنهم تجّار من أصفهان، أما هو فقد تخفّى باسم ساطع بن المنذر، أحد تجار بغداد وهو في طريقه لزيارة أخواله في أصفهان بحجة أنّ أمه فارسية، لكنه لم يخفِ مهنته كطبيب. أمّا سعيد فقد لاذَ باسم يوسف. وعندما اقترب نور وتابعه من مشارف أصفهان شاهد فتاة متنكرة بزي صبي فعرف أنها بوران، ابنة قارون الوحيدة التي يحبها سيروان حسام الدين رغم أنها مخطوبة لابن عمها جوهر الطامع بأموالها وثرواتها غير أن عنادها وإصرارها يفضيان بها إلى الزواج من سيروان بمساعدة نور الذي أشرف على علاجها إثر الصدمة الكبيرة التي تعرضت لها بعد أن اكتشفهما الوالد وهما يتطارحان الغرام في عقر داره. يتدخل وجهاء أصفهان في طلب يدها لسيروان فيوافق بعد أن يعوِّض ابن أخيه جوهر بالمال والضياع اللذين يضمنان مستقبله. أما نور فيتأكد من المؤامرة التي اشترك قارون وبعض أتباعه الذين يحلمون باستعادة أمجاد الأمة الفارسية والانفصال عن دولة الخلافة الإسلامية. فيتابع نور الرسول طهماز النهاوندي ويشتبك مع فرسانه الأربعة ويقوده أسيراً إلى بغداد التي يصل إليها في صبيحة شتائية باردة.
تتكشف هنا خيوط الحبكة الروائية، فالرَّقّ الذي يحتوي على أختام الموقِّعين كان خُلوّاً من نص البيعة فانتبه نور إلى شَعر الرسول القصير وأمر بحلقه فتبيّن أن النص موشوم على رأسه وحينما قرأه الخليفة أصدر حكمه العادل بجعفر البرمكي وتصفية بقية البرامكة الذين لا يتوقفون عن الدسائس والمؤامرات.
كما يتأكد نور من أن الرسالة التي زرعت في قلبه الشك ليست لِهِبة كما ادّعت ياسمين وإنما هي موجّهة من حبيبها عمّار إلى شقيقتها ريم يبثها لواعجه وشكواه، فيمتطي نور جواده ويلحق بها كي يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح. وحينما يصل يكتشف أن قُطّاع الطرق قد هاجموها وأصابها أحدهم بسهم في كتفها. وظل يعالجها حتى تماثلت للشفاء. ثم يعقد قرانهما من جديد فتحْمل مولودها الأول لكن العيون الفارسية مندسة في غالبية المدن العراقية حيث حاول أحدهم طعنه لكن بلالا أنقذه، وفي قصر السمر ببغداد تعرّض نور إلى طعنة أخرى ليفارق الحياة لكنه ظل حياً في أرواح العراقيين النجباء.
أشرنا إلى ضعف اللغة، وقوة الحبكة الروائية، ولم يبقَ أمامنا سوى الإشارة إلى مهارة خولة الرومي في بناء الشخصيات وخاصة المتنكرة منها التي اختبأت وراء ملابس الفتيان مثل هبة وريم أو التي لاذت بأسماء أخرى مثل نور وسعيد حيث منحوا النص الروائي نكهة مغايرة وجعلوه أشبه بالغابة المتشابكة المليئة بالمفاجآت. لا يمكن التغافل عن سلاسة النسق السردي المشوِّق وهي تحرِّك شخصياتها بين بغداد وأصفهان والبصرة وتتركنا نتعرف إليهم وهم يروون قصصهم الجميلة والمؤسية التي تذكِّرنا بحكايات «ألف ليلة وليلة».



الروائية الكندية مرغريت آتوود تطرح أسئلة الساعة

مارغريت أتوود
مارغريت أتوود
TT

الروائية الكندية مرغريت آتوود تطرح أسئلة الساعة

مارغريت أتوود
مارغريت أتوود

يعرفها الكثيرون من خلال المسلسل التلفزيوني المأخوذ من روايتها المسماة «حكاية الخادمة» (1985). ويعرفها قراء الأدب كاتبة غزيرة الإنتاج لها أكثر من خمسين كتاباً ما بين روايات ومجموعات قصصية ودواوين شعرية وأدب أطفال وكتابات نقدية.

من هذا النوع الأخير كتاب مرجريت آتوود المسمى «أسئلة الساعة: مقالات ونصوص من وحي مناسبات 2004-2022»

Margaret Atwood، Burning Questions: 2004-2022 وهو صادر عن دار «فينتاج» للنشر في 2023.

ما أسئلة الساعة التي تطرحها آتوود هنا؟ إنها حقوق الإنسان، والحركة النسوية، والأدب والبيئة، وصعود نجم دونالد ترمب، والقصة القوطية، والصراعات على مصادر الطاقة، وكوارث العصر من مجاعات وحرائق وفيضانات. ثم هي تخرج عن هذا النطاق لتكتب عن عدد من الأدباء: وليم شكسبير، وتشارلز ديكنز، ودوريس ليسنج، وأليس مونرو، وراي براد بري، وستفن كنج وغيرهم.

وتتساءل آتوود في مقدمة الكتاب: «لماذا اخترت أن أسميه (أسئلة الساعة)؟». وتجيب: «لأنه يعالج قضايا ملحة في اللحظة الراهنة، جذورها ضاربة في الماضي ولكنها ستؤثر في المستقبل». وأول هذه الأسئلة هي مستقبل كوكبنا الأرضي. وهناك مشكلات الديمقراطية، وتوزيع الثروة، وثورة الاتصالات في العصر الرقمي، ووظيفة الكاتب في القرن الحادي والعشرين، وجائحة الكوفيد.

من مقالات الكتاب مقالة مؤرخة في 2014 موضوعها الروائي وكاتب اليوميات التشيكي فرانز كافكا. تسجل آتوود ثلاث لحظات في تاريخ علاقتها بهذا الأديب المعذب صاحب «المحاكمة» و«القلعة» و«أميركا» و«المسخ». كانت المحطة الأولى كتابتها في سن الـ19 مقالة عن كافكا أبرزت فيها علاقته برموز السلطة (وأولها أبوه في البيت)، وشعوره بالضعف والذنب وانعدام الحيلة إزاء لغز الوجود، وغربته العرقية واللغوية؛ إذ كان يهودياً يكتب باللغة الألمانية في مدينة براغ الناطقة باللغة التشيكية.

والمحطة الثانية هي زيارة آتوود - مع أسرتها - لمدينة براغ في 1984، ووقوفها أمام قلعة المدينة القائمة على تل عالٍ، فتتذكر قلعة كافكا وقلاعاً أخرى كتلك التي نلتقي بها في أقصوصة «قناع الموت الأحمر» لإدجار آلان بو، ورواية «آيفانهو» للسير ولتر سكوت، ورواية «دراكيولا» لبرام ستوكر.

والمحطة الثالثة كانت في تسعينات القرن الماضي، بعد سقوط النظام الشيوعي، حين زارت براغ مرة أخرى فوجدتها مدينة مرحة تلمع بالأضواء وقد تحولت قلعتها المرهوبة إلى مزار سياحي، وراحت فرقة موسيقية تنشد أغنية «سنوهوايت والأقزام السبعة» من فيلم ولت دزني، والمحال تزخر بالهدايا والتذكارات. وراحت آتوود تتجول مع زوجها في كل الشوارع والأماكن التي عاش فيها كافكا أو تردد عليها.

وثمة مقالة مؤرخة في 2020 عن رواية «نحن» (1921-1920) للروائي الروسي يفجيني زامياتين وهي من أهم روايات القرن العشرين التي ترسم صورة مخيفة لعالم كابوسي في المستقبل، شأنها في ذلك شان رواية «عالم جديد جميل» لأولدس هكسلي، ورواية «ألف وتسعمائة وأربع وثمانون» لجورج أورويل، ورواية «حكاية الخادمة» لآتوود ذاتها. لقد تعرفت آتوود على رواية الكاتب الروسي في وقت متأخر - في أواخر تسعينات القرن الماضي - قبل أن تكتب روايتها الخاصة.

وحين قرأتها دهشت لقدرة زامياتين على التنبؤ فقد كتب عن معسكرات الاعتقال، والتجسس على أخفى أفكار الناس ومشاعرهم، وسحق الفرد، وإقامة الحواجز والأسوار، والمحاكمات الصورية قبل أن يجعل هتلر وستالين من هذه الأمور حقائق على الأرض. ورواية زامياتين رد على الطوباويات المتفائلة كتلك التي كتبها في القرن التاسع عشر الأديب الإنجليزي وليم موريس وآخرون ممن انبهروا بالتقدم العلمي والتكنولوجي فظنوه قادراً، بعصاً سحرية، على إسعاد البشرية وحل مشكلاتها والتخفيف من آلامها.

ليس هذا الكتاب أول عمل لآتوود في مجال النقد الأدبي

وفي 2020 تكتب آتوود عن رواية للأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار كتبت في 1954، ولكنها لم تظهر إلا بعد وفاة بوفوار وذلك جزئياً لأن جان بول سارتر - شريك دي بوفوار في الفكر والحياة - لم يجدها جديرة بالنشر. عنوان الرواية «دون انفصال» وهي عن صداقة لا تنفصم عراها بين شابتين متمردتين. وتتخذ آتوود من صدور هذه الرواية مناسبة للتعبير عن رأيها في دي بوفوار والوجوديين عموماً. لقد وجدت في كتاب الأديبة الفرنسية المعنون «الجنس الثاني» ما ترتضيه وما ترفضه. وكانت على وعي بفارق السن والظروف بين دي بوفوار وبينها. هناك فارق الأجيال (دي بوفوار ولدت في 1908 بينما ولدت آتوود في 1939). وعلى حين عاصرت دي بوفوار حربين عالميتين، ورأت وطنها يقع تحت الاحتلال الألماني، فإن آتوود عاشت في كندا التي لم تُحتل ولم تُقصف بالقنابل.

وترى آتوود أن رواية «دون انفصال» جديرة بالقراءة، خلافاً لما ارتآه سارتر، وعندها أن خير كتابات دي بوفوار هي التي تسجل طفولتها وصباها وشبابها والحياة الفكرية في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها.

ليس هذا الكتاب أول عمل لآتوود في مجال النقد الأدبي، فقد سبق لها أن حررت كتاب مختارات من الشعر الكندي المكتوب باللغة الإنجليزية (1983)، وأخرجت كتاباً مثيراً للجدل عن الأدب الكندي، عنوانه «البقاء» (1972)، وكتاباً آخر عنوانه «تفاوض مع الموتى: كاتبة تتحدث عن الكتابة» (2002). وهي بصدور هذا الكتاب الجديد تؤكد مكانتها واحدة من ألمع الناقدات النساء في عصرنا، شأنها في ذلك شأن كويني ليفيس (زوجة الناقد الإنجليزي ف. ر. ليفيس)، وديانا تريلنج (زوجة الناقد الأمريكي لايونل تريلنج)، وماري مكارثي (زوجة الناقد الأمريكي إدموند ويلسون)، وسوزان سونتاج.

وقد جمعت هاتان الأخيرتان - مثل آتوود - بين الإبداع الروائي وكتابة النقد الأدبي ومراجعات الكتب. ولهذا النوع من كتابات المبدعات الناقدات أهمية مزدوجة؛ فهي من ناحية تلقي الضوء على الأدباء الذين تكتب آتوود عنهم. ومن ناحية أخرى تلقي الضوء على آتوود ذاتها؛ إذ توضح همومها الفكرية، ومشكلاتها التكنيكية، وتطور فنها، والمؤثرات التي دخلت في تكوينها الذهني والوجداني.