شغلت استقالة وزير البيئة نيكولا هولو «المفاجئة» وعلى الهواء مباشرة الطبقة السياسية الفرنسية حكومة ومعارضة، أحزابا وجمعيات، فضلا عن الوسائل الإعلامية والتواصل الاجتماعي بمختلف تلاوينها. وسبب هذا الضجيج غير المنقطع مربوط بشخصية الوزير المستقيل الذي كان يرفض باستمرار ربطة العنق ويصر على أنه من خارج «النظام». ذلك أن هولو ليس شخصية سياسية عادية. فهذا الرجل المولود في العام 1955 تنقل في كثير من المهن قبل أن تستهويه السياسة. بدأ مساره المهني صحافيا في إذاعة «فرانس إنتر» ليتحول بعدها إلى الشاشة الصغيرة حيث تعرف عليه الجمهور الفرنسي منتجا ومقدما لبرنامج شهير اسمه «أوشوايا»، ما كشف عن نزعاته البيئوية ودفاعه عن الطبيعة. ونيكولا هولو، أكثر الشخصيات العامة شعبية في فرنسا، حمل الريشة ثم الكاميرا وتحول إلى كاتب ومخرج سينمائي فرجل أعمال.
ومما حقّقه إطلاق مؤسسة تسمى «مؤسسة نيكولا هولو للطبيعة والإنسان». وكان من الطبيعي أن يكون هولو رائدا للدعوة البيئوية في فرنسا وأن ينتمي إلى حزب «الخضر». ونزولا عند دعوات عارمة لخوض غمار السياسة، سعى لخوض غمار المعركة الرئاسية في العام 2007، إلا أنه تراجع عن ذلك عندما تبين له أن المرشحين المتنافسين كافة قبلوا التوقيع على «ميثاق البيئة» الذي طرحه للنقاش العام. ومجددا، حاول في العام 2011 أن يحوز على ترشيح حزب الخضر ليخوض المغامرة الرئاسية باسمه، إلا أنه خسر الرهان ما جعله يرفض لاحقا، في العام 2016 أن يستجيب لدعوات الذين حثوه وهم كثر على النزول مرة أخرى إلى ميدان المعركة الرئاسية. الأمر الذي رفضه. قد يكون الرفض إحدى سمات الوزير المستقيل. فخلال 3 عهود، رفض هولو المنصب الوزاري رغم إلحاح الرئيس جاك شيراك ثم من بعده الرئيسان نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولند، إلا أنه في ربيع العام الماضي قبل عرض الرئيس الشاب إيمانويل ماكرون الذي سلمه وزارة البيئة وأعطاه مرتبة وزير دولة أي الشخصية الثانية في الحكومة بعد رئيسها. لكن السبب الحقيقي لقبوله أنه «آمن» ببرنامج ماكرون البيئوي وبوعوده، معتبرا أنه سيكون من خلال منصبه الجديد قادرا على الدفاع عن أفكاره وتحقيق مشروعاته وطموحاته وأبرزها خفض اعتماد فرنسا على الطاقة النووية في إنتاج الطاقة الكهربائية وتحريم التفتيش عن النفط في الأراضي الفرنسية والتخلي عن استخدام الفحم الحجري والمحافظة على البيئة واحترام التزامات «قمة المناخ» التي استضافتها باريس نهاية العام 2016.
ثمة إجماع لدى المتابعين للشأن السياسي الداخلي في فرنسا أن استقالة هولو كانت «طبيعية ومنتظرة». والوزير السابق نفسه لم يكن يخفي «إغواء» الاستقالة. إلا أنه، لدى كل «تجربة»، كان يتراجع عنها في اللحظات الأخيرة ليعطي نفسه مهلة جديدة من أجل اختبار جدية العهد والحكومة بالسير في خططه البيئوية التي لم يتحقق منها إلا النذر اليسير. وفي حديثه إلى إذاعة «فرانس أنتير» صباح الثلاثاء، برر هولو عدم إبلاغ رئيسي الجمهورية والحكومة بعزمه على الاستقالة وفق ما يقتضيه العرف والبروتوكول بأنه «تحاشى» أن ينجحا مجددا في ثنيه عن تحقيق أمنيته الغالية، أي الرحيل عن الحكومة واستعادة حريته في الكلام والتحرك. والأهم من ذلك أن هولو، رغم التعبير عن امتنانه ومودته لماكرون والحكومة، سدد لهما سهاما مؤلمة من خلال اتهامهما بأنهما رهينتان في أيدي «مجموعات الضغط» (اللوبي) التي تتحكم بالقرارات الحكومية. كثيرون اعتبروا استقالة هولو بمثابة «زلزال» سياسي و«نكسة» لعهد ماكرون. فالغيوم الداكنة تتكدس فوق قصر الإليزيه وصورة الرئيس نفسه تشوهت لدى الفرنسيين بشكل غير مسبوق منذ انتخابه. وبعد فضيحة ألكسندر بنعالا التي «نغصت» عليه عطلته الصيفية وشبهات «المحسوبية» التي تحوم حول أمين عام القصر الرئاسي ألكسيس كوهلر وهو الشخص الأقرب للرئيس، والظنون التي تلاحق وزيرة الثقافة فرنسواز نيسان بمخالفة قوانين المحافظة على التراث المعماري والقوانين الناظمة لها، تأتي استقالة هولو لتزيد الأمور تعقيدا.
وأول الأسئلة التي يواجهها ماكرون ورئيس حكومته هو حول العثور على الشخصية البديلة التي تتمتع بالوزن والشهرة الكافيتين للحلول محل الوزير المستقيل وعدم الإخلال بالتوازنات الداخلية للحكومة. ومشكلة الرئيس الفرنسي الذي سعى إلى إدخال وجوه من المجتمع المدني إلى حكومته، أن الوزراء المعروفين من أصحاب الوزن السياسي والحضور الشعبي والإعلامي أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، وبالتالي فإن الرئيس غالبا ما يجد نفسه مضطرا إلى التدخل لإطفاء الحرائق السياسية أو لشرح سياسته. فضلا عن ذلك، فإن استقالة هولو تطرح مجددا مصير «التزامات» ماكرون البيئوية ومدى جدية الحكومة في وضعها موضع التنفيذ.
في اللغة الفرنسية تعبير رائج للإشارة إلى أن المصاعب تتكاثر بوجه مسؤول، وهو أنه «أكل خبزه الأبيض»... وحقيقة الأمر أن ماكرون اجتاز الأشهر المنقضية على رئاسته بسلاسة ومن غير مواجهة صعوبات حقيقية، بسبب ضعف المعارضة، سواء أكانت يمينية أم يسارية، وتراجع التعبئة النقابية بوجه مشروعاته الإصلاحية، لكن الصورة اليوم بدأت بالتغير في الداخل حيث الطبقتان الوسطى والدنيا أخذتا تئنان من نتائج إصلاحاته الاجتماعية والمالية، فيما صورته الرائجة «رئيس الأغنياء» تتجذر أكثر فأكثر.
إزاء هذا الوضع، فإن مصلحة ماكرون السياسية أن يعجل في سد الثغرة الناتجة عن استقالة هولو وأن يبعد الوزراء الذين أخذوا يشكلون عبئا عليه وأن يعيد التركيز على الجوانب الاجتماعية في سياساته الداخلية ليستعيد الفئات التي رأت فيه الرئيس المنقذ، وإلا فإن الانتخابات الأوروبية التي ستحصل في الربيع القادم ستكون بمثابة الكارثة عليه وعلى أكثريته التي عمودها الفقري حزب «الجمهورية إلى الأمام».
استقالة وزير البيئة تضاعف صعوبات الرئيس الفرنسي داخلياً
نيكولا هولو رفض العروض الوزارية من ثلاثة رؤساء قبل أن يصطاده ماكرون
استقالة وزير البيئة تضاعف صعوبات الرئيس الفرنسي داخلياً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة