جيورجيو أرماني... يرفض تغيير وصفته مهما تغيرت الظروف

TT

جيورجيو أرماني... يرفض تغيير وصفته مهما تغيرت الظروف

أربعٌ هي الركائز الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد الإيطالي منذ عقود: صناعة المواد الغذائية، والسياحة، وصناعة الأدوية... والأزياء. في هذه الأخيرة تلمع أسماء ذاعت شهرتها في العالم، وأصبحت على كل شفة ولسان بين المهتمين بالموضة، لكن ثمّة اسماً واحداً يطغى عليها جميعاً ويختصر بذاته النمط الإيطالي بامتياز. إنه جيورجيو أرماني، الذي دخل منتصف الشهر الماضي عتبة الخامسة والثمانين، معلناً أنه بدأ يُعدّ العدّة لخلافته على رأس الإمبراطورية التي تزيد مبيعاتها السنوية على مليار دولار.
شهد جيورجيو النور في إحدى القرى الواقعة بين مدينة جنوة وجمهورية سان مارينو في الشمال الإيطالي عام 1934 إبّان الحكم الفاشي بزعامة موسوليني الذي كان يستعدّ لغزو إثيوبيا، وقبل خمس سنوات من بداية الحرب العالمية الثانية التي ذاق مرّها طفلاً، ويتذكّر دوماً كم تركت من أثر في حياته «... من يعيش الحرب لا يمكن أن ينساها، فهي تكشف لك مدى هشاشة الحياة، وكيف ينهار كل شيء في لحظات. علّمتني الاهتمام بمن أحب، وأن أكون صادقاً مع نفسي».
يقول في مذكراته التي نشرها بمناسبة عيد ميلاده الثمانين، إنه اضطر إلى ترك دراسة الطب في الجامعة للالتحاق بالخدمة العسكرية التي كانت إلزامية يومذاك، ولم يعد إليها بسبب الضائقة المالية التي كان يمرّ بها والده. لكن السنوات الثلاث التي أمضاها في كلية الطب أوقدت لديه الشغف بالجسم البشري الذي انطلق منه بعد سنوات نحو القمة في عالم الأزياء.
أواخر الخمسينات من القرن الماضي التحق بفريق المتاجر الإيطالية المعروفة La Rinascente في ميلانو مساعداً في ترتيب الواجهات، ثم أصبح مديراً للمشتريات عام 1961 قبل أن يتولّى إدارة قسم التصميم لدى «نينو تشيروتي».
في عام 1974 تعاون مع صديقه ورفيق مسيرته سرجيو غاليوتي في تأسيس شركته الخاصة برأسمال قدره 100 ألف دولار وموظفة واحدة. اليوم يصل عدد العاملين في إمبراطوريته إلى 12 ألفاً، موزَّعين على ثلاثة آلاف متجر في 60 بلداً. وما زالت هذه الشركة التي كانت سبّاقة في غزو الأسواق الآسيوية، ورائدة في إطلاق التصاميم الخاصة بنساء الأعمال، من العلامات التجارية النادرة التي لم تبتلعها الشركات القابضة الكبرى في عالم الأزياء.
لكن هذا المبدع الصامت والخفور الذي أحدث ثورة في عالم الأزياء النسائية والرجالية، لم يُمسِك إبرة أو خيطاً في حياته. يقول في سيرته الذاتية «لست خيّاطاً، وليس باستطاعتي أن أخيط سترة أو سروالا حتى تحت التعذيب، لكن أعرف تماماً كيف أريد أن تكون السترة أو السروال».
تزامنت «ثورة» أرماني في عالم الأزياء مع صعود الحركة النسائية في الغرب، وانخراط أعداد متزايدة من النساء في مجال الأعمال والمهن الحرة. انطلق من التصاميم التقليدية السائدة للبدلة الرجالية، فعدّل مقاييس الياقة والقَّبة، وخفّف من حدة زوايا الكتفين، ثم نزع البطانة وأسدل انسيابية الثوب الجديد الذي حرّر جسد المرأة وأدخله في الخزانة النسائية.
عام 1983 كان أول مصمم عالمي يفتتح له مكتباً في هوليوود، حيث تهافتت عليه النجوم بعد أن عهد إليه قبل ثلاث سنوات الإشراف على تصميم الأثواب في الفيلم الشهير «ذي أميركان جيغولو» من بطولة الممثل ريتشارد غير. لكن في عام 1985 واجه جيورجيو التجربة الأصعب في حياته عند وفاة صديقه الأقرب وسنده سرجيو غاليوتي، الذي كان العماد التنظيمي والإداري للشركة التي كانت في عزّ انطلاقتها العالمية.
يقول أرماني، إن تلك الصدمة كادت تفقده توازنه وأوشك أن يتخلّى عن كل شيء وينصرف إلى شؤون أخرى «لكني تجاوزت تلك المحنة وقررت المضي في المشروع الذي وضعنا أسسه معاً من باب الوفاء لذكرى صديقي».
في عام 2001، وبعد أن انتشرت منتجاته من أزياء ومستحضرات تجميل ومفروشات وساعات ومطاعم في أصقاع العالم، قرر بناء مسرح طليعي في ميلانو عهد تصميمه إلى المهندس الياباني المعروف تادا أندو. وقبل أن يعطي موافقته النهائية لافتتاحه، أصرّ على الجلوس في كل المقاعد التي يبلغ عددها 628 مقعداً للتأكد من تمام الرؤية من كل واحد منها. ورغم تجاوزه عتبة الخامسة والثمانين من العمر، فما زال أوّل الواصلين إلى مركز عمله وآخر المغادرين.
في عام 1982، خصصت له مجلة «تايم» غلافها الذي لم يحتلّه سوى اثنين من مصممي الأزياء، هما كريستيان ديور وبيار كاردان. وتقدّر مجلة «فوربس» ثروته بثمانية مليارات دولار. وينكبّ منذ عامين على الاهتمام بمؤسسته التي أنشأها للأعمال الخيرية ومساعدة المبدعين الشباب على الانطلاق، مصرّاً على مواصلة نشاطه حتى اليوم الأخير من حياته.
لم يبدِّل أرماني في أسلوبه الذي يقوم على مبدأ «الأناقة ليست بالزيادة، بل بالنقصان»، لكن منتقديه يعيبون عليه الرتابة في التصاميم وقلّة الابتكار بحيث يصعب التمييز بين أثوابه الجديدة وتلك التي تعود إلى 25 عاماً. وعلى ذلك يجيب «هذا عالمي وأسلوبي وأفكاري، ولست مستعدّاً للتخلّي عنها أو المساومة عليها».


مقالات ذات صلة

فؤاد سركيس يرسم لوحة ملونة بالالوان والتفاصيل في مجموعته لـ 2025

لمسات الموضة اعتمد المصمم على التفاصيل الجريئة حتى يمنح كل زي ديناميكية خاصة (خاص)

فؤاد سركيس يرسم لوحة ملونة بالالوان والتفاصيل في مجموعته لـ 2025

في أحدث مجموعاته لموسم خريف وشتاء 2025، يعيد المصمم فؤاد سركيس رسم هوية جديدة لمعنى الجرأة في الموضة. جرأة اعتمد فيها على تفاصيل الجسم وتضاريسه. تتبعها من دون…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي (الشرق الأوسط)

علياء السالمي... تحمل تقاليد الماضي إلى الحاضر

من قلب المملكة العربية السعودية؛ حيث تتلاقى الأصالة والحداثة، تبرز مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي واحدةً من ألمع الأسماء في عالم تصميم الأزياء.

أسماء الغابري (جدة)
لمسات الموضة كانت روح ماريا تحوم في قصر غارنييه بكل تجلياتها (ستيفان رولان)

من عاشقة موضة إلى مُلهمة

كل مصمم رآها بإحساس وعيون مختلفة، لكن أغلبهم افتُتنوا بالجانب الدرامي، وذلك التجاذب بين «الشخصية والشخص» الذي أثَّر على حياتها.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يرسم معالمها... لأن «نجمها الأول وعملتها الذهبية» هي أنسجتها (لورو بيانا)

«لورو بيانا»... تحتفل بمئويتها بفخامة تستهدف أصحاب الذوق الرفيع

لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يقودها ويحدد اتجاهاتها... فشخصيتها واضحة، كما أنها تمتلك نجماً ساطعاً يتمثل في أليافها وصوفها الملكي.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة النجمة المصرية نيللي كريم كما ظهرت في عرض هنيدة الصيرفي (هيئة الأزياء)

الرياض... لقاء الثقافة والأناقة

غالبية العروض في الدورة الثانية من أسبوع الرياض منحتنا درساً ممتعاً في كيف يمكن أن تتمازج الثقافة والهوية بروح الشباب التواقة للاختلاف وفرض الذات.

جميلة حلفيشي (لندن)

5 أشياء تدين بها صناعة الموضة العربية لإيلي صعب

كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)
كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)
TT

5 أشياء تدين بها صناعة الموضة العربية لإيلي صعب

كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)
كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)

انتهى عرض إيلي صعب في الرياض، أو الأحرى احتفالية «1001 موسم من إيلي صعب» بمرور 45 على انطلاقته في بيروت، ولم تنته ردود الأفعال. فالعرض كان خيالياً، شارك فيه باقة من نجوم العالم، كان القاسم المشترك بينهم إلى جانب نجوميتهم وشعبيتهم العالمية، حبهم لإيلي صعب... الإنسان.

كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)

المهتمون بالموضة، من جهتهم، يكنون له الاحترام، لرده الاعتبار لمنطقة الشرق الأوسط بوصفها تملك القدرة على الإبهار والإبداع. طبعاً تقديم العرض الضخم بدعم الهيئة العامة للترفيه ضمن فعالية «موسم الرياض 2024» كان له دور كبير في إنجاح هذه الفعالية. فقد توفرت كل اللوجيستيات المطلوبة لتسليط الضوء على أيقونة عربية لها تأثير كبير على الساحة العربية والعالمية، نذكر منها:

1-أول عربي يقتحم باريس

عرضه لخريف وشتاء 2024 ضمن عروض «الهوت كوتور» كان لوحة رومانسية من «ألف ليلة وليلة» (إيلي صعب)

هو أول من وضع الموضة العربية ضمن الخريطة العالمية بوصفه أول مصمم عربي يخترق العالمية وينافس كبار المصممين بأسلوب شرقي معاصر. استقبلته باريس بالأحضان ودخل البرنامج الرسمي لـ«هوت كوتور» من باب الفيدرالية الفرنسية للموضة كأول مصمم عربي مُبدع. فالصورة المترسخة في أذهان خبراء الموضة العالميين عن المصممين العرب في الثمانينات من القرن الماضي أنهم مجرد خياطين يقلدون إصداراتهم. كان عز الدين علايا الاستثناء الوحيد قبله.

2-احترام المرأة العربية

من تشكيلته لخريف وشتاء 2024... أزياء تتميز بالرومانسية وسخاء التطريز (إيلي صعب)

هو من فتح عيون الغرب، ليس على قدرة المرأة العربية الشرائية فحسب، بل وعلى تأثيرها على المشهد الإبداعي، بالتالي رد لها اعتبارها. فرغم أنها ومنذ السبعينات تُنعش قطاع «الهوت كوتور» كزبونة متذوقة ومقتدرة، فإنها لم تحصل على الحظوة نفسها التي كانت تتمتع بها مثيلاتها في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً. نجاحه في الثمانينات وبداية التسعينات يعود إلى هذه المرأة، التي أقبلت على تصاميمه، وهو ما استوقف باقي المصممين، وفتح شهيتهم لدخول «الهوت كوتور» ومخاطبتها بلغة أكثر احتراماً. دار «فيرساتشي» مثلاً أطلقت خطها في عام 1989، فيما أطلق جيورجيو أرماني خطه «أرماني بريفيه» في عام 2005 إلى جانب آخرين وجهوا أنظارهم شرقاً متسابقين على نيل رضاها.

3- ارتقى بمهنة التصميم

تحول إلى مدرسة قائمة بذاتها، كما تخرج على يده العديد من المصممين الشباب الذين نجحوا (إيلي صعب)

نجاحه غيّر النظرة إلى مهنة تصميم الأزياء في الوطن العربي، من المغرب الأقصى إلى الشرق. بدأ الجميع يأخذها بجدية أكبر، فلا المجتمع بات يراها قصراً على المرأة أو على الخياطين، ولا الرجل يستسهلها. أصبحت في نظر الجميع صناعة وفناً يحتاجان إلى صقل ودراسة وموهبة.

4-قدوة للشباب

من تشكيلته لـ«هوت كوتور خريف وشتاء 2024» (إيلي صعب)

تخرج على يده العديد من المصممين الشباب. كان قدوة لهم في بداية مشوارهم، ثم دخلوا أكاديميته وتعلموا على يده وفي ورشاته. كلهم يشهدون له بالإبداع ويكنون له كل الاحترام والحب. من بين من هؤلاء نذكر حسين بظاظا ورامي قاضي وغيرهم كثيرون.

5-اقتناع برؤيته الفنية

لم يغير جلده أو أسلوبه رغم كل التحديات. كان له رؤية واضحة تمسك بها وكسب (رويترز)

أكد للجميع أنه يمتلك رؤية خاصة لم يغيرها في أي مرحلة من مراحل تطوره. حتى الانتقادات التي قُوبل بها في باريس في البداية، واجهها بقوة وتحدٍ، ولم يخضع لإملاءاتهم لإرضائهم أو لتجنب هجماتهم الشرسة على شاب عربي يتكلم لغة فنية جديدة في عُقر دارهم. بالعكس زاد من جرعة الرومانسية وسخاء التطريز، وأعطاهم درساً مهماً أن الرأي الأول والأخير ليس لهم، بل للمرأة عموماً، والسعودية تحديداً. كانت خير مساند له بحيث أدخلته القصور والبلاطات، وجعلته ضيفاً مرحباً به في أعراسها ومناسباتها المهمة.