مؤتمر علمي عن الشاعر الكردي «مفتي بنجويني»

بعد رحيله بأكثر من نصف قرن، بدأت الأوساط الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية في إقليم كردستان العراق، أهمية القيم والمفاهيم التي حاول الشاعر الكردي الكبير «ملا عبد الله ابن ملا عبد الكريم» 1881 - 1952. الشهير بـ(مفتي بنجويني) غرسها في المجتمع الكردي، الذي كان يموج حينئذ في بحر من الظلمات والتخلف الاجتماعي المقيت، عبر قصائده وأشعاره التحريضية الهادفة التي أراد بها إيقاظ وإذكاء الوعي في فكر الإنسان الكردي، وتأليبه على واقعه المرير المحكوم بالأعراف القبلية والقوانين الإقطاعية المذلة التي كانت سائدة.
وأخيراً، نظم قسم اللغة الكردية بكلية اللغات في جامعة السليمانية، مؤتمره العلمي الأول تحت عنوان «المفتي شاعر التجدد والمواقف» يومي 18، 19 من أغسطس (آب) الجاري كرس لاستعراض تاريخ «المفتي» وسفر نتاجاته الأدبية الثمينة ومواقفه الوطنية والقومية، وذلك في مسقط رأسه بلدة «بنجوين» الواقعة على بعد 96 كلم شرق مدينة السليمانية قرب الحدود مع إيران، بمشاركة أكثر من عشرين باحثاً من أساتذة الجامعات والمعاهد والمختصين في مجال الأدب والثقافة الكرديين، وبحضور العشرات من المثقفين ولفيف من الشعراء والأدباء الكرد الشباب وجمع غفير من محبي قصائد «المفتي» في كردستان، وضيوف من دول الجوار وبعض البلدان الأوروبية. وقدم خلال المؤتمر عشرين بحثاً ودراسة علمية تناولت من زوايا وجوانب ومراحل مختلفة. وتناولت الدراسات والمحاضرات أهمية النتاج الفكري والأدبي للشاعر الراحل، وانعكاساته وتفاعلاته وتأثيراته في أوساط المجتمع الكردي في الماضي والحاضر وكيفية استثماره بالشكل الصائب لبناء الإنسان الكردي ومجتمعه فكرياً واجتماعياً، في كلمة له بالمناسبة، وصف الدكتور «رضا حسن» رئيس جامعة السليمانية الشاعر الراحل بـ«المشعل الذي صار ينير مسيرة النشء الجديد في كردستان، وغدت أفكاره ودعواته إلى كسر قيود العبودية وتحرير الإنسان الكردي من الأغلال الاجتماعية والقبلية، وحضه المستمر للجيل الصاعد على طلب العلم والمعرفة، باعتباره السبيل الأمثل لبناء الوطن وتوعية أبناء الأمة، نهجاً يستلهم منه الجيل الحالي الدروس والعبر والمعاني السامية، لبناء المجتمع الكردستاني الناهض... لقد كان المفتي الراحل من أول من دعا إلى تعليم البنات في المدارس، في وقت كانت فيه دعوته ضرباً من الكفر والإلحاد، كما تصدر بمواقفه الوطنية أقرانه من الشعراء والأدباء الكرد، عندما وضع مبدأ الدفاع عن الوطن في خانة المهام والواجبات الدينية المقدسة، وتمرد بقصائده العصماء على الأفكار والتقاليد والبدع الدينية التي كبلت الإنسان الكردي وقتذاك بشتى الأغلال والقيود».
أما أسرة وأحفاد «المفتي» فقد تحدثوا في كلمتهم عن مواقفه الوطنية، ومدى حرصه على حاضر مستقبل شعبه.
ورأى «بابكر الدريي» المدير العام للثقافة والفنون في محافظة السليمانية، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن الانفتاح والارتقاء الفكري الحاصلين في المجتمع الكردي في عصرنا الراهن، ما هما إلا نتاج طبيعي لتفاعلات وتأثيرات قصائد وخطب وتطلعات «المفتي» وأمثاله من الشعراء الكرد الذين عاصروه في تلك المرحلة. فقد تصدى المفتي بمفرده وبشجاعة وجرأة فريدة للأنظمة الدينية والقلبية والسياسية الظالمة والجائرة التي عاش في كنفها، وحض بقصائده ودعواته وطروحاته ومواقفه السامية، أبناء الشعب الكردي إلى التمرد والانقلاب والثورة على ذاك الواقع المرير، فما تطالب به القوى السياسية الكردية اليوم من حقوق المساواة بين الجنسين، وإلغاء الفوارق الطبقية والقيود الدينية والقبلية، والنهوض بالمجتمع وتحرير الوطن، هي أمور نادى بها الشاعر الراحل قبل أكثر من نصف قرن، لذا أستطيع الجزم بأنه كان شاعراً ومفكراً سبق عصره بعقود.
أما الأكاديمي والباحث «بهمن طاهر» المشرف على أعمال المؤتمر، فقد قدم بحثاً تناول فيه بإسهاب الجوانب الفكرية لقصائد ومدونات «المفتي» على صعيد مقارعة الفساد بكل أشكاله ودعواته إلى تحقيق الإصلاح في مختلف مناحي الحياة. وقال: «المفتي قبل أن يكون شاعراً كان متنوراً ومفكراً كبيراً، فهو وصف الفساد بمثلث أضلاعه عبارة السلطة السياسية وبعض رجال الدين وأدواتهما، كما وصف أسباب الإصلاح والنهوض الاجتماعي بمثلث آخر أضلاعه عبارة عن العلم الحديث والاقتصاد والنهضة الصناعية.
هذا واختتم المؤتمر بإصدار جملة توصيات من أبرزها، عقد هذا المؤتمر بشكل دوري، وتوأمة بلدة بنجوين مع بلدة مريوان في كردستان الإيرانية على الصعيد الثقافي، واستحداث مركز للبحوث الأدبية والثقافية، وإنشاء معهد أكاديمي، وإقامة تمثال للشاعر الراحل عند بوابة البلدة تخليداً لعطائه الأدبي والشعري الثري.