سنوات السينما: الطوق والإسورة

الطوق والإسورة
(1996)
حزينة وفرحانة وقرية تحت المجهر

تحتوي الأفلام الأولى للمخرج خيري بشارة (بما فيها 13 فيلماً قصيراً) على خمسة أعمال من تلك التي تغوص في عالم القرية المصرية. في «الطوق والإسورة»، وبعد فيلمين روائيين عن المدينة، وجد المخرج المصري فرصة سانحة لإنجاز فيلم روائي عن القرية والريف. إنه «الطوق والإسورة» فيلم ينتمي إلى المكان، بقدر ما «ذهب مع الريح» للجنوب الأميركي. أليف، عاشق، طبيعي في تصميم مناظره، وفي إضاءته، كما في نسج تآلف المتفرج مع المادة التي تقع على أرضه، فصوت الدراما فيه خافت على الرغم من فرصتها الكبيرة، استناداً إلى طينة المادة الروائية المأساوية.
النص في الأصل يعود لقصة قصيرة وضعها الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبد الله، تشعر معها بأنها جزء من ذات المؤلف، وأن ما يدور - إلى جانب أن الأحداث تقع في المنطقة التي ولد فيها الكاتب - هو بعض ما كان قد عاشه أو شهد عليه. أي تناول مختلف لتناول بشارة للرواية كان سيفقدها تلك اللحظات الذاتية المختمرة فيها. السرد التقليدي لا ينفع، التبسيط الميلودرامي يضر، والمعالجة الهادفة للسرد الروائي وحده دون الإحاطة بأبعاد ما يدور وبالمكان والتاريخ، تخرج للنور حكاية أخرى وليس فيلماً متميزاً.
في تناوله للقصة، أدرك بشارة هذه الحقائق، وإدراكه ليس نوعاً من الاكتشاف؛ لأنه في فيلميه الروائيين السابقين: «الأقدار الدامية» و«العوامة رقم 70»، كان ذاتياً بقدر ما سمحت له الظروف. تكمن الذاتية هنا في تأليف اللغة السينمائية الخاصة التي تصاحب الحكاية، وإذا لم يكن بشارة قد فعل شيئاً آخر غير ذلك، فهذا وحده كافٍ لتميز عمله وتجسيده لروح الكاتب وأبعاده كاملة.
بطلته حزينة (فردوس عبد الحميد)، امرأة تعيش في قرية الكرنك مع بدء الأحداث في 1933. زوجها البشاري (عزت العلايلي) مريض عاجز، وابنتها فهيمة تتزوج من حداد القرية. لحزينة ابن اسمه مصطفى (العلايلي أيضاً) هاجر للعمل، ويرسل من المال ما يكاد يقي العائلة شر التسول. تكتشف فهيمة أن زوجها عاجز جنسياً، وتذهب بها أمها إلى الشيخ هارون لعله يقيها شر الحسد، وعندما لا ينفع معها الشيخ تلجأ بها إلى المعبد؛ حيث يستقبل فهيمة أحد رجاله. تترك فهيمة زوجها وتلد طفلة تسمى فرحانة ثم تموت. تشب فرحانة (الرائعة شريهان) ويعود مصطفى من الغربة. تحبل فرحانة من أحد رجال القرية. فيقوم خالها بدفنها في الرمال (باستثناء رأسها) لكي تعترف بالفاعل؛ لكن ابن عمها الذي حاول الزواج منها وأخفق يقوم بقتلها.
الحكاية هنا حكاية تقاليد راسخة في منطقة معزولة من العالم. نتحدث عن قرية من نتاج ألوف السنين، وعادات ولدت مع ولادتها، واستمرت وتمادت في تأثيرها على الحياة الفردية، وبطبيعة الحال، الأسروية على حد سواء. مثل «للحب قصة أخيرة»، هو فيلم عن شعائر الحياة والموت كما رسمتها التقاليد؛ لكن على عكسه يخفض نبرة هجومه، ويترك للمتفرج استلهام الموقف منها الذي هو بالنتيجة في الحدة ذاتها الممكن استلهامها من هجوم مباشر. حزينة هي الأم، وهي الاستمرار.
المخرج بشارة ضد الدراما المؤلفة من تصاعد مواقف. ضد أن تنفعل شخصياته إلا في إطار ما ينوء به الواقع، وتوافق عليه المعايشة الذاتية للظروف. بحنكته تلك أبقى المخرج فردوس عبد الحميد وكأنها ظل لما يدور، حتى جاء المشهد العاصف الذي نراها فيه تصل إلى قمة انفعالها بالحدث مثل بركان انفجر؛ لكنها بعد تلك اللحظة تعود إلى دورها الأفقي الساكن، وكأنها شاهدة عصرها. ليس لأنها شخصية حيادية؛ بل في فيلم بشارة ما يدينها بشدة، إنما تبعاً لدورها الظرفي المستمر الذي ذكرناه.‬