مواجهة عميقة بين مصالح وآيديولوجيات لا تستغني عن بعضها

إعادة النظر في مفهوم الحضارة.. الاتصالات والإرهاب في القرية العالمية

إعادة تفكير بالحضارة: الاتصالات والإرهاب في القرية العالمية - المؤلف: د. مجيد تهرانيان - دار نشر «سيماي شرق»، الطبعة الأولى عام (2013)
إعادة تفكير بالحضارة: الاتصالات والإرهاب في القرية العالمية - المؤلف: د. مجيد تهرانيان - دار نشر «سيماي شرق»، الطبعة الأولى عام (2013)
TT

مواجهة عميقة بين مصالح وآيديولوجيات لا تستغني عن بعضها

إعادة تفكير بالحضارة: الاتصالات والإرهاب في القرية العالمية - المؤلف: د. مجيد تهرانيان - دار نشر «سيماي شرق»، الطبعة الأولى عام (2013)
إعادة تفكير بالحضارة: الاتصالات والإرهاب في القرية العالمية - المؤلف: د. مجيد تهرانيان - دار نشر «سيماي شرق»، الطبعة الأولى عام (2013)

شهدت وسائل الإعلام العالمية، خلال العقود الثلاثة الماضية، تطورات تقنية وبنيوية أساسية. وأصبح للنظام الإعلامي الوطني تأثير ملحوظ.
يتناول الباحثون منذ أعوام، مفهوم الحضارة في أبعادها المختلفة. ويُعد القرن الـ21، قرن الاهتمام بالحضارة. وبينما يتحدث بعض المفكرين عن صراع الحضارات، يطرح البعض الآخر نظرية حوار الحضارات.
هذا الكتاب الذي ألفه الجامعي ومدير قسم الاتصالات الدولية في جامعة هاواي، الدكتور مجيد تهرانيان، يتناول موضوع الاتصالات في العالم الحديث بنظرة نقدية جادة، مؤكدا على إعادة النظر في مفهوم الحضارة.
يمكننا القول إن الاهتمام الذي يبديه المؤلف للحضارة وتعريفه مفهومها، يعد من المحاور الرئيسة والمفصلية في الكتاب. ومن الطبيعي أن تكون وجهة نظر المؤلف نابعة من تجاربه الشخصية الحياتية.
تمر البشرية بمنعطف تاريخي صعب، إذ أدت التطورات التقنية التي حققها الإنسان منذ عشرة آلاف عام حتى اليوم، إلى إقامة قرية عالمية نسبيا. تنقسم هذه القرية إلى خمسة أنماط متباينة من الحضارة البشرية: الحیاة البدوية، والقروية، والتجارية، والصناعية، والرقمية. ومنذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، ظهر التباين البنيوي والمعياري في الحضارات الخمس بوضوح. إذ تتجه الأنماط الحضارية الخمسة، نحو صراع لا يمكن التنبؤ بحدته ولا بمدته الزمنية، فالإرهاب العالمي ليس سوى قمة جبل الجليد.. وما خفي أعظم.
ويرى مؤلف الكتاب أنه لا يمكن أن نعتبر الصراع بين الأنماط الحضارية الخمسة، منافسة أخلاقية بسيطة، أو صراعا بين الخير والشر. بل هو مواجهة عميقة بين المصالح والآيديولوجيات المتصارعة، التي لا تستطيع في الوقت نفسه الاستغناء عن بعضها بعضا.
ومن جانب آخر، يتطرق الكتاب إلى خمس فجوات تقنية عظيمة في التاريخ وعلاقتها مع ثلاثة مكونات رئيسة للمجتمع: الإمبراطوريات، وحركات المقاومة، والحضارات. وتظهر هذه المكونات الاجتماعية الثلاثة، بالضرورة، في فترات الحرب أو السلم. وقد رافقت الإمبراطوريات وحركات المقاومة والحضارات تطورات تقنية، بدءا بالحياة البدوية والقروية، مرورا بالتجارية والصناعية والرقمية. وستؤدي الوتيرة المتسارعة غير المتوازنة، في تنمية المجتمعات البشرية، وخاصة خلال القرنين الأخيرين، إلى صراع الحضارات العالمي.
في الحقيقة، تتسبب حركات المقاومة المحلية، في المرحلة الأخيرة من العولمة وإقامة الإمبريالية، في صراعات دولية. إن إرهاب الدولة أو إرهاب الجهات غير الحكومية في الوقت الحاضر، ليس سوى دليل على التنمية غير المتوازنة في العالم. ولن تنحسر هذه المشكلات، طالما لم تجر معالجتها جذريا وبشكل جدي.
ويسعى الكتاب، إلى تبيان أنه جرى استخدام مفهوم الحضارة بشكل آيديولوجي، وبهدف إلى إيجاد تمايز بيننا (نحن) وبينهم (هم)، أو بين أصحاب الحضارة والبرابرة.
نشأت الإمبراطوريات على أساس قدراتها على تحقيق التطور التقني، إذ مارست حركات المقاومة ضد الإمبراطوريات، ضغوطا من القاعدة أمام هيمنة الإمبراطوريات. وتتخذ حركات المقاومة أشكالا متنوعة، غير أن المقاومة التي تقوم على الديمقراطية هي أنجح أساليب المقاومة خلال القرنين الأخيرين.
يضم كتاب «إعادة النظر في مفهوم الحضارة.. المواصلات والإرهاب في القرية العالمية»، سبعة فصول، ترتبط ببعضها من خلال ثلاثة محاور: المواصلات، والديمقراطية، والحضارة.
ويرى المؤلف تهرانيان أنه يمكن تحقيق الطموح الحضاري في هذه الفترة المتأزمة من التاريخ، من خلال دمقرطة مؤسسات الحكم المحلي، والوطني، والإقليمي، والدولي. وعلى أساس التطورات التقنية المتسارعة التي حدثت خلال القرنين الماضيين، یجب المراجعة وإعادة النظر في العقيدة الليبرالية الديمقراطية، والاشتراكية الديمقراطية، والديمقراطية المجتمعیة.
ويرى المؤلف، من خلال نظرته هذه، أن ثمة علاقة وطيدة بين الحضارة والسلطة العالمية، إذ تظهر طبيعة الحكم في العالم الحديث، أن الدور الذي قامت به الدول في التاريخ الحديث، اتسم بالغلبة، ولكنه آل إلى الزوال.
تتولى 200 دولة عظمى، و63 ألف شركة متعددة الجنسيات، وكثير من المنظمات غير الحكومية، وشبكة معقدة للتواصل العالمي التي تتبادل رسائل متناقضة، تتولى إدارة العالم في الوقت الراهن. وبينما كانت عملية تطور مؤسسات السلطة العالمية تسير بوتيرة بطيئة ومؤلمة، خلال القرنين الماضيين، فإن العالم واجه تحديا مثيرا للقلق في مطلع القرن الـ21، ودخل مرحلة جديدة تدعى الرأسمالية العالمية التي تتجه نحو الزوال في حال دمقرطة السلطة العالمية.
يفتقر العالم اليوم، إلى سلطة عالمية، غير أن مجموعة من المبادئ والمؤسسات القانونية، تتولى فعلا إدارة العالم، وهي التي تؤسس في الحقيقة السلطة العالمية.
وعلى أساس هذا التحليل، يحاول المؤلف تبيان النظام الخاص بوسائل الإعلام العالمية، التي شهدت خلال العقود الثلاثة الماضية، تطورات تقنية وبنيوية أساسية باتجاه النفوذ الملحوظ للنظام الإعلامي الوطني، من خلال البث المباشر للفضائيات، والهواتف الرقمية، والشبكة العنكبوتية، و«ماكروميديا»، مثل الأشرطة الصوتية والمرئية، والأقراص المضغوطة، والكومبيوترات اللاب توب، وأجهزة تابلت، والهواتف وشبکة الإنترنت اللاسلكية. وقد أدت الاتصالات العالمية إلى خلق عالم مجازي بلا حدود. وبينما يهمين النظام التجاري على فحوى الأخبار وبرامج التسلية، تبذل الأنظمة السياسية جهودا (في كثير من الأحيان فاشلة) لتحكم قبضتها على هذه الحركة، وتقييدها من خلال اعتماد أساليب كالرقابة واستخدام حق سلطتها الإقليمية.
وانطلاقا من تشكيل الأنظمة الإعلامية، يتساءل المؤلف: هل نستطيع أن نصل إلى نوع من النظام الإعلامي الذي يروج للسلام أكثر من الحرب، والتفاهم أكثر من الاضطراب، والتسامح أكثر من الكراهية، وتشجيع الاختلاف أكثر من معاداة الغير؟! فتعددية الأنظمة والمضامين هما الشرطان الضروريان لهذا النوع من الصحافة التي تخدم السلام، لكنهما ليسا كافيين بالطبع.
يمكننا أن نستنتج من مضمون الكتاب أن القرن الـ21 سيكون قرنا متسارعا جدا في تغييراته. وستسلك بعض الدول المتخلفة طريق التطور، بينما يمكن أن تبدأ بعض الدول المتطورة مسارا تقهقريا. إذ من الأجدر لهذا النوع من الدول المتطورة وشعوبها، أن يتجنب الأخطاء الناجمة عن التعصب والغطرسة. يُعد الهيكل المعاصر للقرية العالمية القائمة على متابعة السلام بواسطة الأدوات السلمية، المسألة المشتركة لشعوب العالم. وحدة الأسرة البشرية وبتنوعها أثمرت أداة ثمينة، وعلينا أن نصونها في كل الأوقات. وفي مثل هذه الحالة سيحتل هذا الكتاب مكانه بهدوء.
* صحافي وإذاعي مقيم في طهران، يكتب لصحف إيرانية يومية عدة



متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»


قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».