تركيا لتنفيذ خطتها الخاصة بإعادة السوريين إلى «مناطق آمنة»

أنقرة تعول على القمة الرباعية وسط غياب واشنطن

لاجئون سوريون على حدود تركيا (غيتي)
لاجئون سوريون على حدود تركيا (غيتي)
TT

تركيا لتنفيذ خطتها الخاصة بإعادة السوريين إلى «مناطق آمنة»

لاجئون سوريون على حدود تركيا (غيتي)
لاجئون سوريون على حدود تركيا (غيتي)

بالتوازي مع سيطرة قوات النظام السوري على غوطة دمشق وريف حمص وجنوب البلاد وجنوبها الغربي، طرحت موسكو خطة لإعادة نحو 1.7 مليون لاجئ سوري من دول الجوار إلى بلادهم. وخلال السنوات السبع الماضية، سجلت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين نحو خمسة ملايين شخص في الدول المجاورة لسوريا، إضافة إلى سبعة ملايين نازح داخل البلاد. وشكل اللاجئون ثقلا أمنيا وسياسيا واقتصاديا على الدول المجاورة التي يشهد بعضها انقساما سياسيا، فيما تعاني دول أخرى من مشكلات اقتصادية وأمنية. كما بات موضوع اللاجئين ملفا إشكاليا داخل الدول الأوروبية ومادة للحملات الانتخابية. ولا شك أنه سيكون حاضرا في القمة الروسية - التركية - الفرنسية – الألمانية، في إسطنبول، في 7 من الشهر المقبل.
في هذه الظروف، طرح الجانب الروسي مبادرته، وقام المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرينييف بجولة إلى تركيا ولبنان والأردن ودمشق، لمناقشة خطة موسكو لإعادة السوريين. كما بعث رئيس أركان الجيش الروسي الجنرال فاليري غيراسيموف برسالة إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جوزيف دانفورد، يبدي فيها استعداد موسكو للتعاون مع واشنطن في إزالة الألغام ومساعدة اللاجئين على العودة إلى ديارهم. كما حضت موسكو مجلس الأمن الدولي، على المساعدة في انتعاش الاقتصاد السوري وعودة اللاجئين.
«الشرق الأوسط» فتحت ملف السوريين في دول الجوار: الأردن ولبنان وتركيا وكردستان العراق، وسألت مسؤولين وخبراء في هذه الدول عن الأفكار الروسية، كما استطلعت آراء سوريين وشروطهم للعودة إلى بلادهم، في ظل غياب الحل السياسي الذي كانت شريحة واسعة منهم تأمل فيه. وهنا التحقيقات:
مع إعلان الخطة الروسية لإعادة نحو 1.7 مليون لاجئ سوري إلى ديارهم، خرجت تقارير إعلامية تركية تفيد بأن تركيا تخطط هي الأخرى لإعادة قسم من السوريين اللاجئين الذين باتت أعدادهم تقترب من 4 ملايين؛ إذ أصبحوا مشكلة ذات أبعاد سياسية واقتصادية؛ وإن كانت أنقرة جنست 300 ألف.
وعقب لقاء الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي، زار وفد من ممثلين عن وزارتي الخارجية والجيش والمخابرات الروسية تركيا لبحث مسألة عودة اللاجئين وذلك قبل انعقاد اجتماع ضامني آستانة (روسيا وتركيا وإيران) في سوتشي.
وتصاعد الحديث من الجانب الروسي، بشكل خاص، عن عودة اللاجئين من دول الجوار ومن دول أوروبية، فيما عُدّ من المراقبين «محاولة من أبرز حلفاء نظام بشار الأسد للتأكيد على انتصاره ودفع المجتمع الدولي إلى تحمل فاتورة إعادة إعمار سوريا مقابل الإعادة القسرية للاجئين تحت شعار أنها طوعية».
من جهتها، تسير تركيا بخطة خاصة بها لإعادة ما تستطيع من اللاجئين السوريين إلى المناطق التي قامت قواتها بالتعاون مع فصائل «الجيش السوري الحر» الموالية لها بالسيطرة عليها في مناطق «درع الفرات» و«غصن الزيتون» في الشمال السوري.
وكانت تركيا ترغب في إقامة منطقة حظر طيران في الشمال السوري لضمان عودة اللاجئين، لكن جهودها لم تلق نجاحاً، حتى تدخلت في أغسطس (آب) عام 2016 بشكل مباشر في الصراع من خلال الدفع بجيشها إلى شمال سوريا لتنظيف المناطق المتاخمة لحدودها الجنوبية من وجود مقاتلي تنظيم «داعش» عبر عملية «درع الفرات» التي سيطرت من خلالها على منطقة تمتد من جرابلس إلى الباب ثم مدت سيطرتها في شمال وشمال شرقي حلب.
وإلى جانب الضغط الاقتصادي الذي ترغب تركيا في التخفيف من حدته، أصبحت حكومتها تواجه ضغطا من الشارع للتخفيف من عبء اللاجئين الذين تسبب وجودهم في مشكلات اجتماعية وفي الحد من فرص العمل من خلال تقاضيهم مبالغ أقل من الحد الأدنى للأجور ودون تأمينات أو تكاليف إضافية لأرباب الأعمال.
وسياسيا، استغلت قضية اللاجئين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في يونيو (حزيران) الماضي وأعلنت المعارضة أنها ستعمل على إعادة السوريين حال الفوز بالانتخابات. وفي الوقت ذاته، هناك قطاع عريض من أنصار «حزب العدالة والتنمية» الحاكم بدأ يضيق ذرعا بوجود السوريين في البلاد، خصوصاً في المدن الكبيرة وفي مقدمتها إسطنبول بسبب تأثيرهم على نمط الحياة فيها. وباتت الحكومة لا تدافع كثيرا عن بقاء السوريين، بل بدأت الإسراع بجهود إعادتهم إلى ديارهم عبر الإسراع بالانتهاء من تأهيل المناطق الخاضعة لسيطرتها في الشمال السوري لإقناع سكانها بالعودة إليها.
وأسرعت الحكومة التركية بمشروعات تأهيل البنية التحتية في منطقة «درع الفرات» وأنشأت مستشفيات ومدارس وفروعا لبعض جامعاتها، ومراكز خدمية للمقيمين في ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي لتأمين الظروف المناسبة لعودة أكبر عدد ممكن من اللاجئين المقيمين على أراضيها. ومن المنتظر أن يتم خلال العام الحالي افتتاح كثير من المنشآت الكبرى في المنطقة، إثر الانتهاء من مستشفى الباب، الذي يعد الأول من نوعه في المنطقة من حيث المساحة والسعة والتخصصات والكوادر الطبية والإمكانات.
وذكر القائمون على المستشفى أن قدرته الاستيعابية تبلغ 200 سرير و8 غرف عمليات، ومختبرات كاملة للتحاليل، ومن المنتظر أن يدخل الخدمة قريباً بعد استكمال كوادره الطبية والإدارية. كما ستقوم الحكومة التركية بإنشاء مستشفيات أخرى، في مدينة إعزاز، أبرز مدن ريف حلب الشمالي، وجرابلس شمال شرقي حلب. وهناك مستشفيان في بلدتي مارع والراعي تحت الإنشاء لتقديم خدمات طبية متكاملة لسكان منطقة «درع الفرات»، والحد من حالات تحويل المرضى إلى المستشفيات التركية، وتشجيع آلاف السوريين اللاجئين في تركيا على العودة إلى بلدهم.
وبالإضافة إلى عمليات إعادة إعمار المنازل من قبل أصحابها، أنشأت تركيا مساكن جديدة، خصوصا أن المنطقة استقبلت آلاف المهجرين قسراً من ريف دمشق وريف درعا وجنوب دمشق ومن مدينة حمص وريفها.
وقالت مصادر في بلدية غازي عنتاب لـ«الشرق الأوسط» إن السلطات التركية تولت ترميم المدارس والمساجد في المنطقة، كما أنشأت حدائق عامة، ومهدت الطرق التي تربط بين مدن وبلدات المنطقة.
وأشارت إلى أن وزارة التربية التركية تشرف على المدارس وتصرف رواتب للمدرسين السوريين تعادل 150 دولاراً شهريا، وأنشأت جامعة غازي عنتاب فرعاً لها في مدينة جرابلس السورية. كما أنشأت جامعة «حران» التركية في شانلي أورفا فرعاً لها في مدينة الباب السورية، يضم تخصصات مختلفة وكليات للهندسة والعلوم، وسيبدأ استقبال الطلاب مع العام الدراسي الجديد في هذه الكليات في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل.
ولا يزال الوضع الأمني في منطقتي «درع الفرات» و«غصن الزيتون» التي تضم عفرين وريفها، غير مستقر ويشكل عاملا سلبيا بالنسبة للجهود المبذولة من جانب تركيا لترغيب السوريين في العودة إلى مناطقهم، بسبب فوضى السلاح، وتعدد الفصائل وتباين أهدافها، الأمر الذي يتسبب في تأخير عودة مزيد من السوريين إلى بلادهم.
ويقول مراقبون إن الجيش التركي لم يتدخل بحسم لتحجيم هذه الفصائل والسيطرة عليها والنتيجة أنها تتحرك بلا رادع حقيقي. وتقيم عشرات الفصائل المنتشرة في المنطقتين الحواجز بين المدن والبلدات، فضلاً عن دخولها، بين فترة وأخرى، في اقتتال داخلي على النفوذ والسيطرة، مما يعزز بيئة عدم الاستقرار الأمني.
وتشدد تركيا على احترامها مبدأ عدم الإعادة القسرية للاجئين، وجاء في بيان للمديرية العامة للهجرة ردا على تقرير لمنظمة «هيومان رايتس ووتش» صدر في مارس (آذار) الماضي، وتحدث عن انتهاكات يتعرض لها الفارون من الاحتراب الداخلي في سوريا، أن «السوريين يتم قبولهم وحمايتهم في تركيا، والسوريون الذين دخلوا تركيا بطريقة أو بأخرى ويطلبون الحماية، لا تتم إعادتهم، ونقوم بإجراءات الاستقبال والتسجيل. السوريون القادمون إلى تركيا ليسوا تحت أي ظرف من الظروف مجبرين على العودة إلى بلدهم؛ تسجيلهم مستمر ويمكن لهؤلاء الأجانب الاستفادة من كثير من الحقوق والخدمات في تركيا».
ويساهم عدم استقبال الاتحاد الأوروبي مزيدا من طالبي اللجوء السوريين في الضغط على تركيا.
ويعتقد محللون أتراك أن القمة التركية - الروسية - الفرنسية - الألمانية التي ستعقد في إسطنبول في 7 سبتمبر المقبل سيكون لها دور مهم في ملف اللاجئين. وعدّ المحلل الأمني محمد دوغان أن قمة إسطنبول ستعكس الطموح لتحرك سياسي مستقل عن ضغوط الولايات المتحدة كما سيقود مجددا إلى تعزيز التنسيق التركي - الروسي بشأن سوريا في وقت وصلت فيه التسوية السورية إلى مرحلتها الأخيرة.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!