توافق لبناني على «خروج السوريين» وانقسام حول الشروط

TT

توافق لبناني على «خروج السوريين» وانقسام حول الشروط

في خضم الانقسام السياسي اللبناني حول ملف عودة النازحين السوريين الذي كثيراً ما شكل مادة للانقسام السياسي بين من يطالب بـ«عودة طوعية»، ويشترط عدم التنسيق أو التطبيع مع النظام السوري وبين من يتحدث عن «عودة آمنة»، ويرى ضرورة التنسيق مع الجانب السوري، جاءت المبادرة الروسية التي تقترح تشكيل لجنة ثلاثية من لبنان وسوريا وروسيا لتلاقي ترحيباً من مختلف الأوساط السياسية اللبنانية، ولا سيما أنها تحظى بمباركة دولية ولا تشترط التواصل السياسي مع النظام السوري، بحسب مصدر مطلع ومتابع لتشكيل هذه اللجنة لـ«الشرق الأوسط».
اللجنة، التي توجه جورج شعبان، مستشار رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري للشؤون الروسية، إلى موسكو من أجل الاطلاع على آخر مستجداتها، وتحديداً في موضوع المفاوضات الروسية - الأوروبية بشأن إعادة إعمار سوريا، ستكون لجنة أمنية لوجيستية كما بات معروفاً، ولن يرتبط تشكيلها بتشكيل الحكومة؛ إذ يكفي الاتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري.
في هذا الإطار، أوضح المصدر أنه في حال تشكيل اللجنة سيكون التنسيق السياسي مع الجانب الروسي فقط، وهذا ما يتمسك به الرئيس الحريري ولن يتنازل عنه، وأضاف، أن المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم ينسق أمنياً مع السوريين بطبيعة لحال.
وتشكل المبادرة الروسية بصيص أمل بإمكانية حل ملف النازحين السوريين في لبنان، ولا سيما أنه من المعروف أن هذا الملف لم يكن يوماً لبنانياً، كما يؤكد وزير الدولة لشؤون النازحين في حكومة تصريف الأعمال، معين المرعبي، مذكّراً بأن الدولة اللبنانية كانت ولا تزال تتعامل مع الموضوع من منطلق أخلاقي إنساني؛ إذ لا يمكن أن تتحمل عودة هؤلاء ووجودهم تحت رحمة نظام استخدم شتى أنواع الأسلحة ضدهم.
ويشرح المرعبي، أن الدولة اللبنانية تريد إنهاء هذا الملف، لكن من دون التطبيع مع النظام السوري، ومن دون إجبار الناس على العودة، وبالطبع عبر التواصل مع الأطراف القادرة على إعطاء الضمانات، ومن هنا يرى أن المبادرة الروسية لتشكيل لجنة ثلاثية في هذا الشأن قد تعمل؛ وذلك لأسباب عدة، أولها أن التفاوض سيكون مع الجانب الروسي باعتبار وجود الطرف السوري لا يخرج عن إطار حفظ ماء الوجه، ولأن روسيا قادرة على إعطاء الضمانات التي تريدها الدولة لسلامة هؤلاء النازحين في حال عودتهم، انطلاقاً من الحقيقة التي تقول إن الروس يسيطرون على معظم المناطق السورية.
ويرى المرعبي الوجود الروسي في سوريا حالياً مثلما كان وجود «قوات الردع» في لبنان؛ فروسيا الآمر الناهي، متمنياً أن تقوم الولايات المتحدة أيضاً بمبادرة مشابهة في المناطق التي تسيطر عليها داخل سوريا، قائلاً «كل ما نريده هو مناطق آمنة وضمانات لإعادة السوريين».
وعلى الرغم من الآمال المعقودة على هذه المبادرة وترحيب الجانب اللبناني فيها، فإن الأمر يتطلب دعماً دولياً وتحديداً أوروبياً، كما يقول المرعبي، ولا سيما أن روسيا تقول للأوروبيين «أنا الضامن لحل ملف اللاجئين والعودة الآمنة لهؤلاء، لكن مقابل إعادة إعمار سوريا، أي عودة النازحين مقابل تمويل عملية إعادة الإعمار التي سيتولاها الروسي؛ لذلك لا يمكن نجاح هذه المبادرة من دون دعم الأوروبيين».
ولبنانياً، يرتبط تشكيل اللجنة الثلاثية بتشكيل الحكومة؛ إذ لا يمكن أن نرى هذه اللجنة قبل تشكيل الحكومة كما يقول مرعبي، موضحاً أن «التطبيع مع دمشق هو أيضاً من أحد أسباب تأخر تشكيل الحكومة، ولا سيما أن الفريق الذي نال أغلبية في الانتخابات النيابية بسبب طبيعة قانون الانتخاب يجنح ويصر على التطبيع مع هذا النظام الذي ترفض الحكومة اللبنانية التواصل معه».
وفي حين يعيد المرعبي التذكير بأن الحكومة اللبنانية لم ولن تعطي أي غطاء رسمي لأي سياسي زار دمشق أو تفاوض في هذا الصدد، ينتقد اللجان «غير القانونية والدستورية» التي ظهرت مؤخراً، في إشارة إلى تشكيل «حزب الله» والتيار الوطني الحر لجنتين منفصلتين لتنسيق عودة النازحين، معتبراً أنها وبعد المبادرة الروسية لم يعد لها وجود، قائلاً «روسيا القوة المهيمنة في سوريا حالياً ومبادرتها جمدت كل المبادرات؛ لأن الروسي يقول أنا الضمانة أنا الموجود، وعندما يتكلم الروسي ينتفي دور الأحزاب أو يبقى فقط في الإطار الذي يسمح به الروسي»، مشيراً إلى أن الروس يقومون حالياً ببناء سواتر على الجهة السورية من الحدود اللبنانية - السورية لمنع دخول أو خروج السوريين من وإلى لبنان؛ الأمر الذي يجعل إعادة هؤلاء حتى بطريقة غير شرعية أمراً صعباً.
ويرى مرعبي أن أصحاب هذه المبادرات أو لجان إعادة اللاجئين وضعوا أنفسهم في منافسة مع الروس بعدما وضعوا أنفسهم بمواجه مع الدولة اللبنانية؛ فعلى سبيل المثال أعلن «حزب الله» وبعدما رأى أن الأمن العام قام بتسجيل 3 آلاف لاجئ، تشكيل لجنة تهدف إلى الأمر نفسه، وكأنه يضع نفسه بمنافسة مع الدولة. واليوم وبعد ظهور المبادرة الروسية بات أصحاب هذه اللجان بمنافسة مع الروس الذين كانوا صريحين عندما قالوا مؤخراً إنه لن يكون على الحدود اللبنانية - السورية غير الروس والنظام من الجهة السورية، والدولة اللبنانية من الجهة اللبنانية أي ليس الأحزاب؛ الأمر الذي يعتبر مؤشراً على عدم قبول لأي دور لـ«حزب الله» في هذا الملف.
وكان «حزب الله» أعلن على لسان أمينه العام حسن نصر الله نهاية شهر يونيو (حزيران) الماضي عن تشكيل لجنة تساهم بإعادة النازحين السوريين إلى بلادهم انطلاقاً من العلاقة القائمة مع الحكومة السورية، وقال مسؤول «ملف النازحين السوريين في (حزب الله)» النائب السابق نوار الساحلي، في تصريحات صحافية سابقة، إن اللجنة ستعمل على إعادة النازحين السوريين الذين يرغبون بالعودة الطوعية إلى بلادهم، وأنه سيتم العمل على الأمر من خلال مراكز متخصصة افتتحت في بيروت والجنوب والبقاع، حيث يملأ النازحون استمارات تجمع وترسل إلى المعنيين في سوريا، وبعدها يتم الاتصال بالأمن العام اللبناني لإتمام الأمر. وبعد إعلان «حزب الله» عن إطلاق هذه اللجنة أعلن التيار الوطني الحر إطلاق اللجنة المركزية لعودة النازحين السوريين، وقوبل إطلاق هاتين اللجنتين بعدد من الانتقادات السياسية باعتبارهما تجاوزاً لدور الدولة وغير مقنعتين باعتبار أن «حزب الله» كان وعبر مشاركته في الحرب السورية سبباً من أسباب تهجير السوريين ونزوحهم إلى لبنان، وهنا يقول مرعبي «من المفارقة أن يتصرف (حزب الله) وكأنه جمعية إنسانية أو الصليب الأحمر في ملف إعادة النازحين وهو الذي وبمشاركته في الحرب السورية كان سبباً من أسباب النزوح».
ينظر تكتل لبنان القوي الذي يرأسه وزير الخارجية جبران باسيل إلى المبادرة الروسية حول تشكيل اللجنة الثلاثية بشكل إيجابي، ولا سيما أنها تتمتع بمباركة دولية؛ الأمر الذي يسهل عملها، ويؤكد دعمه هذه المبادرة انطلاقاً من أنها تهدف إلى ما يعمل عليه في ملف إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم.
في هذا الإطار، يؤكد النائب في التكتل جورج عطا الله، أن «لبنان القوي» والتيار الوطني الحر سيقومان بدعم هذه المبادرة لأن هدفهما الأول والأخير هو حل موضوع النازحين في لبنان. وأضاف عطا الله، أن اللجنة ستستكمل عملها طالما أن المقترح الروسي لم يوضع موضع التنفيذ ولم تشكل اللجنة بعد، مبدياً استعداد التيار الوطني الحر للتنسيق مع هذه اللجنة ودعمها والتعاون معها، وبخاصة أنها تتخذ غطاءً دولياً يسهل عملها ويسرع الوصول إلى النتائج المرجوة.
ولم يرفض عطا الله فكرة إيقاف عمل لجنة التيار في حال شُكلت اللجنة الثلاثية وكانت كافية. وفيما خص ما يقال عن موضوع العودة الطواعية قال: إن المصطلح الذي يجب استخدامه هو «العودة الآمنة»، وأن اللجنة من الأساس لم تشكل لإجبار أحد على العودة أو للمزايدة السياسية، بل انطلاقاً من واجب وطني يحتم ضرورة إيجاد حل للنازحين في لبنان، ولا سيما أن واقع الحال لم يعد يحتمل، معتبراً أن الجزء الأكبر من السوريين الموجودين في لبنان نازحون اقتصاديون، ولا سيما أن معظمهم يأتون من مناطق آمنة وليست على الحدود اللبنانية؛ فكان بإمكانهم الذهاب إلى الأردن أو تركيا، لكنهم أتوا إلى لبنان من أجل العمل بسبب التسهيلات التي قدمت من لبنان وعدم تعاطي الدولة بجدية مع هذا الموضوع.
ويتساءل عطا الله، كيف يمكن أن نصنف من يرسل المال إلى عائلته التي تقيم في سوريا آمنة بنازح لأسباب أمنية؟!... مضيفاً، أن الأرقام تؤكد أن أكثر من 400 ألف نازح غادروا لبنان خلال عيد الفطر ومن ثم عادوا إليه؛ الأمر الذي يوضح أن النزوح ليس أمنياً بل اقتصادياً، وأنه لا بد من إيجاد توجه وطني جامع لحل هذه المسألة نأمل أن تحمله المبادرة الروسية.



ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
TT

ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)

مع حلول نهاية عام 2024، يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد قضى 25 سنة كاملة على عرش الكرملين. تغيرت خلالها كثيراً ملامحُ روسيا، كما تغير العالم من حولها. والرئيس الذي تسلم تركة ثقيلة، عندما عُيّن في عام 1999 رئيساً للوزراء من قبل الرئيس بوريس يلتسين، وجد نفسه أمام استحقاقات صعبة، ودخلت البلاد معه منعطفات حاسمة، وواجهت صعوبات كبيرة، لكنها استعادت قدرتها ورسخت مكانتها مجدداً بين الكبار في العالم.

أعلن يلتسين عن استقالته في 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 1999 خلال خطاب ألقاه بمناسبة رأس السنة، وأصبح بوتين رئيساً بالنيابة. وفي شهر مارس (آذار) عام 2000 فاز أول مرة في انتخابات الرئاسة.

تولى بوتين قيادة البلاد منذ ذلك الحين، باستثناء المدة من عام 2008 إلى عام 2012، عندما كان ديميتري ميدفيديف رئيساً وكان بوتين رئيساً للوزراء. ويلاحظ كثير من الخبراء أنه حتى في ذلك الحين كان هو الذي اتخذ القرارات الرئيسية بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية، وكان المقصود من انتخاب ميدفيديف احترام متطلبات الدستور الروسي، الذي لا يسمح لشخص واحد بأن يكون رئيساً أكثر من ولايتين متتاليتين.

بوريس يلتسين (يمين) يصافح بوتين (يسار) خلال حفل الكرملين في موسكو في ديسمبر 1999 (أ.ف.ب)

بوتين في ربع قرن

ربع قرن مدة طويلة إلى حد ما، وعدد محدود من القادة في التاريخ الروسي بقوا في السلطة لمدة أطول. لذا؛ فمن المنطقي أن نلخص النتائج لحكم فلاديمير بوتين.

لقد ورث دولة تعاني من كثير من المشكلات الداخلية، فالعواقب التي خلفها التخلف عن سداد الديون في عام 1998، والتحركات الانفصالية، والبطالة، والفقر... كانت مجرد قائمة صغيرة من التحديات التي كان على فلاديمير بوتين أن يواجهها على الفور.

في عام 1999، قبل أشهر قليلة من استقالة يلتسين، اندلعت حرب الشيشان الثانية في شمال القوقاز. تمكن الزعيم الروسي الجديد من إنهاء العمليات القتالية في أبريل (نيسان) عام 2000. ومع ذلك، باتت الحركة الإرهابية السرية تعمل في الشيشان لسنوات عدة أخرى.

فقط في عام 2009 رُفع نظام عمليات مكافحة الإرهاب هناك، وهو ما عُدَّ نهاية للحرب. والآن الشيشان هي محافَظة مستقرة وآمنة ومزدهرة ضمن الأراضي الروسية، ويزورها كثير من السياح كل عام للتعرف على التقاليد المحلية والتاريخ والمأكولات.

أيضاً، وفي بداية عهد فلاديمير بوتين، أضيفت حوادث طارئة مختلفة إلى حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن العمليات العسكرية في شمال القوقاز. وكان أكثرها صدى في أغسطس (آب) 2000، عندما غرقت الغواصة النووية «كورسك»، وأودت هذه الكارثة بحياة 118 بحاراً، وكانت صدمة لروسيا بأكملها. بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، أصبح ذلك تحدياً حقيقياً، وواجه حينها انتقادات لعدم استجابته بشكل كافٍ للحادثة.

تضاف إلى هذه الأحداث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطرة التي كان على رئيس الدولة حلها. أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية، فرغم أن موسكو لا تزال عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنه حينها لم يكن لها أي دور مهم في الشؤون الدولية. لقد كان العالم أحادي القطب لمدة طويلة؛ في الواقع، كانت الولايات المتحدة منخرطة في غالبية العمليات على المسرح العالمي.

سيدة تبيع قطعة لحم كبيرة وسط حشود من الناس على أمل التغلب على أزمة النقص وارتفاع الأسعار في موسكو خلال الحقبة السوفياتية (غيتي)

«خطاب ميونيخ»

نقطة التحول كانت في عام 2007 عندما ألقى فلاديمير بوتين خطابه الشهير خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن»، وذكر فيه تهديدات صادرة من توسع حلف «الناتو»، كما أشار إلى عدم قبول الحالة أحادية القطب أو تجاهل القانون الدولي.

في الوقت نفسه، أشار الزعيم الروسي إلى أن موسكو ستتبع سياسة خارجية مستقلة، وإلى أن تطورات الأحداث على الساحة العالمية، بما في ذلك استخدام القوة، يجب أن تستند فقط إلى ميثاق الأمم المتحدة.

كان على روسيا أن تثبت هذه الأقوال بالأفعال في وقت قريب جداً. في أغسطس عام 2008 أرسلت جورجيا قواتها إلى أوسيتيا الجنوبية وقصفت قاعدة لقوات حفظ السلام الروسية هناك. وخلال الحرب التي استمرت 8 أيام، تمكنت موسكو من هزيمة تبيليسي، واعترفت بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا دولتين مستقلتين.

مع هذا، فإنه لم يتبع ذلك هدوء طويل الأمد. في نهاية عام 2010، اندلع ما يسمى «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في السنوات الأولى، لعبت روسيا دوراً سياسياً ودبلوماسياً في هذه الأحداث، وعملت بنشاط على منصة مجلس الأمن، لكن كما معروف، كان على موسكو لاحقاً أن تثبت قوة أسلحتها.

قبل ذلك، بدأت حالة التوتر في أوكرانيا. في عام 2014، على خلفية الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن، وقع انقلاب في كييف. أسقط ممثلو ما تسمى «المعارضة»، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وذلك على الرغم من الاتفاقات لحل النزاعات وإجراء الانتخابات الرئاسية. وعارض سكان دونباس وشبه جزيرة القرم تطور الأحداث هذا.

في النهاية، أُجري استفتاء في القرم حول الانضمام إلى أراضي روسيا في مارس عام 2014، وأيد هذا القرار أكثر من 96 في المائة من الناخبين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية.

كان دونباس أقل حظاً؛ إذ استمر لسنواتٍ القتالُ المسلح بين متطوعي هذا الإقليم من جهة؛ والقوات الأوكرانية من جهة أخرى، وكان القتال بدأ في ربيع عام 2014، وأودى بحياة آلاف الأشخاص؛ بينهم نساء وأطفال.

وحتى على الرغم من توقيع «اتفاقيات مينسك» في عامي 2014 و2015، التي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وتسوية وضع دونباس، فإن قصف نظام كييف لم يتوقف حتى عام 2022. ورغم ذلك؛ فإن كثيرين بدأوا ينظرون إلى انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بوصفه تحدياً من موسكو للولايات المتحدة ومحاولة روسية قوية للعب دور بارز على الساحة الدولية.

قوات جورجية تطلق النار فوق جدار على الجبهة في شمال غرب جورجيا أثناء الحرب الأهلية في يوليو 1993 (غيتي)

سوريا ونفوذ روسيا

أثبتت روسيا هذا بشكل أقوى في عام 2015، عندما بدأت العملية العسكرية في سوريا. آنذاك تمركز مقاتلو المعارضة ومجموعات إرهابية في ضواحي دمشق. كان هناك وضع حرج يتطور بالنسبة إلى السلطات المركزية في دمشق. ومع ذلك، فقد أدى القصف الجوي الروسي المكثف إلى وقف تقدم المتطرفين، ودفعهم إلى الوراء، وبدء تحرير المناطق الرئيسية بالبلاد التي جرى الاستيلاء عليها تقريباً منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011.

وأظهرت العملية العسكرية قدرات روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط. فهذا النفوذ لم يعزز موقف موسكو في المنطقة فحسب؛ بل سمح أيضاً لفلاديمير بوتين بتقديم نفسه مدافعاً عن الاستقرار الدولي ضد التهديدات الإرهابية.

لكن سوريا لم تصبح نقطة أخيرة في تعزيز مواقف روسيا على الساحة الدولية. وعادت موسكو إلى أفريقيا، حيث كانت غائبة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي عدد من الحالات، تمكن فلاديمير بوتين من طرد فرنسا والولايات المتحدة. حدث هذا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.

تقليدياً، يُنظر إلى روسيا على أنها تعارض الاستعمار، أو بشكل أكثر دقة: الاستعمار الجديد. وهذا ما يؤتي ثماره. فقد تمكنت موسكو من بناء تعاون اقتصادي وعسكري مع الدول الأفريقية على أساس الاحترام المتبادل ودون التضحية بمصالحها الخاصة.

ولكن ربما كان التحدي الرئيسي الذي واجهه فلاديمير بوتين هو قرار إجراء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير (شباط) 2022. ويستمر القتال لحماية سكان دونباس، فضلاً عن نزع السلاح وإزالة النازية من أوكرانيا، حتى يومنا هذا.

تمكنت روسيا من تحرير مناطق كبيرة وإنشاء ما يسمى «الجسر البري» إلى شبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى ذلك، توسعت حدود البلاد بسبب الاستفتاءات التي أُجريت في جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وكذلك في منطقتَي خيرسون وزابوروجيا.

أوكرانيون يعبرون مساراً تحت جسر مدمر أثناء فرارهم من ضواحي كييف في مارس 2022. (أ.ب)

علاقات بديلة

ومع ذلك، أصبح على روسيا أن تدفع ثمناً كبيراً مقابل السياسة السيادية والمستقلة. ورغم عدم وجود تصريحات رسمية حالياً بشأن عدد الخسائر في صفوف الجيش الروسي، فإن الأدلة غير المباشرة من المسؤولين الروس تشير إلى أنها تجاوزت خسائر الاتحاد السوفياتي في حربه بأفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت موسكو لعقوبات وحشية وضغوطات سياسة واقتصادية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائها.

في جوهره، كان الأمر يتعلق بمحاولة عزل روسيا سياسياً واقتصادياً ومالياً. ومع ذلك، لم تستطع الدول الغربية تحقيق ذلك. تمكنت موسكو من بناء علاقات تجارية بديلة، والحفاظ على اتصالات وثيقة مع الدول الآسيوية؛ بما فيها دول الشرق الأوسط. وبشكل عام، فإن الاقتصاد الروسي، رغم كل التوقعات، لم يَنْهَرْ، بل يظهر نمواً.

كانت السنوات الخمس والعشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة بمنزلة حركة تقدمية للخروج من حفرة الأزمات التي وجدت روسيا نفسها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نحو الاستقرار الداخلي وإحياء موسكو بوصفها لاعباً قوياً على الساحة الدولية.

وكما يعترف كثير من أولئك الذين ينتقدون سياسات فلاديمير بوتين، فإن شعب روسيا لم يَعِشْ بمثل هذا الثراء من قبل، ولم يَحْظَ سابقاً بمثل هذه الفرص للتنمية... سيارة شخصية، ورحلات إجازات في داخل البلاد وخارجها، وفرص شراء السلع الاستهلاكية دون أي قيود، والحصول على التعليم، وخلق مهنة في أي مجال... كل هذا أصبح ممكناً بالنسبة إلى كثير من سكان روسيا، رغم أنه قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة لم يكن من الممكن تصور أي شيء كهذا.

في الوقت نفسه، أصبحت مسألة من سيحل محل بوتين، عندما تنتهي الفرصة التي يوفرها الدستور للاحتفاظ بالمنصب الرئاسي، ملحة بشكل متنامٍ، ولعل «اختيار مثل هذا الشخص وإعداده» هو التحدي الأهم الذي لم يواجهه فلاديمير بوتين بعد.

* كاتب روسي