من يحب إف. إس. نايبول الإنسان، ذا اللسان السليط، الذي رحل أول أمس عن 85 عاماً؟ قليلون. فقد دخل في معارك «أدبية» حتى مع أصدقائه المقربين، ومنهم الإنسان الذي كان الأقرب إليه، الشاعر ديريك والكوت، النوبلي مثله، وابن بلده، ترينيداد؟ ولم يترك بلداً وجنساً إلا هجاه، حتى أسرته، البلد الذي آواه، بريطانيا، لم يسلم من لسانه، رغم أنه تصالح معه أخيراً. رجل ساخط، متبرم من كل شيء، حتى من نفسه، ربما بسبب ذلك الخليط العجيب، الذي ولّده: الهند، الجزيرة الكاريبية، وأخيراً الجزيرة الإنجليزية.
ولكن من لا يحترم نايبول أديباً وكاتباً وروائياً وناثراً؟ قليلون. وقد أشار إدوارد سعيد لذلك، حين انتقد رؤية نايبول الاستشراقية في كتاباته ورواياته، لكنه اعترف أنه ككاتب يفرض عليه احترامه وتقديره.
وإدوارد سعيد ليس وحيداً في ذلك. لقد فرض نايبول احترامه على الجميع تقريباً، حتى أعدائه وهم كثر، رغم أن آراءه عن شعوب، وأمم، وأديان، وحضارات صادرة عن هوى ذاتي، وليست موضوعية إطلاقاً، وقراءاته للتاريخ يصيبها التعسف، وسوء النية، وعدم الحياد في مواضع كثيرة. الأكاديمية السويدية لم تكن على صواب قط حين ذكرت في حيثيات منحه جائزة نوبل عام 2001 أنه «يملك رؤية متكاملة في رواياته، ويمتلك أيضاً وجهة نظر محايدة ونزيهة في الأعمال التي تتناول التواريخ والحضارات الأخرى».
كلا، لم يكن الأمر كذلك. ربما يحترم الكثيرون نايبول لسبب واحد: صدقه. وهذا الصدق لا يعني أنه على صواب. لكننا نشعر أنه على صواب داخل النص، وليس خارجه، وأن دعواه تنتقل إلينا، بالرغم منا. وهذا ما يفعله كل أدب عظيم. أن يأخذك النص إليه، ويأسرك، ويجمد عقلك وأحاسيسك الأولى، ليحل فيك ما يريده هو، قبل أن تعود لعالمك الأول، وذاتك، وعقلك... وقد لا تعود. يشعر القارئ أن هناك شيئاً يعذب نايبول، وهو يصدر عن هذا العذاب، وأن هناك ميلاً، يقترب من درجة الهوس، لرؤية الأشياء كما يريد. لقد هجا ترينيداد، الغارقة في الجهل والتخلف، كما يقول، ولكنك تشعر أن وراء هذا الهجاء الذي يقترب من البغض، رغبةً في أن يراها كما ينبغي أن تكون. هجاء دافعه الحب العميق الذي قد لا يبين.
لم يعرف نايبول ذاته إلا أخيراً. ولعله لهذا السبب أعلن أنه سيعتزل الكتابة قبل نحو عشر سنوات. لم يبق سوط هناك يجلده. لقد شعر، في سنواته الأخيرة في بريطانيا، أنه تصالح مع نفسه، وماضيه، وانتمائه، وما عاد يبحث عن شيء، أو يسعى لدمج الوطن الجديد بالوطن القديم، والثقافة القديمة بالثقافة الجديدة, على عكس والكوت, الأكثر أصالة.
ربما كان نايبول صادقاً حين كتب عام 1990: «إن رحلتي من ترينيداد إلى إنجلترا هي رحلة من الخارج إلى المركز، من الأطراف إلى القلب، قلب الحضارة الغربية، التي هي المركز، وكل ما عداها هي أطراف ولا بد لها أن تنضوي تحت لواء الغرب». وكان قد كتب عندما وصل إلى هذا البلد وهو في الثامنة عشرة من عمره: «عندما وصلت إلى بريطانيا شعرت أنني بلا ملابس، وأنني شخص قبيح أسود». لقد حل «لغز الوصول». كفّ عن البحث عن جذوره، وانطفأت جذوة الكتابة، التي أعطتنا روايات ليس من السهل أن ننساها كـ«منطقة مظلمة» و«في بلد حر» و«منعطف النهر»، و«وهم الظلام»، وخصوصاً «منزل السيد بسواس»، الذي لم يكن سوى نايبول، المتأرجح، شبه الضائع، المقذوف في الهواء، الباحث دائماً عن خلاصه الفردي.
نايبول... البحث المسعور عن الخلاص الفردي
نايبول... البحث المسعور عن الخلاص الفردي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة