المصالحة مع «طالبان» بين المطرقة والسندان

مؤشرات إيجابية إلى قدرة السلطات الأفغانية على تقويض «داعش»

مسلحون من {طالبان} خارج ولاية هلمند في أفغانستان («الشرق الأوسط»)
مسلحون من {طالبان} خارج ولاية هلمند في أفغانستان («الشرق الأوسط»)
TT

المصالحة مع «طالبان» بين المطرقة والسندان

مسلحون من {طالبان} خارج ولاية هلمند في أفغانستان («الشرق الأوسط»)
مسلحون من {طالبان} خارج ولاية هلمند في أفغانستان («الشرق الأوسط»)

«وعدتنا أميركا بالهزيمة واللهُ وعدنا بالنصر، فسننتظر أي الوعدين ينجز أولاً». من يقرأ مقولة زعيم {طالبان} الراحل الملا عمر يستنبط استحالة التوصل لمصالحة وطنية في أفغانستان، حتى وإن ظهرت بين الحين والآخر مساع للتوصل لمصالحة فإنها لم تنته في السابق بنجاح، بالأخص مع رفض حركة طالبان التصالح، وقناعة السلطات الأميركية ضرورة التخلص من الحركة.
كل ذلك يبدو وكأنه قد تم محوه في أعقاب تصريحات قائد القوات الأميركية في أفغانستان الجنرال جون نيكلسون في مطلع يوليو (تموز) الماضي، إذ أكّد آنذاك حصول تفاوض سري ما بين مسؤولين في حركة طالبان ومسؤولين في السلطات الأفغانية من أجل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وذلك في أول تواصل مباشر مع واشنطن في محادثات من أجل إحلال السلام في أفغانستان، الأمر الذي يؤكّد أن العلاقات ما بين الدول والتنظيمات لم تعد على نمط اللعبة الصفرية المحصلة، حيث لا يأتي ربح طرف إلا من خلال خسارة الطرف الآخر، وإنما بات الوضع أشبه بمحاولة التقارب من أجل وقف الصراع الدموي وتحقيق السلام، وإن كانت حيثياته قد جاءت نتيجة فشل القضاء على حركة طالبان لسبعة عشر عاماً من جهة، وظهور تنظيم داعش ليشكل ندّاً مباشرا لحركة طالبان في مواجهات ضارية، والأمر في الآونة الأخيرة يبدو أشبه بحلّ منطقي لجميع الأطراف.

تاريخ متأزم لحركة {طالبان}
ورغم ذلك فلا بد من وجود تساؤلات إن كان الحوار مع حركة طالبان مجدياً لا سيما نتيجة التاريخ المتأزم القديم لحركة طالبان في أفغانستان، منذ أن احتلّت كابل في سبتمبر (أيلول) 1996. بغض النظر عن ذلك، فإن اللافت أن في غضون المفاهمات بين الطرفين، يتضح إحراز حركة طالبان والسلطات الأفغانية تقدماً ملحوظاً في عراكهما مع تنظيم داعش في خرسان، حيث ذكر الناطق باسم حركة طالبان ذبيح الله مجاهد مقتل ما يزيد على 153 من أعضاء تنظيم داعش في خرسان على أيدي الحركة الطالبانية وقد قال بأن «ظاهرة «داعش» الخبيثة انتهت وتحرر الناس من عذاباتها في إقليم جوزجان» في شمال أفغانستان، فيما سلم ما يزيد على 200 «داعش»ي بمن فيهم قائدان أنفسهم للقوات الأفغانية فضلوا القيام بذلك بدل أن يتم القبض عليهم من قبل حركة طالبان.
ورغم أن حركة طالبان في فترة حكمها منذ سبتمبر 1996 وحتى عام 2001 أظهرت موقفها المتشدد في النهج الديني وفي التعامل مع المدنيين الأمر الذي وصل إلى النظام التعسفي ومحاكمة الآخرين وتقييد حرياتهم، ما تسبب بانتفاضة شعبية ضد الحركة. وفي أعقاب سقوط حكم طالبان عام 2001. أصبحت تنظيما مسلحاً يختبئ في المنطقة الجبلية الوعرة، الأمر الذي تسبب فيما بعد بسلسلة من الأحداث الإرهابية التي لم تمس القوات الأمنية أو الجنسيات التي تعتبرها مناوئة لها فحسب، وإنما تضرر منها الشعب الأفغاني برمته، وإن كانت حركة طالبان في بداية تأسيسها قد حرمت قتل المدنيين المسالمين، وتحرص على عدم المساس بالشعب الأفغاني، إلا أنها استمرت حتى إبان تحديد فترات للهدنة مع السلطات الأفغانية في تصريحاتها عن مساعيها مهاجمة القوّات الأجنبية في أفغانستان، الأمر الذي لا بد من معالجته حين تتم مناقشة المصالحة التي تهفو إليها السلطات الأميركية، وإن كانت تعتزم الانسحاب من الأراضي الأفغانية فوراً أم أن ذلك سيكون تدريجياً، إذ تتشابه حركة «طالبان» مع تنظيم «القاعدة» من حيث شيطنة أميركا وقوات «الناتو»، وتحويل كل منهما إلى العدو «الكافر» الذي لا بد من القضاء عليه، والتشديد على أهمية مغادرتهما للبلاد. وقد صرح زعيم حركة طالبان السابق في مناسبات كثيرة برفضه للمصالحة وإصراره على ضرورة مغادرة قوات الناتو لأفغانستان.

مبدأ «لا تفاوض مع الإرهابيين»
شاعت في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر سياسة رفض أغلب الدول المناوئة للإرهاب، التفاوض مع التنظيمات المتشددة، وبالأخص الولايات المتحدة، وقد برزت مقولات شائعة للرئيس الأميركي السابق جورج بوش الذي يندد بالإرهاب، ويذكر أهمية تعامل الدول جميعها مع التنظيمات الإرهابية بعنف وقد قسم العالم إلى قطبين أحدهما هو «محور الشر»، بالأخص وأن تصاعد الهجمات في تلك الحقبة حمل هالة إعلامية كبيرة، جعلت مجرد فكرة التفاوض معهم أشبه بالإذعان لهم وتأكيد شرعيتهم وإظهار الضعف، وإعطائهم الفرصة لتحقيق أهدافهم وللتمادي بالبطش بالآخرين أكثر.
إلا أن حالات كثيرة أكّدت أن الواقع يحتّم حدوث مصالحات مع التنظيمات المتطرفة من أجل تحقيق السلام.
سياسة عدم التفاوض مع المتطرفين برزت نتيجة صعوبة وضوح رؤى التنظيمات الإرهابية وهيكلها التنظيمي، بل وزاد ذلك ليصل في الآونة الأخيرة للتعتيم حتى على قادة التنظيمات وعدم ظهورهم الإعلامي بوفرة، مثل ما حدث مع تنظيم داعش مؤخراً. ورغم جدية الحكومات في قيامها بمساعي المصالحة في عدة حالات، إلا أنه يستحيل تصور إمكانية حدوثه مع التنظيمات الإرهابية التخريبية العابرة للحدود والمكونة من جنسيات متنوعة، وإن كانت القضية شائكة، فتنظيم داعش في خرسان على سبيل المثال يضم أعضاء كانوا في السابق ينتمون لحركة طالبان وقرروا الانسحاب منها والانضمام للتنظيم الآخر. وقبل ذلك قد حصل تنظيم «القاعدة» على ملاذ آمن في كنف حركة طالبان، الأمر الذي يحتّم في حال الوصول إلى تسوية ضرورة التأكيد على عدم إيواء التنظيمات المتطرفة في أفغانستان إلى جانب عدم استخدام الأسلحة وإن لم تكن هناك أي ضمانات لذلك.
ومن المقاربات التي يمكن أن تتشابه مع الأزمة الأفغانية مع حركة طالبان وطول فترتها، تفاوض الحكومة الكولومبية مع الحركة اليسارية المتمردة «فارك» أو «القوات المسلحة الثورية الكولومبية»، التي تأسست في عام 1964. ورغم حجم الضرر وعدد الضحايا الكبير من المدنيين، إلا أن الحكومة الكولومبية توصلت إلى مصالحة في 24 أغسطس (آب) 2016 حين تم التوصل إلى اتفاق للسلام. لم يكن هناك أي تصور بأن بإمكان زعيم حركة «فارك» رودريغو لوندونو أن يقول وسط احتفال رسمي في كولومبيا: «وداعاً للأسلحة، وداعاً للحرب، مرحباً بالسلام». أو أن يتم تسليم الأسلحة وصهرها في نصب تذكاري للسلام بعد سنوات تسببت بقتل أعداد كبيرة من الشعب الكولومبي.
من جهة أخرى فرغم تعهد رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر بعدم التفاوض مع الإرهابيين، إلا أنها خاضت مفاوضات مع الجيش الجمهوري الآيرلندي، وهي أحد أبرز الصراعات في بريطانيا، إذ استمرّت لفترة طويلة، وقد تشكل الجيش الجمهوري الآيرلندي في عام 1919 بهدف استقلال آيرلندا عن التاج البريطاني، واستمرت فيما بعد ذلك على نسق حرب العصابات واستخدام العنف لتحقيق هدفها.
وقد تأرجحت مساعي إحلال السلام مرات كثيرة، فشلت إحداها في يوليو 1972. وتلا ذلك أحداث يوم الجمعة الدموي في بلفاست حيث تم تفجير 22 قنبلة في غضون ثماني دقائق، ولم ينته هذا الصراع إلا في عام 2005 في فترة رئيس الوزراء السابق توني بلير، حين أعلن الجيش الجمهوري الآيرلندي إنهاء كل أنشطته العسكرية وأن مساعيه كلها سيتم تحقيقها من خلال الوسائل السياسية.
وإذا ما اختلفت توجهات كل من «فارك» الكولومبية اليسارية والجيش الجمهوري الآيرلندي الذي هو في الأساس نتاج صراع بروتستاني - كاثوليكي، إلا أنها تتشابه مع حركة طالبان بمدى تأزمها وطول فترتها وتعقيد تركيبتها التي تتداخل مع المجتمع، على نسق حركة طالبان المكونة من قبائل الباشتون التي تملك نفوذاً وقدرة على أعمال العنف وزعزعة الأمن.
وقد ظهر التوجه الدولي للمصالحة الأفغانية في الآونة الأخيرة من خلال عدة مساع، أبرزها مبادرة الملك سلمان بن عبد العزيز لتمديد الهدنة ما بين السلطات الأفغانية وحركة طالبان فترة عيد الفطر، وفيما بعد تعزز الاهتمام السعودي نحو مصالحة أفغانية من خلال المؤتمر الدولي للعلماء المسلمين حول السلم والاستقرار في أفغانستان والذي انعقد في مدينتي جدة ومكة المكرمة في 10 و11 يوليو لهذا العام، حيث تم التأكيد على أهمية الحوار الوطني بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان.
مثل هذه المصالحة من جهة أخرى تأتي من أجل إيقاف التقاتل الذي وقع ضحيته المدنيون في أفغانستان، وقد ظهرت أول بوادر إيجابية في قدرة السلطات الأفغانية على تقويض قوة تنظيم داعش في أفغانستان إلى جانب حركة طالبان.
من جهة أخرى قد يختلف النظر إلى المصالحة وقابلية أعضاء حركة طالبان وقف النزاع والاندماج حسب مكانة أعضاء حركة طالبان وموقعهم في الهرم القيادي، حيث يسهل التعامل مع الأعضاء كلما هبطوا في أسفل الهرم. ورغم ذلك فإنه من الحري أن يكون التوصل إلى المصالحة مع تأكيد لوقف إطلاق النار والاعتداء على المدنيين، أو إيواء الجماعات المتطرفة، وإن كانت لا توجد أي ضمانات على نبذ العنف، إلا أنه من المؤكد أن ستة عشر عاماً من محاولة التخلص من حركة طالبان من دون جدوى تحتم ترجيح كفة المصالحة كتمهيد لتحقيق السلام في أفغانستان.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.