رشيدة طليب... أول فلسطينية ومسلمة على أبواب الكونغرس الأميركي

مناهضة شديدة لليمين... وباحثة عن مكانة للمسلمين في المجتمع والحكومة

رشيدة طليب... أول فلسطينية ومسلمة على أبواب الكونغرس الأميركي
TT

رشيدة طليب... أول فلسطينية ومسلمة على أبواب الكونغرس الأميركي

رشيدة طليب... أول فلسطينية ومسلمة على أبواب الكونغرس الأميركي

تتأهب رشيدة طليب (42 سنة) لدخول مجلس النواب الأميركي كأول امرأة فلسطينية مسلمة تحظى بعضوية أحد مجلسي الكونغرس. وحقّقت طليب هذا الإنجاز المتوقع أن يتأكد رسمياً في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، بعدما فازت بالانتخابات التمهيدية للمقعد المخصص للدائرة الـ13 عن الحزب الديمقراطي في ولاية ميشيغان، التي كانت قد شغلت أحد مقاعد برلمانها (كونغرس ميشيغان) المحلي. وتجدر الإشارة إلى من شبه المحسوم أن تكسب طليب المقعد بالتزكية خلال الانتخابات النصفية الأميركية في نوفمبر بغياب منافس جمهوري ينافسها في دائرتها الانتخابية.
هذا، ولم تنجح المحامية الفلسطينية الأصل بسهولة في معركة الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين، بل تنافست مع خمسة مرشحين أبرزهم، رئيسة مجلس بلدية ديترويت بريندا جونز، ورئيس بلدية ويستلاند بيل ويلد، لكنها حصدت 33.6 في المائة من أصوات الناخبين، متفوقة على الجميع... وذلك بعدما بذلت جهوداً ذاتية كبيرة، وجمعت تبرّعات تفوق المليون دولار، مستندة إلى نشاط دائم وقديم في المنطقة؛ ما جعلها تعرف كل بيت تقريباً. ومن ثم شكرت طليب مؤيديها من موقعها على «تويتر» عقب إعلان فوزها بقولها «شكراً جزيلاً لكم لأنكم جعلتم هذه اللحظة الرائعة ممكنة».
بدأت رشيدة طليب، وهي حامية أميركية فلسطينية الأصل، حملتها للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للاحتفاظ بمقعد الدائرة الـ13 في ولاية ميشيغان بمجلس نواب الولايات المتحدة، موجهة رسالة قوية للمجتمع مفادها أن غير الأميركيين الأصل هم جزء من الحكومة، وجزء من المجتمع كذلك. وساعد طليب في ذلك أن الدائرة التي سعت إلى تمثيلها في ديترويت تقع في واحدة من أفقر الضواحي الحضرية في ميشيغان والولايات المتحدة، وإن نسبة عالية من سكانها من أصول عربية وأفريقية مسلمة. وهذا، مع أنها تشير إلى أن انتماءها الديني أو العرقي لم يكن موضوع نقاش عندما كانت تلتقي الناخبين.
طليب قالت أثناء الحملة «الناس يعانون من نطق اسمي، لكنهم يتذكرون أنني أتيت إلى منزلهم». كذلك، تتذكر أنها في إحدى المرات حينما طرقت باب أحد الناخبين، قال لها «أتعرفين، إن تم انتخابك فذلك مؤشر على أنهم يستطيعون منعنا من القدوم إلى البلاد، لكنهم لن يستطيعوا منعنا من دخول الكونغرس». وقال لها آخر «افعلي ما بوسعك للفوز، أولادي يعانون بسبب هويتهم، مع مَن يكونون؟ إنهم في حاجة إلى رؤية شخص يشبهم داخل الكونغرس، كي يقولوا نعم نحن ننتمي إلى هنا (أميركا)».
والحقيقة أن كثرة من الناس في مدينة ديترويت وضواحيها يعرفون رشيدة طليب أو عنها. ويذكر الكثير منهم أن لها إنجازات مهمة، منها أنها استطاعت إبان عملها التشريعي في كونغرس الولاية أن تحقق إنجازات مهمة مثل رفع الحد الأدنى للأجور، وتحسين مستوى خدمة الرعاية الصحية. وحتى بعدما غادرت كونغرس ولاية ميشيغان ظلت ناشطة في المجتمع، تكافح من أجل العدالة الاجتماعية.
وبرزت طليب لاحقاً كمعارضة شديدة لسياسات الرئيس الجمهوري دونالد ترمب. وقبل سنتين أوقفت وطُردت من لقاء عام بعدما قاطعت كلمة للرئيس في مدينتها ديترويت، وصرخت به «أطفالنا يستحقون أكثر»، وطالبته بقراءة الدستور الأميركي جيداً. وبعد ذلك قالت طليب لشبكة «سي إن إن»، إن والدتها غضبت جداً قائلة لها «لقد أوقفوكِ مباشرة على التلفزيون الوطني»، وردت هي بالقول «إنه أكثر تصرّف أميركي كان بوسعي القيام به».
وفي برنامجها الانتخابي لسباق الكونغرس الأميركي، كتبت طليب «سأقاتل ضد أجندة ترمب التي تضع أرباح الشركات وتخدم الأغنياء على احتياجاتنا... سأقاتل إلى جانبكم من أجل الرعاية الطبية للجميع؛ حتى يتمكن الجميع من الحصول على الرعاية الصحية التي يحتاجون إليها، وعلى أجر أدنى قدره 15 دولاراً يساعد العمال على إعالة أسرهم». وأضافت «سنعمل معاً على محاسبة المُلوثين... لا أستطيع الانتظار حتى أعمل من أجلكم». وترى طليب أن انتخاب ترمب رئيساً للولايات المتحدة كان بمثابة «إنذار» للكثير من النساء الأميركيات اللواتي لم يتقدمن من قبل بمثل هذه الأعداد الكبرى للكونغرس، وخصوصاً من بين صفوف الديمقراطيين. كذلك تقول، إن أسباباً شخصية أيضاً دفعتها إلى تقديم ترشيحها، وعلى رأسها، الصعوبات التي يواجهها ابناها لإيجاد مكانتيهما في بلد أصبح بشكل متزايد معادياً للمسلمين الذين يشكلون نحو 1.1 في المائة من الشعب الأميركي.

الأصول الفلسطينية
ولدت رشيدة حربي طليب في مدينة ديترويت، كبرى مدن ولاية ميشيغان، يوم 24 يوليو (تموز) من عام 1976 لعائلة بسيطة مهاجرة من فلسطين. ووفق سيرتها الذاتية؛ فهي البنت الكبرى بين الأولاد الـ14 لأبيها المتحدّر من بلدة بيت حنينا القريبة من مدينة القدس، وأمها التي هاجرت إلى الولايات المتحدة من قرية بيت عور الفوقا، قرب مدينة رام الله بالضفة الغربية. وهي متزوجة من فايز طليب، وأم لولدين، هما آدم ويوسف.
عمل والد رشيدة بعد استقراره في ميشيغان في أحد مصانع شركة فورد للسيارات، وكان بدايةً قد هاجر إلى نيكاراغوا، ومنها انتقل إلى الولايات المتحدة. وبحكم كون رشيدة أكبر إخوتها وأخواتها، فإنها ساعدت والديها في تربيتهم، بجانب دراستها. كما أسهم وضعها العائلي وكفاحها من أجل العيش الكريم في توجيهها باتجاه الحزب الديمقراطي الأميركي، وتحديداً التيار الليبرالي – اليساري فيه.
تلقت رشيدة طليب تعليمها في مدارس حكومية بديترويت، التي كانت ذات يوم عاصمة صناعة السيارات في العالم، وأنهت تعليمها الثانوي في مدرسة ساوثويسترن هاي سكول عام 1994. ومن ثم، دخلت جامعة واين الحكومية Wayne State University الكبيرة في المدينة، حيث حازت شهادة بكالوريوس الآداب في العلوم السياسية عام 1998، وبعدها التحقت بكلية توماس كولي للحقوق بجامعة ويسترن ميشيغان وتخرجت فيها مجازة في القانون عام 2004. وفي العام نفسه انطلقت في مسيرتها السياسية بالتوازي مع امتهانها المحاماة، فعملت محامية متخصصة في الدفاع عن قضايا مجتمعها المحلي، وناشطة في مكافحة التلوث البيئي، إلى جانب نشاطها في تعزيز قطاع التعليم.
كذلك، رعى ستيف توبوكمان، النائب السابق في كونغرس ميشيغان، خطواتها السياسية الأولى عندما عملت مساعدة له. وعندما تقاعد المقعد المخصّص للدائرة المحلية الـ12 - بحكم انتهاء مدة خدمته في المجلس - شجّعها على خلافته. وبالفعل، خاضت الانتخابات وفازت بالمقعد. وجدّدت فوزها به في انتخابات 2010 بفارق كبير. ثم بعد تغيير حدود الدوائر عام 2012 فازت طليب مجدداً بمقعد الدائرة السادسة الجديدة. واحتفظت به حتى 2014 عندما أخلته بحكم انتهاء مدة خدمتها البرلمانية.
والآن، انتقلت رشيدة طليب من الإطار المحلي في ميشيغان إلى الفضاء الأوسع... إلى الكونغرس الأميركي نفسه، وباتت قاب قوسين أو أدنى من دخوله بعد فوزها بترشيح الديمقراطيين في الدائرة الـ13 المضمونة لهم. وهنا نشير إلى أنها لن تكون أول نائب مسلم في الكونغرس؛ إذ يوجد الآن عضوان مسلمان في الكونغرس، هما كيث إليسون (مينيسوتا)، وأندريه كارسون (إنديانا).

الفرحة في رام الله
أول ما فعلته طليب بعد تلقي نبأ الفوز أنها عانقت والدتها ابنة قرية بيت عور في الضفة الغربية في حين كانت جدتها وخالاتها وأخوالها يتابعون عن كثب مجريات ما يحدث. قالت طليب بعد أن وضعت والدتها العلم الفلسطيني على كتفيها، وقد اغرورقت عيناها بالدموع «لقد تسمّروا أمام شاشة التلفزيون، جدتي وخالاتي وأعمامي تجمّعوا لرؤية حفيدتهم». وللعلم، طوال حياة طليب في الولايات المتحدة، فإنها ظلت على علاقات مع أقربائها، وكانت قد زارت الضفة الغربية لأول مرة عندما كانت طفلة، لحضور زفاف عائلي. ويتذكر أقرباؤها أنها سارعت إلى التساؤل حول اللامساواة الصارخة التي عاينتها حولها في نقاط التفتيش، أو حين انتظار قدوم الحافلة. ومنذ ذلك الحين عادت لتزور فلسطين عدة مرات، آخرها في عام 2006.
وبطبيعة الحال، استقبلت جدة رشيدة وأخوالها وخالاتها والجيران في قرية بيت عور في الضفة نبأ فوز ابنتهم بكثير من الابتهاج، وتجمعوا أمام المنزل المؤلف من طابق واحد بجوار أشجار الزيتون للتهنئة. جاء المهنئون من القرية وباركوا التقدم المهم لابنة قريتهم الصغيرة.
وفي الوقت الذي تشير فيه طليب عبر موقعها على الإنترنت إلى جذورها الفلسطينية وتحتفي بالتراث الفلسطيني، لا يشير موقعها على الإنترنت إلى وجهات نظرها حول النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، وبحسب وكالة «أسوشييتد برس» التي لفتت إلى مقال كتبته رشيدة في عام 2016، فقد وصفت فيه نفسها بأنها سيدة أميركية ومسلمة عربية. لكن خلال الشهر الماضي تحدثت طليب عن كونها مسلمة من أصل فلسطيني، في تصريح لشبكة «سي إن إن »الأميركية قائلة «لا يتعلق الأمر فقط بأن تكون موجوداً وتتباهى بإيمانك... لقد قلت للناس دائماً إن إُظهار جوهر الإسلام، بطريقة مؤثرة، يأتي عبر خدمة المجتمع».

من جناح ساندرز اليساري
من جهة أخرى، مثل أي مرشح آخر تحظى رشيدة طليب بدعم من كثيرين من الليبراليين واليساريين. وهي تحسب من جناح بيرني ساندرز اليساري في الحزب الديمقراطي، بشكل عام تحظى بدعم روابط المعلمين والممرضين وتجار التجزئة في الولاية، وتركز في خطابها على برامج المرأة والطفل والرعاية الصحية.
وتقول سالي هويل، مديرة مركز الدراسات العربية - الأميركية في جامعة ميشيغان – ديربورن، التي تعرف رشيدة منذ 25 سنة، عنها، إنها امرأة «حازمة وكفوءة، وتعمل بجهد وتتمتع بجاذبية كبرى». وتضيف «إنها تهتم بالناس وبالمجتمع الذي نشأت فيه»، مستطردة «لم تنظم حملتها بصفتها مسلمة، بل كمواطنة من جنوب ديترويت مسلمة الديانة. لكن المجتمع المسلم، الذي يشعر بأنه مهمش إلى حد كبير، ساند بقوة ترشيحها».
وتدافع طليب، كما هو معروف لمتابعي حملتها، عن برنامج ينص على المساواة في الرواتب بين الرجال والنساء والتعليم الجامعي المجاني، مروراً بالصحة العامة وحقوق مثليي الجنس، وإلغاء مرسوم الهجرة الذي اعتمده ترمب، إلى جانب حماية البيئة.
وبسبب هذا البرنامج، حظيت كذلك بدعم مشاهير، في مقدمتهم المخرج العالمي اليساري مايكل مور، وهو من أبناء ميشيغان. إذ نشر المخرج صورة تجمعه مع رشيدة احتفاءً بفوزها على حسابه بموقع «إنستغرام»، ودعمها ببعض الكلمات لمساندتها في مشوارها نحو الكونغرس. إذ كتب مور «انتصار رشيدة طليب.. فازت في الانتخابات التمهيدية في ديترويت لتصبح أول امرأة مسلمة في الكونغرس! إنها أميركية فلسطينية، وديمقراطية اشتراكية. لكن الأهم أنها تمتلك قلباً وروحاً وشجاعة لقيادتنا نحو يوم أفضل... إلى الأمام». ومما يذكر أن مور، المعروف بعدائه السياسي مع الحزب الجمهوري الأميركي، ولا سيما الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، كان قد استعاض في العام الماضي عن الوقوف خلف الكاميرا الوقوف على خشبة المسرح في عمل منفرد في برودواي بنيويورك مناهضاً لسياسات الجمهوريين.
وبخلاف توقعات كثيرين، يبدو أن طليب تستقطب كل معارضي الرئيس الحالي ترمب، كما حظيت بدعم عدد من الجماعات الإسلامية التي هنأتها بفوزها، مع أنها أعلنت خلال الانتخابات انسجامها مع موقف التيار اليساري في حزبها المؤيد لـ«زواج المثليين» الذي ترفضه الشريعة الإسلامية.
من ناحية ثانية، يرى متابعو المشهد السياسي الأميركي، أن دخول طليب الكونغرس الأميركي شبه محسوم في نوفمبر المقبل بغياب منافس جمهوري على المقعد الذي شغله النائب الديمقراطي جون كونييرز في ميشيغان، منذ عام 1965 حتى ديسمبر (كانون الأول) الماضي. غير أن منظمات صهيونية وإسرائيلية عدة بدأت بالفعل حملة ضد طليب، مطالبة إياها بضرورة إعلان موقفها من إسرائيل والعداء للسامية، كما بدأت جماعات جمهورية عدة حملة ضدها بسبب معارضتها سياسة الإدارة الجمهورية الحالية.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».