سيرة هجومية حادّة على الثقافة الأنغلوساكسونية

«الثمار الأرضية بأسمائها الفرنسية» لفاضل عباس هادي

لا يحب الكاتب لندن لأنها «مدينة بلا مقاهي أرصفة كتلك التي يراها في باريس وبرلين وبيروت وبغداد»
لا يحب الكاتب لندن لأنها «مدينة بلا مقاهي أرصفة كتلك التي يراها في باريس وبرلين وبيروت وبغداد»
TT

سيرة هجومية حادّة على الثقافة الأنغلوساكسونية

لا يحب الكاتب لندن لأنها «مدينة بلا مقاهي أرصفة كتلك التي يراها في باريس وبرلين وبيروت وبغداد»
لا يحب الكاتب لندن لأنها «مدينة بلا مقاهي أرصفة كتلك التي يراها في باريس وبرلين وبيروت وبغداد»

صدر عن دار «لندن للطباعة والنشر» كتاب «الثِّمار الأرضية بأسمائها الفرنسية» للشاعر فاضل عبّاس هادي، وهو الجزء الثاني من ثلاثية «الورّاق» التي نعتبرها سيرة ذاتية وثقافية ونقدية للمؤلف الذي توزعت اهتماماته بين الشِّعر، والنقد الأدبي والفني، والتصوير الفوتوغرافي، والكتابة الحُرّة التي تجمع بين دفّتيها خليطاً من الأدب، والفن، والنقد، والسياسة، والاستذكارات المصهورة في «نص مفتوح» يمكن للمتلقي أن يقرأه من أي صفحة يشاء. غير أن هذا النص المهجّن ينطوي على خطوط ظاهرة للعيان أبرزها المراجعة النقدية لكل ما قرأ أو وقعت عليه عيناه منذ صباه وشبابه حتى الوقت الحاضر، وقدرته الواضحة في التحليل النفسي سواء للشخصيات الثقافية والإبداعية أو للمجتمعات التي يرصدها في متون دراساته وكتبه النقدية التي تعتمد على انطباعاته الذاتية التي يؤازرها «مُرافقهُ الخفي» الذي يغمره بالمفاجآت السعيدة والمُدهشة.
دعونا نعترف بأن ثلاثية «الورّاق» هي سيرة هجومية بامتياز، وتحشر القارئ في مقارنة عويصة بين الثقافة الأنغلوساكسونية والثقافة الفرنسية، ويعني بالأنغلوساكسون بريطانيا وأميركا وأستراليا، ثم يستدرك ليقول بأنه لا يقصد بريطانيا برمّتها وإنما «إنغلاند» فقط بعيداً عن الآيرلنديين والاسكتلنديين والويلزيين. وحينما يأتي على ذِكر الأميركيين والأستراليين بوصفهم أنغلوساكسونيين أيضاً يخفِّف من لهجته وغلوائه بحجة «أنهم عرّضوا اللغة الإنجليزية للتهوية، وخلّصوها من الروائح العطنة التي علقت بها على مرّ العصور».
لا يقتصر هجوم فاضل عباس على اللغة الأنغلوساكسونية فقط، وإنما يمتدّ إلى أدبائها ومبدعيها وأناسها ومدنها، خصوصاً لندن. كما لم تسلم منه الحكومة البريطانية بساستها ووزرائها وبرلمانييها. وفي السياق ذاته يوجِّه انتقاداته الحادّة إلى الماكينة الإعلامية المتمثلة بالصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة. فكل شيء فرنسي، حسب الكاتب، هو أفضل من كل شيء أنغلوساكسوني. تُرى، هل تصحّ هذه النظرية؟ وهل يتقبّلها المتلقي الذي يقرأ هذا الكتاب؟
نقرأ في الصفحة الاستهلالية مُقتَبساً مشتركاً للروائي الفرنسي جول رونار والكاتب فاضل عباس يقولان فيه: «أحب موبسان لأنني أشعر بأنه يكتب لي وليس لنفسه. قل لي متى قرأتَ لكاتب أنغلوساكسوني، وشعرتَ بأنه يكتب لكَ؟ أنا لم أقرأ».
يركز المؤلف على مساوئ اللغة الإنجليزية فهي لغة العاهات، والحروب، والأسلاك الحديدية الشائكة، والتجارة، والصناعة، والعلوم وما إلى ذلك، بينما الفرنسية هي لغة الحُب، والتسامي، والأغصان المتعانقة، فهو يعيب على الإنجليز تسمية الجنائني بـTree Surgeon التي تعني «جراحة الأشجار»، أو استعمال «دودة كتب Bookworm» بدلاً من Booklover عاشق كتب، أو يجترحون «الدعسوقة» من كلمتين هما Lady+ Bird لتصبح Ladybird بينما هي Coccinelle بالفرنسية، كلمة جميلة واحدة لا غير، أو كلمة Pickpocket التي تتألف هي الأخرى من كلمتين أعطتا بالكاد معنى «النشّال» في إشارة واضحة إلى عدم قناعة الكاتب باللغة التلصيقية الأنغلوساكسونية مع أنّ التلصيق موجود في عدد كبير من اللغات الأخرى.
الشخصيات الأدبية الأنغلوساكسونية التي انتقدها الكاتب كثيرة ولا يمكن حصرها في هذا المقال لكننا سنتوقف عند ستة أسماء أدبية لامعة وهي: كولن ولسن، وفرجينيا وولف، ود. ه. لورنس، وإي. إم. فورستر، وتشارلز ديكنز، ووليم شكسبير. صبّ المؤلف جامَ غضبه على ولسن لأنه كتب عدداً من روايات الجريمة، كما أصدر أيضاً «إنسيكلوبيديا الجريمة» بالاشتراك مع باتريشيا بيتمان. أما فرجينيا وولف فقد نظرت إلى العالم في كتاباتها من مستوى الدودة وليس من منظور الطير، كما قرّعها الكاتب بسبب شذوذها الإيروسي الذي لا يهمنا كمتلقّين. رواية «عشيق الليدي تشارلي» لـ«د. ه. لورنس» وصفها الكاتب بكلمة «مُفتعلة» ليلغي العلاقة العاطفية القائمة بين شخص من الطبقة العاملة، وامرأة من الطبقة العليا، ويطعن في مصداقية الرواية وإبداعها. لم تشفع لفورستر روايات «موريس»، و«أطول رحلة» و«الطريق إلى الهند» لأنه كان «منحرفاً» بلغة ذلك الزمان. لم يلتفت الكاتب إلى رواية «الآمال العظيمة» التي تعد الأكثر تأثيراً وشعبية وإنما التفت إلى تحيّز ديكنز ضد السامية متفادياً التدقيق في الجوانب الفنية كاللغة، والشخصيات، والبنية المعمارية للنص الروائي. أما الانتقادات الكثيرة التي وجهها إلى مسرحيات شكسبير فهي مقبولة، ومنطقية إلى حدٍّ كبير ولا نستغرب حينما يصفه «بأنه عنيف، ودموي واحترابي». وقد استعان برأي ليو تولستوي الذي وجّه انتقادات لاذعة إلى اللغة المزوّقة لشكسبير، والشخصيات التي تتحدث بلسانه، والأمثال التي لا تخدم النص المسرحي وسواها من الملحوظات التي تولّد في نفسه «الملل والنفور والحيرة».
عيوب لندن كثيرة من وجهة نظر الكاتب، فهي مدينة بلا مقاهي أرصفة كتلك التي يراها في باريس، وبرلين، وبيروت، وبرشلونة، وبغداد، المدن التي يحبها، ويسترخي بين جوانحها فلا غروَ أن يجرّدها من إنسانيتها لأنها المدينة الوحيدة التي تبيع الحدائق والمتنزهات والأماكن العامة للأثرياء القادمين من وراء الحدود. وهي المدينة الوحيدة التي تتقوقع على نفسها، وتشذب الأشجار بالمناشير الكهربائية لكي لا تعانق أغصانها الساكنين وراء النوافذ الزجاجية.
حينما كانت تيريزا ماي وزيرةً للداخلية كانت مؤيدة قوية للبقاء في الاتحاد الأوروبي، أما الآن فقد أصبحت من أقوى الداعين إلى الانسحاب، فهي كبريطانية تفضل العزلة والتوحد مثل أي مواطن أنكَلو - ساكسوني ضائع لا يدري إن كان هو أوروبياً أم أطلسياً. تيريزا ماي وجيرمي كوربن كلاهما يعاني من تكلّس في العمود الفقري، وخلل في القصبات الهوائية، فكيف تقف الجزر البريطانية بقامة منتصبة لتسمع صوتها إلى الأجزاء الثلاثة الأخرى التي يفكر بعضها في البقاء ضمن الاتحاد والأوروبي والانفصال النهائي عن المملكة العتيدة.
يُسقِط الكاتب أوراق التوت عن وزراء وبرلمانيين وأساقفة لا يجدون حرجاً في كشف المستور، وانتهاك القيم الأخلاقية المتعارف عليها بحجة الحقوق والحريات الشخصية، ولا يكتفي بالإشارة إلى تيريزا ماي وإنما يعود إلى مارغريت ثاتشر التي كانت تردد «أننا أمة تجارية عظيمة»، ويذهب أبعد من ذلك بكثير إلى بوديكا Boudica التي كانت متعطشة للدماء.
أشرنا سلفاً إلى أن هذا الكتاب هو سيرة ذاتية وثقافية ونقدية للشاعر فاضل عباس هادي المولع باقتناء الكتب وقراءتها منذ صغره، بل إن مدير المكتبة العامة في الناصرية صبري حامد كان يسمح له دون غيره بالدخول إلى مستودع الحوليات والكتب الأجنبية لأنه كان يعرف شغفه باللغة الإنجليزية آنذاك قبل أن ينجذب إلى اللغة الفرنسية خاصة، وبقية اللغات الرومانسية من باب الاطلاع عليها ومقارنتها باللغة الأنغلوساكسونية التي صار ينفر منها لاحقاً. وربما لعبت المصادفة العجيبة أن الكائن السيري قد شاهد لوحة «حانة في فولي بيرجير» لإدوارد مانيه في المستودع المذكور، وبسببها بدأ يحب النادلات في المقاهي والحانات التي يرتادها في برلين وباريس وبيروت وسواها من المدن الحميمة الأخرى.
وعلى الرغم من كثرة القصص والوقائع الصادمة في هذا الكتاب فإن أسلوبه الجريء، ولغته التهكمية الساخرة هي التي منحت هذه السيرة نكهتها الخاصة، فحينما يتحدث بالمحكية العراقية عن منطق الأنغلوساكسونيين يصفه بـ«العكرف لوي»، أي الملتوي أو المتعرِّج، وحينما يرد اسم شخص فَكِه يحب النكتة ينعته بـ«الشقدنحي»، ويتحول النشّال إلى «ضرّاب جيب» وما إلى ذلك من مفردات محببة يستعملها عامة الناس.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.