إبادة الكتب... التاريخ المخزي للقرن العشرين

مارستها الأنظمة المستبدة وفي مقدمتها النازية

مثلما يحدث للبشر لم تسلم الكتب من حروب إبادة على مدار التاريخ
مثلما يحدث للبشر لم تسلم الكتب من حروب إبادة على مدار التاريخ
TT

إبادة الكتب... التاريخ المخزي للقرن العشرين

مثلما يحدث للبشر لم تسلم الكتب من حروب إبادة على مدار التاريخ
مثلما يحدث للبشر لم تسلم الكتب من حروب إبادة على مدار التاريخ

مثلما يحدث للبشر، لم تسلم الكتب من حروب إبادة على مدار التاريخ، فها هو باول جوزف غوبلز،‏ وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر، صاحب العبارة الشهيرة «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي»، يخاطب مجموعة من شبانه الموالين للنظام وهم يحرقون آلاف الكتب على مرأى ومسمع من الجميع، في طقس احتفالي حماسي فرضته النازية الألمانية، ضمن ما فرضت من إبادة وتطهير عرقي، قائلاً «لقد أبْلَيْتُم أيها الطلاب بلاءً حسناً في هذه الليلة بإلقاء آثار الماضي هذه في قلب النيران... الماضي يرقد هنا في قلب النيران... واليوم تظلنا هذه السماء وأمام هذه الألسنة من اللهب سنقسم قسماً جديداً»، لتكون الحقبة الهتلرية الحالة المثالية لتدمير الكتب والمكتبات في القرن العشرين.
هذه الواقعة وغيرها ضمن ما يرصده كتاب «إبادة الكتب... تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين» الصادر حديثاً عن سلسلة «عالم المعرفة» في الكويت لمؤلفته ربيكا نوث، الأستاذة بجامعة هاواي والمختصة بعلوم المكتبات، وترجمه للعربية الباحث المصري عاطف سيد عثمان.
يروي الكتاب عشرات الوقائع المأسوية لإحراق وإبادة الكتب والمكتبات خلال القرن العشرين، الذي يوصف بأنه «الأكثر دموية بين القرون جميعاً؛ إذ كان فيه القتل الجماعي للمدنيين هو سبب معظم الوفيات خلاله»، وهو القرن الذي شهد إبادات جماعية مماثلة للكتب، وكل ما يمثل الثقافة والحضارة.
وتضمّن ربيكا نوث كتابها الكثير من الاعترافات المخزية والمؤسفة من جهة، والنادمة والمعتذرة من جهة أخرى للذين شاركوا في مثل هذه المحارق للكتب، ففي لحظة ندم يتذكر الكاتب الصيني با جين هذه الحالة الهياجية لإحراق الكتب أثناء الثورة الثقافية الصينية تحت حكم ماو تسي تونغ قائلاً «دمرت الكلاسيكيات الأدبية كأنها فئران تمر عبر الشوارع... بيدي دمرت كتباً ومجلات وخطابات ومخطوطات كنت أحتفظ بها لسنوات باعتبارها كنوزاً... تنكرت لذاتي... واعتقدت أن المجتمع المثالي هو المجتمع الذي لا مكان فيه للثقافة ولا المعرفة ولا الأعمال الأدبية».
ويصف أحد القيّمين على المكتبة الوطنية في العاصمة البوسنية سراييفو، الذي صار وزير العلم في البوسنة بعد ذلك، ما فعله الصرب بتراثهم الفكري، بإحراق مكتبتهم؛ إذ يروي أن «الهجوم استمر أقل من نصف ساعة، واستمرت النيران مشتعلة حتى اليوم التالي، وتناثر الورق المحترق في أرجاء المدينة... وكانت بقايا صفحات هشة تتساقط كأنها ندف ثلج أسود قذر».
وتستخدم المؤلفة مصطلح «الإبادة» لتوصيف تدمير الكتب والمكتبات على أيدي الأنظمة السياسية، رابطة بين «إبادة البشر» و«إبادة الكتب»، فكلاهما ينتج الآخر، مستندة لتراث البشرية في «أنسنة الكتب» ومعاملتها معاملة البشر، وبالأخص من الأطفال، مبرهنة بما يظهره البشر من «عبارات الانتحاب والرثاء أسفاً على التدمير المتعمد للكتب».
ولطالما ربط البشر بين قتل الإنسان وإتلاف تراثه أو كتبه، فكما يقول جون ميلتون، فإن «قتل كتاب أشبه بما يكون بقتل إنسان، بل إن من يقتل إنساناً يقتل مخلوقاً عاقلاً. أما من يدمر كتاباً نافعاً فهو إنما يقتل العقل نفسه». ويقول هاينريش هاينه «عندما يقدمون على حرق الكتب فسوف يؤول بهم الأمر إلى حرق البشر أنفسهم». وتبرهن ربيكا نوث على أن ما يحدث من عمليات لإبادة البشر، يسبقه أو يتبعه كوارث تدمير الكتب والمكتبات والإرث الحضاري، فـ«إبادة الكتب تشترك فعلياً في المجال النظري ذاته مع الإبادة... والأنظمة السياسية التي ترتكب الإبادات الجماعية هي ذاتها التي تدمر أيضاً الثمرة المادية لثقافة الضحايا وكتبهم ومكتباتهم».
وتسوق المؤلفة 5 نماذج للبرهنة على أن العنف الذي يمارس ضد البشر يسبقه أو يلحقه بالضرورة «عنف يمارس ضد الكتب»، وهو ما حدث في: ألمانيا النازية، والصين خلال الثورة الثقافية، والتبت، والكويت أثناء الاحتلال الصدّامي، والبوسنة أثناء الحرب الصربية.
وتبحث المؤلفة عن دوافع حروب «إبادة الكتب»، وترجعها لأسبابها الاجتماعية والثقافية والاستبدادية، فغالباً ما تنجم عمليات التدمير «عن تضافر بين بيئة اجتماعية مضطربة وزعامة تسلطية أو استبدادية وأيدلوجيات وسياسات متطرفة تخلق الظروف المتفسخة على مستوى قومي بيئة يستشري فيها العنف. في هذه البيئة يتطلع السكان المنهكون الهائمون بلا هدف إلى الزعماء الذين يعدِونهم بالخلاص عن طريق بنية سياسية اجتماعية جديدة قائمة على أفكار قادرة على تحويل وجه الحياة... وتسوغ هذه الأفكار التي قد تكون رجعية (قومية متعصبة أو إمبريالية أو عسكرية أو عنصرية أو دينية أو ثورية شيوعية)، استخدام العنف للوصول إلى غايات مثل التحقق القومي أو تحقيق عالم يوتوبي... ومع إحكام الأنظمة سيطرتها، تسعى إلى وضع المكتبات والكتب في دائرة الشك بوصفها إما مصدر إثارة للفتن أو أداة بيد العدو أو كبش فداء لأمة أو جماعة إثنية أو طبقة تحبط سياسات تلك الأنظمة، وعلى ذلك يصبح نهب الكتب ووضع اليد عليها وتدميرها تدميراً عنيفاً من الممارسات المقبولة».
وتحصر أستاذة علوم المكتبات، أسباب تدمير الكتب والمكتبات في الدوافع «القومية والآيديولوجية والدينية والعسكرية العدوانية والزعامة الفردية»، ممثلة على كل ذلك في نماذجها الخمسة التي اختارتها للتمثيل على ارتباط إبادة البشر بإبادة الأفكار. فالقومية «النازية» التي أسسها أدولف هتلر بقيادة الحزب القومي الاشتراكي، لطالما وظفت التدمير العمدي للكتب والمكتبات بوصفها واحدة من استراتيجيات الحرب، كما يرد في الدليل العسكري النازي، فإن «الحرب لا يمكن أن تشن ضد مقاتلي العدو فقط، بل يجب أن تسعى لتدمير الموارد المادية والفكرية الكاملة».
واقترفت جيوش هتلر الكثير من المآسي، فكي تكسر إرادة السكان في مدينة نابولي الإيطالية سكبت الغازولين بطريقة ممنهجة في كل غرف الجمعية الملكية في نابولي فدمر زهاء 200 ألف كتاب من أثمن كنوز التاريخ الإيطالي. وأعاد الألمان إحراق مكتبة لوفين في بلجيكا للمرة الثانية، بعدما كانوا أحرقوها في الحرب العالمية الأولى، ودمروا على مدار 6 أيام 230 ألف مجلد، «تحذيراً لأعداء ألمانيا واستعراضاً لقوتها أمام العالم».
ولتدمير الكتب بالطبع دوافع «آيديولوجية»؛ خوفاً من أن يلجأ (الفرد) إلى أفكار تقع خارج المنظومة الآيديولوجية للحكام، وينشأ هذا الخوف من الكتب التي هي في نظرهم تكون مناهضة لسياساتهم.
فالشيوعية التي نشأت على مبادئ ثقافية ثورية سرعان ما تحولت في روسيا لينين وستالين، إلى «آيديولوجية متعصبة سوّغت تدمير جميع مناهضيها من البشر والمؤسسات»، ومورست على المكتبات الروسية على الأخص بدءاً من العام 1924 حملات تطهير استهدفت مؤلفات «أفلاطون وكانط وتولستوي ودستوفيسكي وغيرهم»، وهو ما اعتبره الكتاب الروسي مكسيم غوركي عمليات «مص دماء الفكر»؛ إذ اعتبرت كروبسكايا زوجة لينين وأحد الرقباء أنه «من المرغوب فيه تطهير كتب الفلاسفة لأنها تروج لأفكار ضارة... كما أن الكتب الأخرى خبيثة ومهلكة لأنها تتحدث عن الدين أو هراء الأنظمة التقليدية أو موضوعات ولى زمنها».
وكانت للثورة الصينية الثقافية هي الأخرى عواقب وخيمة على الكتب والمكتبات، مدفوعة بأسباب آيديولوجية متطرفة، دافعة في الوقت ذاته الملايين من الشباب «الأحمر» ومن الجماهير للمشاركة في حملات إبادة ضد أي شخص يعارض سياسات ماو وأفكاره، كما نشرت صحيفة «الشعب» اليومية عام 1966. وعليه؛ انتزعت من الأرفف 4 ملايين كتاب «صنفت باعتبارها عشباً ساماً».
وجمعت الكتب التي كوَّنت، كما يروي أحد أفراد الحرس الأحمر، «جبلاً صغيراً» وأشعلوا النيران فيها و«صاحب الشعارات المهتاجة والانفعالية الدخان الكثيف المتصاعد من السماء... وشعر أفراد الحرس الأحمر بأن مجرد إحراق الكتب ليس فعلاً ثورياً بما يكفي فسيق أفراد العصابة السوداء (المعلمون) وأجبروا على الوقوف هناك خافضين رؤوسهم راكعين؛ حتى يحاكموا أمام لهيب الثورة الثقافية الكبرى».
وللزعامة الفردية، رصيدها المخزي ضمن حروب إبادة الكتب، وتسوق ربيكا نوث مثال الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في غزوه دولة الكويت؛ للتدليل على ما يمكن أن تفعله الزعامة الفردية «البعثية»، المختبئة خلف متاريس فكرية قومية وآيديولوجية ودينية، التي ارتكبت مئات الجرائم بحق المثقفين المخالفين أو المستقلين، حتى أنها في عام واحد عام 1979 «اعتقلت 200 شاعر وقاص وموسيقي ومخرج وفنان. ومات كثير منهم تحت وطأة التعذيب أو سمموا بالثاليوم وهو سم جرذان كان النظام يفضله أداة للتصفية». هذه الزعامة الفردية المجنونة بجنون العظمة التي احتلت دولة الكويت دفعت جنودها إلى ارتكاب جرائم تدمير البنى التحتية الكويتية، وكان أكثر ما استهدف المكتبات والمتاحف والمؤسسات الثقافية. «ففي جامعة الكويت، في المبنى الذي ضم كليتي القانون والآداب أقيم مركز اعتقال واستجواب... ودمر الجنود ما يقرب من مليون كتاب أطفال وكتب تعليمية... كما مارسوا تفكيك المكتبات العامة ونهبها... وفقد ما يزيد على 133 ألف مجلد... وكان الدمار الأسوأ في المكتبات الأكاديمية، فأتلف جزء كبير من مقتنيات مكتبة جامعة الكويت التي ضمت 24410 مراجع، وما يزيد على 5 ملايين مجلد وتقرير ورسالة ودورية ومواد سمعية وبصرية».


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.