سنوات السينما: Titus (1999)

Titus (1999)
شكسبير بين عالمين

هناك، من بين أساتذة الأدب ونقاده، من يعتبر أن مسرحية «تايتوس أندرونيكوس» هي أسوأ ما كتبه ويليام شكسبير في حياته. ويذهب البعض للاعتقاد بأن شكسبير ليس كاتب هذه المسرحية أصلاً. وفي العموم ينظر إليها النقاد الذين لا يرتابون أن شكسبير هو كاتبها على أنها أعنف مسرحياته، فهي تنص على حالات انتقام دموية تشمل التمثيل بالجثث والاغتصاب وقطع الأيدي لجانب حالات أخرى.
المخرجة المسرحية والسينمائية الأميركية جولي تايمور لم تضع أياً من ذلك في حسبانها عندما قامت بتحقيق هذا الفيلم الرائع. كانت قدمتها على المسرح سنة 1994 وهي سبق لها أن أخرجت للمسرح أعمالاً أخرى لشكسبير من بينها «ترويض المتمردة» و«العاصفة». لكن «تايتوس» منحها فرصة التعامل مع النص الأصلي كمناسبة للتعليق على ما يدور اليوم من عنف شديد يأخذ أشكال حروب وتفرقة عنصرية واعتداءات إرهابية مختلفة.
يفتح الفيلم على عيني صبي وراء قناع من كيس وَرَقي. ترجع الكاميرا عنه في اللحظات السابقة لفورة خيالية حادة، إذ يبدأ الصبي ببعثرة لعبه والألوان وكل ما على طاولة المطبخ حيث كان يأكل ويلعب. المزيج الصارخ مع حركة كاميرا لاهثة وموسيقى صادحة تعكس جوا موحشا منذ البداية تقطعه تايمور بنقل الصبي مباشرة إلى ساحة رومانية تعج بالجنود. إنهم من الدمى التي كان يلعب بها الصبي وقد أخذت تتحرك فإذا بها جنود تايتوس (أنطوني هوبكنز) العائدين من الحرب ضد قبائل «غوث» الشمالية. المشاة بالزي الروماني يتقدمون مدرعات ودبابات تعود إلى الثلاثينات، وهذا بمثابة إطلالة الفيلم المشبعة الأولى على ربط ينطلق من اليوم إلى الأمس والأمس البعيد في تأسيس مشهدي واحد.
والقصة من هنا تتوالى حسب الأصل: عودة القائد المظفر تايتوس الذي خسر معظم أولاده في تلك الحرب وانتقامه من الملكة بقتل أكبر أبنائها، ثم وقوفه إلى جانب الإمبراطور الروماني الشاب المنتخب الذي جر عليه المزيد من الويلات حالما تسللت الملكة (جسيكا لانغ) إلى قلب الإمبراطور فتزوج بها. لكن الملكة إنما تنفذ في أحيان كثيرة ما يخططه لها هارون، المغربي الأسمر الذي عاش عبدا لفترة طويلة وتحول إلى جندي ما زال يشعر بالظلم الدائم بسبب عنصره. إنه عشيق الملكة الخفي وهو يكشف لها ما يريد من أوراق ويحاول الإيقاع بينها وبين ولديها على أمل ضرب كل الأطراف بعضها بعضاً والفوز عليها. في هذه الأثناء تتوالى المآسي في حياة تايتوس إذ يخسر ثلاثة آخرين من أولاده ويتشرد واحد وتتعرض ابنته للاغتصاب على يدي ولدي الملكة وتقطع يديها ولسانها حتى تعجز عن الإدلاء بشهادتها.
لكن الأمور تسير في صالحه بعدما كشف اللعبة وألقي القبض على هارون الذي اعترف بما جناه ويكمل تايتوس خططه بالانتقام من الجميع في حفل عشاء يطعم فيها الملكة والإمبراطور لحم ولديهما ثم يقتلهما قبل أن ينتحر بدوره.
صور «تايتوس» تتوالى مُصممة بعناية لكي تعكس الخيال الفني لدى تايمور. كثير من اللعب الجيد بالتصاميم العامة والأزياء وحركات الكاميرا والدمج بين العصور من دون أن يهتز تأثير واحد أو يضعف الأصل المتمثل في النص الأدبي.
هذه ليست مسرحية سهلة المعالجة. لكن المخرجة لديها قدرة رائعة على تطويع الصعاب مع الحفاظ على الخصائص الأصلية دون مساس يذكر وخلق ترجمة مرئية للمادة تتميز بشجاعة الإقدام وتطويع الأماكن (تم تصوير الفيلم ما بين إيطاليا وكرواتيا). وهي لا تتوقف عن المقارنة بين زمن الأحداث الأصلي وبين الفترة الفاشية التي مرت بإيطاليا الثلاثينات.