غيبسون... مجنون لوركا

يستعد لمحاولته الرابعة والأخيرة للعثور على رفات الشاعر

غيبسون وخلفه صورة لوركا
غيبسون وخلفه صورة لوركا
TT

غيبسون... مجنون لوركا

غيبسون وخلفه صورة لوركا
غيبسون وخلفه صورة لوركا

منذ ميغيل دي ثرفانتيس، واضع «الكيخوتي»، لم يحظَ أديب أو شاعر إسباني بالاهتمام العالمي الذي حظي به فيديريكو غارثيا لوركا، الذي أعدمه الفاشيون في بداية الحرب الأهلية الإسبانية وهو ما يزال في الثامنة والثلاثين من عمره، على مقربة من كرم للزيتون في أرباض مسقط رأسه غرناطة. وليس معروفاً بدقة بعد المكان الذي أعدم فيه الشاعر، إلى جانب معلم مدرسة واثنين من مصارعي الثيران، مما حال حتى الآن دون العثور على رفاته، رغم المحاولات الكثيرة التي قامت بها السلطات الإقليمية في الأندلس.
الباحثون والمتخصصون في سيرة لوركا وإنتاجه الشعري والمسرحي والفني يعدون بالمئات في إسبانيا وشتى أنحاء العالم، لكن أحداً منهم لم يبلغ مستوى التبحر والتعمق والهوس الذي بلغه الباحث والكاتب الآيرلندي إيان غيبسون، المتخصص في الآداب الإسبانية، الذي يقيم منذ أربعة عقود في قرية مطلة على غرناطة، والذي تُعتبر مؤلفاته المرجع الأوفى عن الشاعر.
حاول غيبسون ثلاث مرات في السنوات الأخيرة، بمساعدة الاختصاصيين والسلطات المعنية، العثور على رفات لوركا، وتحديد موقع إعدامه، لكن الحظ لم يحالفه، رغم الأدلة الكثيرة التي كان قد جمعها من أحد الجنود الذين شاركوا في عملية الإعدام، وأقارب المعلم الذي أعدم إلى جانب الشاعر. وها هو اليوم يقف على أبواب الثمانين من عمره، يستعد لمحاولته الرابعة والأخيرة، متفائلاً بأنه سيعثر في النهاية على رفات الشاعر الذي كرس له معظم دراساته وأبحاثه.
يقول غيبسون إن المعلومات والأدلة التي جمعها في السنوات الثلاث الأخيرة تشير، بدرجة عالية من اليقين، إلى أن المكان الذي دُفنت فيه الجثث الأربع يقع بالقرب من نافورة المياه التي تتوسط الحديقة التي أقيمت لتخليد ذكرى لوركا وضحايا الحرب الأهلية في قرية Alfacar القريبة من غرناطة.
وتقول حفيدة المعلم الذي دُفن مع لوركا، والذي كان من أنصار الجمهوريين في الحرب الأهلية، إن المعلومات الأخيرة تبعث على التفاؤل بأن تتكلل هذه المحاولة الأخيرة بالنجاح في العثور على رفات جدها ولوركا ورفيقيهما. ويؤكد غيبسون أن المعلومات التي جمعها أخيراً من أقارب مانويل كاستيا بلانكو، الملقب بالشيوعي، الذي أشرف على مواراة الجثث الأربع في 18 أغسطس (آب) 1936، ترجح وجود الرفات بجانب النافورة.
ويعتمد غيبسون في محاولته هذه على فريق من الاختصاصيين، يضم العالم في الأنثروبولوجيا الطبيب الشرعي فرنسيسكو اتشيفريا من جامعة بلاد الباسك، الذي يعتبر مرجعاً عالمياً في البحث عن المفقودين، والصحافي الخبير في سيرة لوركا إدواردو رانز، إلى جانب الحقوقي الذي عينه الرئيس الجديد للحكومة مستشاراً خاصاً لشؤون «الذاكرة التاريخية»، ليشرف على طي ملف الحرب الأهلية.
لكن اللافت أنه بينما أعلنت الحكومة الإقليمية الأندلسية، التي يشرف عليها الحزب الاشتراكي، عزمها على توفير كل الوسائل التقنية اللازمة للبحث عن رفات الشاعر، تصر عائلة لوركا على رفضها الفكرة، كما في المحاولات السابقة. ويقول الناطق بلسان الحكومة الإقليمية إن الشاعر هو «الرمز العالمي للمفقودين (...) ولا بد أن نعثر على الموقع الذي دُفن فيه لأن ذلك سيساعد على إنجاز المصالحة التاريخية، ودمل جراح كثيرة لا تزال مفتوحة». أما ابنة شقيق الشاعر، لاورا غارثيا لوركا، فتقول: «موقف العائلة لم يتغير. فيديريكو ما زال حياً، وتراثه قد عاد أخيراً إلى مسقط رأسه في غرناطة»، في إشارة إلى أرشيف الشاعر ومحفوظاته التي نُقلت أخيراً من مقر إقامته بمدريد في بيت الطالب إلى المركز المخصص له في المدينة الأندلسية. أتحدث عبر الهاتف إلى غيبسون، الذي تربطني به علاقة تعود لسنوات، فيعترف بأنه «يتهيب اللحظة، ويشعر بشيء من القلق»، ويؤكد أنه أياً كانت النتيجة «ستكون هذه المحاولة الأخيرة»، ويكرر الدعوة إلى المشاركة في الاحتفالات التي يشرف عليها بمناسبة مرور 120 عاماً على مولد الشاعر بعنوان «Loco por Lorca» (مجنون بلوركا)، مصراً على نظريته التي طالما تجادلنا حولها، ومفادها أن «الآيرلنديين هم إسبان ضلوا الطريق».



معرض «المجهول» للتشكيلي المصري أحمد مناويشي يُسقط الأقنعة

يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)
يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)
TT

معرض «المجهول» للتشكيلي المصري أحمد مناويشي يُسقط الأقنعة

يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)
يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)

ما إنْ تدخُل معرض «المجهول» للفنان التشكيلي المصري أحمد مناويشي، حتى تستوقفك وجوه لوحاته، بريشة حرّة تستكشف ملامحَ وأحداثاً غامضة. أعماله تبحث عن مشاعر عميقة وعلامات استفهام تحضّك على التحليل وفكّ الألغاز.

ينقسم معرض مناويشي في غاليري «آرت ديستريكت» بمنطقة الجميزة البيروتية إلى قسمين، من بينها ما يروي حكايات أشخاص اختبأت مشاعرهم تحت الأقنعة الواقية من جائحة «كورونا»، وأخرى رسمها حديثاً لمَن عاشوا الحرب الأخيرة في لبنان.

مع هذا المعرض، يستعيد غاليري «آرت ديستريكت» عافيته. فالحرب منعته قسرياً من إقامة نشاطات ثقافية. ومن خلال «المجهول»، يعلن صاحبه المصوّر الشهير ماهر عطّار انطلاق الموسم الفنّي في الغاليري.

الرسام أحمد مناويشي أمام لوحات معرضه «المجهول» (الشرق الأوسط)

في الجزء الأول من مجموعة أحمد منشاوي، تصطفُّ سلسلة لوحات صغيرة، تصوِّر جميعها وجوهاً يعتريها القلق. فالفنان المصري لفتته ملامح الإنسانية في زمن «كورونا». كان يرى الإنسان يمشي مرتدياً القناع خوفاً من الإصابة بالعدوى. وهو ما حضَّه، خلال إقامته في بروكسل، على تخيّل ملامحه الأصلية. وفي 30 لوحة يئنُّ أصحابها تحت وطأة أحاسيسهم، يُترجم أفكاره. مجموعة من النساء والرجال تصرخ بصمت، فتُخرج غضبها وقلقها وحزنها عابسةً في معظم الوقت.

تقنيته المرتكزة على الأكليريك تتدخَّل فيها أحياناً أنامل الفنان بعيداً عن ريشته (الشرق الأوسط)

يوضح مناويشي لـ«الشرق الأوسط»: «بدأتِ التجربة عندما كنتُ في بروكسل عام 2021. كانت مفاعيل الجائحة لا تزال تسيطر على حياتنا. جميعنا اعتقدنا بأنّ هذه الحقبة أبدية، كأنَّ سوادها لا حدود له. فرحتُ أتخيّل الناس الذين أراهم كأنهم خلعوا أقنعة الوقاية ورسموها. جميعهم كانوا مجهولين بالنسبة إليّ، ولا تربطني بهم أي علاقة. عندما عدتُ إلى لبنان، انتابتني الأحاسيس عينها. كانت الحرب محتدمة، وكان الناس قلقين، لا يعرفون مصيرهم. فرأيتُ بوضوح المجهول الذين يتخبَّطون فيه. حالة الترقب هذه حرّضت ريشتي على التحرُّك من جديد. ومن خلال تلك الحالتين، تناولتُ موضوع (المجهول)، إنْ من ناحية المشاعر أو المصير».

الإحساس بالتأرجُح في طريق لا رؤية واضحة لنهايتها، يُترجمه أحمد مناويشي. ويعترف من خلال ريشته بأنّ الانتظار مخيف، فكيف إذا كانت الأجواء التي يعيشها الناس غامضة؟

تحمل وجوه لوحات مناويشي أسئلة مختلفة تتعلّق بقلق المصير (الشرق الأوسط)

في واحدة من لوحاته، يشير إلى شخصيات مجموعة «أنونيموس» العاملة في مجال «النضال» عبر الاختراق البرمجي. راجت أعمالها المثيرة للجدل عام 2003، فمثَّلت مفهوماً لمستخدمي الإنترنت المجهولين. حينها، عَبَروا من العالم الواقعي إلى الوهمي في أعمال تتعارض مع الرقابة. اخترقوا مواقع حكومية عدّة، وأنظمة كومبيوتر أهم شركات الحماية. وولَّدوا «بلبلة» على أصعدة مختلفة، وهم يرتدون أقنعة تُعرَف بـ«جاي فوكس».

يتابع الرسام المصري: «قناع (الأنونيموس) كان الأشهر في القرن الحالي، فرغبتُ بالربط بينه وبين عنوان معرضي، لتُولد هذه اللوحة الوحيدة عن تلك المجموعة. مبدأ هؤلاء يرتكز على الثورة ورفض حُكم الدولة العميقة والسلطات العليا».

لم يعنون مناويشي لوحاته بأسماء معيّنة، فتركها مجهولةً. يقول: «رغبتُ في أن يسمّيها ناظرها كما يشتهي. أرنو إلى هذا التفاعل المباشر بين المُشاهد واللوحة». وهو يميل إلى المدرسة التعبيرية في الفنّ التشكيلي: «أحبُّ حالة الحركة في لمسات اللوحة وموضوعها، وأرغب في التواصل معها القائم على الشعور بأنها حيّة، فلا تكون باهتة تمرّ من دون تَرْك أثرها على ناظرها. لذلك، تسير ريشتي بشكل غير مُنتظم باحثةً عن نَفَس لا ينقطع؛ ومرات تتدخَّل أناملي مباشرة، فأبتعدُ عن ريشتي لتخرُج أعمالي من رتابتها، وتكسر تلك القدرة على التحكُّم التقليدي بمشاعر مُشاهدها».

تؤلّف الألوان التي يستعملها مناويشي حالةً بذاتها. فهو جريء باختيارها زاهيةً مرّات؛ ودافئة أخرى. يُحدِث زوبعة بألوان تبدو ثائرة، فتُعبّر عن الظلم والقلق والعنف: «مشاعر الإنسانية لا يمكن حصرها في بوتقة واحدة. وهذه الألوان تعبّر عن المشهدية المدفونة في أعماقنا، فتُبرز التنوّع في أحاسيس تنتابنا وفيها كلّ الاحتمالات. وهنا يأتي دور المتلقّي الذي يرى اللوحة من وُجهة نظره، ويُلاقي ما يمثّل تفكيره ومشاعره في أحد هذه الألوان».

ينقسم «المجهول» إلى قسمين من الأعمال التعبيرية (الشرق الأوسط)

في قسم لوحات الحرب، تأخُذ أعمال الرسام أحمد مناويشي منحى آخر، فيكبُر حجمها بشكل ملحوظ لتضع تفاصيل الوجه تحت المجهر. يعلّق: «هذه المساحات الكبيرة تزوّدنا بفرصة للتوضيح بشكل أفضل. فالعبور من زمن (كورونا) إلى زمن الحرب، كان لا بدَّ أن يحمل التطوّر. واعتمدتُ هذا التغيير؛ لئلا أقع في التكرار والتشابُه».

وأنت تتجوَّل بين أقسام معرض «المجهول»، تستوقفك ملامح وجه رجل حائر، ووجه امرأة تنظر إلى الغد بعتب. وأحياناً تلمس صلابة وجه آخر على شفير هاوية. وفي أخرى، تحملك ملامح رجل تلقّى صفعات الحياة بعينين حزينتين. لكنَّ جميع الشخصيات لا تبدو مستسلمة لقدرها، كأنها تقول: «وماذا بعد؟» على طريقتها.

يبرُز العنصر الأنثوي بوضوح في مجموعة «المجهول». وهنا كان لا بدَّ للرسام التشكيلي أن يعترف: «النساء لا يعرفن إخفاء أحاسيسهن ببراعة. مشاعرهن تخرج بقوة. لذلك نكتشفها بصورة أسهل من تلك الموجودة عند الرجل. فالأخير يحاول أن يُظهر صموداً تجاه مشاعره. ويفضّل ألا تُقرأ بسهولة».

يؤكد أحمد مناويشي أنه لا يحبّ تقييد نفسه بأسلوب رسم واحد. ويختم: «أفضّل التنويع دائماً، وعدم طَبْع لوحاتي بهوية واحدة كما يحبّ بعضهم. أُشبّه نفسي بروائي يؤلّف القصص ليستمتع بها القارئ، فلا يكرّر نفسه أو يقدّم ما يتشابه. ما أنجزه اليوم في عالم فنّ (البورتريه)، لم أقاربه مِن قبل. هو نافذة للتعبير. وهذا الاختلاف في الأسلوب يُحفزّني على دخول مدارس فنّية مختلفة. ما يهمّني هو تقديمي للناس أعمالاً يستمتعون بها فتولّد عندهم حبَّ الاكتشاف».