الكتاب العرب... هل يخضعون لانتماءاتهم على حساب الموضوعية؟

تدوين الأحداث التاريخية والمعاصرة في الأعمال الأدبية

الكتاب العرب... هل يخضعون لانتماءاتهم على حساب الموضوعية؟
TT

الكتاب العرب... هل يخضعون لانتماءاتهم على حساب الموضوعية؟

الكتاب العرب... هل يخضعون لانتماءاتهم على حساب الموضوعية؟

الأعمال التي يتطرق فيها الكاتب الأدبي إلى أحداث تاريخية أو معاصرة، تضعه أمام اختبار المصداقية الصعب. في هذه اللحظات من الكتابة، تصطف أمام الكاتب «منزلقات» الانتماءات التي قد يقع في هاويتها لتبعده عن الموضوعية. فما مدى مصداقية الكاتب العربي في التطرق إلى الأحداث التي يتطرق إليها في كتابته الأدبية، كالرواية أو القصة أو حتى الشعر، وما مدى أمانته في توثيقها؟ وهل يثق القارئ بالكتابات الأدبية التي تُدون عن التاريخ أو عن أحداث جرت قريباً.
أم أنه يعتبرها منحازة لطرف دون آخر، أو فيها إخفاء لحقائق ما تتعلق بانتماءات الكاتب؟ أسئلة نستجلي إجاباتها في السطور الآتية:
الأكاديمي الأردني الدكتور فيصل الحولي يقول «ينبغي لكاتب التاريخ أن يتصف بعدة صفات، أهمها المصداقية في نقل الخبر، ولعل هناك بعض الظروف التي تحيط بالكتاب وتقف عائقاً يحول دون كتابة التاريخ الواقعي الصادق، سواء أكانت هذه الظروف أمنية سياسية أو أفكار آيدلوجية يتبناها الكاتب، أو اقتصادية يتلقي الكاتب المال من أجل تزوير الحقائق». ويضيف الدكتور الحولي: «لعل الكاتب العربي غير مدرك لأهمية كتابة أحداث عصره التي ستكون جزءاً من التاريخ، وغير مدرك لأهمية هذه الأحداث للأجيال المقبلة، فنحن نبحث عن كاتب ينقل لنا التاريخ الحقيقي كما هو، ولعل قلة من المؤرخين يكتبون التاريخ بمصداقية وأمانة. ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن ننبه إلى أن هناك مؤرخاً يكتب التاريخ فينقل الواقع كما هو، وكاتباً أديباً ينقل التاريخ بلغة أدبية قد يعمد فيها إلى لغة الرمز للتعبير عن أحداث العصر الذي يعيشه الكاتب. ولعل العلماء والدارسين لا يثقون بالنص الأدبي مصدراً ووثيقة تاريخية يمكن الاعتداد بها. وقد تلعب وسائل التكنولوجيا الحديثة اليوم دوراً في عزوف الكاتب عن كتابة التاريخ، وضياع كثير من هذا التاريخ لعدم تقييده على الورق. لذلك نأمل أن يكون لدينا كتاب يتصفون بالموضوعية والبعد عن الهوى لكتابة واقعنا المعاش بأحداثه الحقيقية، لأنها ستكون يوماً من الأيام جزءاً من التاريخ».
حماد: لماذا صدق الإنجليز سكوت؟
الدكتور جمال حماد رئيس إذاعة «صوت العرب» في القاهرة، والمتخصص باللغة العربية وآدابها، يرى أن «هناك قاعدة في علم السرد تقرر تصديق السارد فلا مانع من تصديق كاتب الأعمال التاريخية فهو يراها بعينه وذاته. سؤالٌ لماذا صدق الإنجليز وولتر سكوت في كتاباته التاريخية، ولماذا صدق الفرنسيون شاتوبريان، ولم نحن صدقنا باكثير في «الشيماء» وغيره في الأعمال الروائية التاريخية.
الأويسي: أنتم تطلبون المستحيل
الأكاديمي السوري المتخصص بالنقد الدكتور عبد المجيد ياسين الأويسي، يرى أننا في سؤالنا نطلب غير الممكن: «أنتم تطلبون المستحيل. فالحياد والموضوعية والصراحة تتطلب الحرية. فإذا فقدت تحول المجتمع إلى سادة وأرقاء، والسيد يملك السلطة والمال، والآخر يسعى لإرضاء سيده، اتقاء لشره، وكسباً لوده وعطاياه... ولا يمكن لكاتب في بلاد العرب أو «بلاد الرعب»، إن صح التعبير، أن يكون موضوعياً محايداً صريحاً، فهذا يعني الانتحار أو الموت البطيء، وكلاهما شر». ولذلك يرى الدكتور الأويسي أن «المطلوب من الكاتب العربي التخفيف من الغلواء والمبالغة في الانحياز، والتلطف بالنفاق ليكون مقبولاً ومستساغاً!».
فتيح الحداد: الحياد نسبي
أما الكاتبة الكويتية فتحية الحداد فلها رأي يختلف. تقول: «أي كاتب عربي أو غيره وأي مؤلف للتاريخ أو للدراما هو بالأصل صاحب توجه، وعليه فمسألة الحياد لن تكون إلا نسبية أو ظاهرية... والانحياز يظهر فيما استبعده الكاتب من تفاصيل. وعليه يكفي أن نقارن بين أكثر من إنتاج لنلمس سريعاً مسألة الانحياز، أو ما نسميه موضوعياً (التوجه)». أما مسألة «الثقة»، فقد أثبت الإعلام في عصرنا أن لا مكانة لها، والأفضل أن تكون هناك فضول وأسئلة، وحتى رفض حول ما نتلقاه، وإلا كان القارئ سلبياً بقبوله ما يقدم له دون نقد، فالقارئ أيضاً هو منتج للتاريخ والأحداث بما يحمله من أفكار ومعتقدات رسخها الآباء.
بيرة: قيود السلطة
الباحث الجزائري فارس بيرة يعتقد أن كتابة التاريخ تتطلب إخلاصَ معرفة ووعي. يقول: كما يقال إن التاريخ يكتبه المنتصر، فبالتأكيد هذا المنتصر خاضع لسلطة ما دينية كانت أو سياسية أو عرقية، وبالتالي نلمس في الكثير من الأحيان ذلك التحرز من الباحثين إزاء التصديق بالكتابات التاريخية، والتاريخ الذي يكتبه الكاتب العربي في أغلب أحيانه يكون أقرب إلى الإبداع منه إلى التأريخ، والكاتب للتاريخ في العالم العربي في عموم الأحيان واقع بين جدلية السّلطة بأنواعها (سياسية، دينية، عرقية، اجتماعية)، والمصلحة، فلا نكاد نراه ينفك من قيود السلطة من جهة، والمصلحة من جهة مقابلة، فحيث تكون السلطة تكون مصلحة الأديب والمفكر، وكتابة التاريخ في العالم العربي هي أقرب لإعادة صياغة التاريخ بمنظور خاص منه إلى كتابة التاريخ من باب تحري الحقيقة والتزام المصداقية، وهذا لا نراه في العالم العربي فحسب، بل هي مشكلة فكرية موجودة في العالم ككل، فكاتب التاريخ ينجر لا شعورياً لإقحام أفكاره وآيديولوجيته التي يؤمن بها، وهو في مجمل الأمر مشروع فكري وآيديولوجي يسعى إلى تمريره وفق مخطط معرفي إغرائي إمتاعي محض.
مشعان: انحراف المثقف
يرى الكاتب السوري زهير مشعان أنه «مهما بلغ المثقف من إمكانات، فهذه الإمكانات ليست مقياساً من وجهة نظري، وإنما من دور هذه الثقافة وتوجهاتها: هل كانت ذاتية أم موجهة لمصلحة المجتمع، وما تقدمه له، ومدى وعي ذلك، فكثيرون من المثقفين يخضعون لانتماءاتهم الطبقية فلا ثقافة محايدة، وقلة انسلخوا عن طبقتهم، وكثيرون انحرفوا عن دورهم والمثقف إذ ينحرف هو أخطر. أستطيع أن أورد لك أمثلة كثيرة إذا أردتم».
ميس العيسى: خصوصيات الكتاب
تتساءل الشاعرة ميس العيسى: «هل يمكن أن نمنح كل الكتّاب العرب الصفة نفسها؟ أي أن نصفهم بأنهم محايدون أو منحازون بصفتهم كتاباً عرباً فقط؟ أعتقد أن كل كاتب لديه خصوصيته المبنية على انتماءات اجتماعية وفكرية ومعتقدات دينية وعقائدية...إلخ (وأخلاقية) أيضاً، وهي التي تتحكم بمدى نزاهته في تقديم التاريخ الماضي أو الحاضر (كما يراه هو)، لأن الكاتب نفسه ومهما حاول أن يكون نزيهاً ستكون لديه وجهة نظره بما يكتب، وغايته دوماً أن يوصلها حتى وإن كانت (الحيادية)، وإن كان في هذا التعميم ظلم للكثيرين، إلا أنه صار من الصعب تصديق أي حدث تاريخي دون التشكيك في صحته بغض النظر عن انتماءات الكاتب، وبغض النظر عن كونه عربياً أو غربياً».



يوناني في الثمانينات من عمره يبدأ الدراسة بعد حياة كادحة

اليوناني فاسيليس بانايوتاروبولوس متعطشاً للمعرفة (موقع بانايوتاروبولوس)
اليوناني فاسيليس بانايوتاروبولوس متعطشاً للمعرفة (موقع بانايوتاروبولوس)
TT

يوناني في الثمانينات من عمره يبدأ الدراسة بعد حياة كادحة

اليوناني فاسيليس بانايوتاروبولوس متعطشاً للمعرفة (موقع بانايوتاروبولوس)
اليوناني فاسيليس بانايوتاروبولوس متعطشاً للمعرفة (موقع بانايوتاروبولوس)

كثيراً ما كان اليوناني فاسيليس بانايوتاروبولوس متعطشاً للمعرفة، لكنه اضطُر لترك التعليم عندما كان في الثانية عشرة من عمره لمساعدة والده في العمل بالحقل.

ويقول بانايوتاروبولوس: «كل شيء أتعلمه مثير للاهتمام، ووجودي هنا أمر ينير العقل».

وفي تمام الساعة 7:45 مساءً، رن الجرس في فصل آخر، وها هو عالَم اليونان الكلاسيكي يستدعي الرجل المتقاعد الذي وضع حقيبته المدرسية وكتبه على مكتب خشبي صغير.

وببدلته الداكنة وحذائه اللامع، لا يبدو بانايوتاروبولوس أنيقاً فحسب في الغرفة التي تزين جدرانها رسومات الجرافيتي، بل هو أيضاً أكبر طالب يحضر في المدرسة الليلية الثانية في وسط أثينا.

فعلى الأقل نصف زملائه في الصف هم في عمر أحفاده، وقد مر ما يقرب من 70 عاماً منذ آخر مرة ذهب فيها الرجل الثمانيني إلى المدرسة.

ويقول التلميذ الكبير وهو يسترجع ذكريات طفولته في إحدى قرى بيلوبونيز: «تركت المدرسة في سن الثانية عشرة لمساعدة والدي في الحقل، لكن كان لدي دائماً في عقلي وروحي رغبة في العودة، وتلك الرغبة لم تتلاشَ قط».

وعندما بلغ الثمانين، أخبر التلميذ الحالي وصاحب المطعم السابق زوجته ماريا، وهي خياطة متقاعدة، بأنه أخيراً سيحقق رغبته، فبعد ما يقرب من 5 عقود من العمل طاهياً وفي إدارة مطعم وعمل شاق وحياة شاقة في العاصمة اليونانية، دخل من بوابات المدرسة الليلية الثانية في العام الماضي.

واليوم هو مُسجَّل في صف من المفترض أن يحضره المراهقون في سن الخامسة عشرة من عمرهم، وهي الفكرة التي جعله يبتسم قبل أن يضحك بشدة ويقول: «آه، لو عاد بي الزمن للخامسة عشرة مرة أخرى، كثيراً ما كان لديَّ هذا الحلم بأن أنهل من نبع المعرفة، لكنني لم أتخيل أن يأتي اليوم الذي أعيش الحلم بالفعل».