«لا يمكنك الحكم على كتاب من خلال تجليده»... مقولة انتشرت حول العالم منذ حقبة الأربعينات من القرن الماضي، لكن هذا المكان في قلب القاهرة - الذي تأسس في نفس الزمان - أبى العمل بها، وقرر السير على النقيض، محترفا إعطاء الكتب رونقا ومظهراً أنيقاً عبر تجليدها.
في هذه المطبعة المتخصصة في تجليد الكتب، التي أسسها الأرمن في شارع «الشريفين» بمنطقة وسط القاهرة الخديوية، بدأ الصبي فؤاد خطواته الأولى مع مهنة التجليد، ليتعلم الحرفة «على أصولها»، ليصبح اليوم حاملا لقب «عم فؤاد»، أحد أقدم العاملين بهذه المهنة في مصر، التي لم تعد تجتذب إلا القليلين سواء من الحرفيين أو الجمهور، بعد أن توارت أهميتها تدريجيا وفقدت بريقها أمام التطور في مجال صناعة الكتب والطباعة.
يبدأ الرجل السبعيني يومه بالمطبعة منذ الصباح الباكر، يتأمل أولاً يافطتها العتيقة، التي تحمل كلمات «المجلد الحديث» بالعربية و«Le Modern Nelieur» بالفرنسية، كأنه يستقي منها إكسير الحياة، أو يتذكر سيرتها الأولى بما ينعش ذاكرته... ثم ما يلبث أن يفتح باب «عالمه الخاص».
تخطينا معه درجات ثلاث نزلنا بها إلى هذا العالم، تسللنا إلى مخطوطة ذكرياته المُجلدة في عقله، أزلنا من على غُلافها غبار السنوات الطويلة، لنكشف ما بداخلها من ذكريات.
يقول عم فؤاد: «تأسس المكان في فترة الأربعينات، والتحقت به كعامل في سنوات عمري الأولى، حيث تعلمت الحرفة على أيدي ملاكه من الأرمن، وعلى رأسهم الخواجة ميشيل بلدْي، فأبناء الطائفة الأرمينية كانوا رائدين في مهنة تجليد الكتب، كما تخصصوا في مصر في الطباعة والزنكوغراف والتجليد، وغيرها من المهن».
تخصصت المطبعة في تجليد المصاحف والكتب والسجلات، سواء للمصريين أو الأجانب من اليونانيين والأرمن الذين كانوا يوجدون بكثرة في منطقة وسط القاهرة، بل امتد الأمر إلى تجليد الكتب والسجلات لصالح سرايا (قصر) عابدين، مقر حكام مصر من عام 1872 حتى عام 1952. ولهذا المكان مكانة في قلب عم فؤاد، يقول: «كنت أذهب في صغري مع الخواجة ميشيل إلى السرايا حاملا الكتب التي تم تجليدها، لذا كنت أشعر دائما أنّي أقوم بعمل مهم».
في عام 1966 انتقلت ملكية المكان إلى «عم فؤاد»، ليصبح هو مالك مطبعة «المجلد الحديث»، وعن ذلك يروي: «زاول الأرمن أنشطتهم في حرية بوطننا حتى صدور قوانين التأميم، التي دفعتهم لمغادرة مصر، ومن بينهم الخواجة صاحب المطبعة، الذي قمت بشرائها منه لأصبح مالكها، وأواصل رحلتي مع تجليد الكتب».
الرحلة يخوضها الرجل بشعار «بالتجليد تحفظ ما تريد»، وهي الكلمات التي تحتل واجهة مطبعته أيضا، لتعكس فلسفته الخاصة تجاه عالم الكتب.
وبلغة الخبير يعلل الحاجة لحرفته بالقول: «التجليد يعيد الكتاب إلى الحياة مرة أخرى، فهو يحمي أوراقه من التلف والتمزق، واسترجاع حالتها، كما يجعل الكتاب جذابا وسهل الاستعمال، حيث يمكن إضافة بعض اللمسات الجمالية للتجليد عن طريق وضع بعض الرسوم أو الزخارف».
ينهمك الرجل في ترتيب بعض الكتب أمامه، ويواصل: «زمان كان فيه إقبال كبير على التجليد». ويتابع متحسراً على هذا الزمان البعيد: «العمل الآن لم يعد مثل الماضي، فهو مقتصر على تجليد المصاحف».
يشير صاحب المطبعة إلى عدد من الكتب القديمة التي اعتلت أرفف المطبعة، مستطردا: «العمل فيما مضى كان يعتمد على التجليد اليدوي، والذي يتم باستخدام الكرتون، أو باستخدام الجلود، أما بعد التقدم في تقنيات الطباعة فأصبح العمل يعتمد على ماكينات التجليد، التي تقوم بتجليد عدد كبير من الكتب، لكن هناك البعض من هواة جمع وحفظ الكتب النادرة لا يزالون يفضلون التجليد اليدوي».
من يدخل إلى عالم عم فؤاد يلحظ تناقضا على جدرانه، حيث يعلق آيات القرآن الكريم تجاورها صور السيدة العذراء، ووراء ذلك قصة، يحكيها مفتخرا: «رغم أن عملي الأساسي هو تجليد المصاحف، فإنني قمت بتجليد نسخ من الإنجيل تخص بابا أقباط مصر الراحل البابا شنودة الثالث، وقد جاء ذلك مصادفة عند مرور المساعد الخاص به علي لتجليد نسخة من الإنجيل، وعندما عرفت أنها خاصة بالبابا شنودة رفضت أخذ أي مقابل مادي نظير عملي».
يكمل: «عندما رأى البابا نسخة الإنجيل أعجب بتجليدها وسأل عمن وراءه، وأرسل لي مكافأة مالية كبيرة، وأصبح مساعده دائم التردد علي لتجليد الكتب الخاصة بالبابا والكاتدرائية».
حكايات الرجل لا تتوقف داخل المطبعة فقط؛ ففي محيطها الخارجي وجه آخر لها، فمع ساعات المساء، يتخذ عم فؤاد مقعده أمام مطبعته، ومن خلف نظارته الطبية - التي تنعكس عليها إضاءات المباني التراثية المميزة بشارع «الشريفين» - يتابع حركة المارة من حوله، مُناوشا هذا وذاك بحسه الفكاهي، أو يقص عليهم جانبا من شريط ذكرياته مع الشارع.
يفصح عم فؤاد عن جزء من هذه الذكريات قائلا: «رغم التطوير الجمالي مؤخرا فإن هذا الشارع كان حاله قديما أفضل من الآن، فقد كان يرتاده ألمع الممثلين وكبار المطربين قاصدين مقر الإذاعة القديمة، التي كانت معروفة بإذاعة ماركوني، وهو المبنى الذي يوجد على بعد خطوات من المطبعة، كما كان الشارع مقصدا للباشاوات ومشاهير السياسية والاقتصاد الذين كانوا يأتون لزيارة مبنى البورصة وفندق كوزموبوليتان الشهير ذو الطراز المعماري الفريد».
نترك صاحب المطبعة ليواصل رحلته مع ذكرياته وشارعه وفكاهته، ليودعنا ناصحاً: «لا تنسَ... بالتجليد تحفظ ما تريد».
8:18 دقيقة
«عم فؤاد»... رحلة حياة ممتدة بين جلدتي كتاب منذ الأربعينات
https://aawsat.com/home/article/1339056/%C2%AB%D8%B9%D9%85-%D9%81%D8%A4%D8%A7%D8%AF%C2%BB-%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D9%85%D9%85%D8%AA%D8%AF%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%AC%D9%84%D8%AF%D8%AA%D9%8A-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D9%85%D9%86%D8%B0-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%A8%D8%B9%D9%8A%D9%86%D8%A7%D8%AA
«عم فؤاد»... رحلة حياة ممتدة بين جلدتي كتاب منذ الأربعينات
أحد أقدم العاملين بمهنة التجليد في مصر
- القاهرة: محمد عجم
- القاهرة: محمد عجم
«عم فؤاد»... رحلة حياة ممتدة بين جلدتي كتاب منذ الأربعينات
مواضيع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة